الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما الخامس: (الذي جعل السبب الأقوى، وهو [ ص: 251 ] مخاطبتهم بالتخيل).

فهو قول الملاحدة، كما قد بسط في مواضع، إذ المقصود هنا أن ما احتج به المتكلمون النفاة على أن القرآن قد بين الحق وهدى الخلق، وأنه ليس فيه ما لا يفهم، وهو حجة عليهم، فإنه على قولهم: لا بين الحق ولا هدى الخلق، ولا سيما تأويلاتهم لم تدل عليه ألبتة، بل دل على نقيضها، كما قد بين، وبتقدير أن يقال: دل عليها بطريق التأويل، فالحق إنما عرف بالمعقول الذي ذكره، لا معقول دل عليه القرآن.

وهذا هو الذي أوجب صرف اللفظ عن مدلوله الظاهر إلى خلافه عندهم، فلم يكن في القرآن دلالة على هذا المعنى، بل دل على نقيض الحق عندهم، لكن قدمت دلالة العقل على دلالته، وأولئك الذين قالوا: إن فيه ما لا سبيل لأحد إلى فهمه، بل هم أيضا منعوا دلالته على الحق وهدايته للخلق، وزعموا أن الرسول لم يكن يعرف ما يقرؤه ويبلغه، وعلى قولهم فأحاديث الصفات التي قالها كان يقولها وهو لا يدري [ ص: 252 ] معنى ما يقول، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وعلى الوجه الخامس: (الأقوى كان يقول ذلك ليفهم منه معنى، وهو يعلم أن ذلك المعنى باطل) فقصد بالخلق أن يفهموا الباطل الذي هو نقيض الحق، وأخبر بالحقائق على خلاف ما هي عليه، وحقيقة ذلك أنه كذب كذبا يعلم أنه كذب ليعتقد الناس ذلك الكذب والاعتقاد الباطل، فينتفعوا به، وعلى قول المجهلة الذين يقولون: لم يكن يعرف معنى ما يقول، ويذكره من آيات الصفات وأحاديثها، فكلامه عندهم يجب أن لا خير من خطابهم بذلك، لأنه على التقديرين لم يفهمهم حقا، ولا خاطبهم بما يعلم به حق، ولكن إذا كان الكلام أعجميا لا يترجم لهم لم يضلوا به، كما لم يهتدوا به، وأما إذا كان عربيا وظاهره الباطل -على زعم هؤلاء- فإن الناس يفهمون ظاهره فيضلون به، فلم يكتفوا به، فهو على زعمهم من كونه هو لم يكن يفهم معناه، فبخطاب الناس به فهموا منه ما هو كفر وضلال، لا سيما ولم ينقل أحد عنه أنه نهى الناس عن اعتقاد [ ص: 253 ] ظاهره، وما دل عليه، ولا نبههم على دليل عقلي يعرفون به الحق، فعلى زعمهم لم يبين الحق لا بدليل سمعي ولا بدليل عقلي.

ولوازم أقوال هؤلاء التي تبين بطلان قولهم كثيرة، وكما أن قولهم يستلزم الكفر بالكتاب والرسول وما دل عليه من الأدلة العقلية، وما أخبر به من الأدلة السمعية، فهو أيضا في غاية الفساد والبطلان من جهة العقل، وهم أنفسهم معترفون في غير موضع بفساد أقوالهم النافية وتناقضها.

وقد ذكرنا من أقوال الرازي وغيره من ذلك ما تبين به ذلك، فهم يشهدون أن عقلياتهم التي عارضوا بها الرسول باطلة، والسلف والخلف يشهدون بأن الكلام الذي عارضوا به الكتاب والسنة باطل، وأن هؤلاء لم يعرفوا الله، وهي عند التأمل والنظر التام فيها تبيين بطلانها، وأن القوم ليس عندهم على ما قالوه من النفي لا دليل عقلي ولا سمعي، بل هم من جنس أعداء الرسل الذين قالوا: لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير [الملك: 10]. ومن جنس الذين قال فيهم: أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور [الحج: 46]. [ ص: 254 ] ومن جنس من قيل فيه: أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا [الفرقان: 44]. وبسط هذا له موضع آخر.

ولكن المقصود هنا التنبيه على أن هذه الأدلة التي احتج بها المتكلمون أدلة صحيحة، ولا ريب في صحتها، وهي تدل على فساد قولهم وقول الآخرين من وجوه كثيرة. [ ص: 255 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية