أن علم المخاطبين بالمعنى الذي أراده المتكلم أهم عندهم من العلم بلفظه، ولهذا إنما يبحثون عن ذلك وهو الذي ينقلونه عنه ويبلغونه عنه، فإن الله تعالى قد حكى عن الأمم المتقدمين من الأنبياء وأتباعهم وتكذيبهم أقوالا كثيرة، ولم ينقل لفظ أحد منهم، وإنما نقل معنى كلامه باللغة العربية وبنظم القرآن المخالف لسائر نظم الكلام، مع أن أولئك تكلموا بغير العربية، وبغير نظم القرآن، [ ص: 473 ] وهو الصادق فيما حكاه عنهم، إذ كان المقصود هو معاني ألفاظهم لا نفس الألفاظ، وكذلك الناس ينقلون مذاهب العلماء وأقوالهم بغير ألفاظهم، وهم متفقون على هذا. الوجه الثالث:
وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم إذا فهم معناه جازت روايته بالمعنى عند الجمهور، ومن منعه فإنما منعه خوفا من تقصير المبلغ في أداء المعنى الذي أراده، وأما مع العلم بالمعنى فلا ريب فيه. [ ص: 474 ]
وقد اتفق المسلمون على أن القرآن والحديث يترجم بغير لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، وغير لغته لمن احتاج إلى ترجمته ممن لا يعرف بالعربية، بل وللعربي الذي لا يعرف لغة الرسول صلى الله عليه وسلم ويبين معانيه لمن يعرف لغته، ولكن ليس هو من أهل العلم بخصائص كلامه كما قال رضي الله عنهما: ابن عباس تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه [ ص: 475 ] إلا الله تعالى. التفسير أربعة أوجه:
فعامة الأمة يعلمون معاني القرآن الظاهرة المنقولة بالتواتر من غير حاجة إلى شيء من تلك المقدمات، وهم يسألون عن معاني القرآن والحديث ليفهموها ويعرفوها وإن كانوا لا يحفظون لفظ الحديث، ولكن قد عرفوا معناه فيفتون به، ولهذا قال أحمد بن حنبل وغيرهما: "معرفة الحديث والفقه فيه أحب إلينا من حفظه" فاهتمامهم بفهم المعنى أعظم من اهتمامهم باللفظ، وإذا كان كذلك كانت معرفته ونقله أبلغ من معرفة اللفظ، وإذا كان لفظ [ ص: 476 ] القرآن وكثير من الحديث منقولا بالتواتر، فنقل المعنى أولى، ولهذا الوجه والذي قبله إذا سمعت الأمة (عوامها وخواصها) قوله تعالى: وعلي بن المديني ولله على الناس حج البيت [آل عمران: 97]. علموا أن المراد: البيت الذي بمكة، وأن الحج هو الأعمال المشروعة، وأكثرهم لا يحفظ هذه الآية.