فقلت ويحك ماذا في صحيفتكم قال الخليفة أمسى مثبتا وجعا
أي مثخنا . وقرأ النخعي ليبيتوك من البيات ، وهذا المكر هنا هو بإجماع المفسرين ما اجتمعت عليه قريش في دار الندوة ، كما أشرنا إليه ، وهذه الآية مدنية كسائر السورة ، وهو الصواب ، وعن عكرمة ومجاهد أنها مكية ، وعن ابن زيد نزلت عقيب كفاية الله رسوله المستهزئين ، ويتأول قول عكرمة ومجاهد على أنهما أشارا إلى قصة الآية إلى وقت نزولها ، وتكرر ويمكرون إخبارا باستمرار مكرهم وكثرته ، وتقدم شرح مثل باقي الآية في آل عمران .
( وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا ) قائل ذلك هو النضر بن الحارث واتبعه قائلون كثيرون ، وكان من مردة قريش ، سافر [ ص: 488 ] إلى فارس والحيرة ، وسمع من قصص الرهبان والأناجيل ، وأخبار رستم واسفنديار ، ويرى اليهود والنصارى يركعون ويسجدون ، قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم صبرا بالصفراء بالأثيل منها منصرفه من بدر ، وفي هذا التركيب جواز وقوع المضارع بعد إذا وجوابه الماضي جوازا فصيحا ، بخلاف أدوات الشرط فإنه لا يجوز ذلك فيها إلا في الشعر ، نحو :
من يكدني بشيء كنت منه
ومعنى قد سمعنا : قد سمعنا ولا نطيع ، أو قد سمعنا منك هذا ، وقولهم : لو نشاء ، أي : لو نشاء القول لقلنا مثل هذا الذي تتلوه ، وذكر على معنى المتلو ، وهذا القول منهم على سبيل البهت والمصادمة ، وليس ذلك في استطاعتهم ، فقد طولبوا بسورة منه فعجزوا ، وكان أصعب شيء إليهم الغلبة وخصوصا في باب البيان ، فقد كانوا يتمالطون ويتعارضون ويحكم بينهم في ذلك ، وكانوا أحرص الناس على قهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكيف يحيلون المعارضة على المشيئة ويتعللون بأنهم لو أرادوا لقالوا مثل هذا القول ؟ !( إن هذا إلا أساطير الأولين ) تقدم شرحه في الأنعام .
( وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) قائل ذلك النضر ; وقيل : أبو جهل ، رواه البخاري ومسلم ، وقال الجمهور : قائل ذلك كفار قريش ، والإشارة في قوله : ( إن كان هذا ) إلى القرآن ، أو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد وغيره ، أو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من بين سائر قريش ، أقوال ، وتقدم الكلام على اللهم ، وقرأ الجمهور : هو الحق ، بالنصب ، جعلوا هو فصلا ، وقرأ الأعمش بالرفع وهي جائزة في العربية ، فالجملة خبر كان وهي لغة وزيد بن علي تميم يرفعون بعد هو التي هي فصل في لغة غيرهم ، كما قال :
وكنت عليها بالملا أنت أقدر
وتقدم الكلام على الفصل وفائدته في أول البقرة ، وقال ابن عطية : ويجوز في العربية رفع ( الحق ) على أنه خبر والجملة خبر كان . قال ، ولا أعلم أحدا قرأ بهذا الجائز ، وقراءة الناس إنما هي بنصب ( الحق ) ، انتهى ، وقد ذكر من قرأ بالرفع ، وهذه الجملة الشرطية فيها مبالغة في إنكار الحق عظيمة ، أي : إن كان حقا فعاقبنا على إنكاره بإمطار الحجارة علينا أم بعذاب آخر ، قال الزجاج : ومراده نفي كونه حقا ، فإذا انتفى كونه حقا لم يستوجب منكره عذابا ، فكان تعليق العذاب بكونه حقا مع اعتقاد أنه ليس بحق كتعليقه بالمحال في قوله : إن كان الباطل حقا ، مع اعتقاده أنه ليس بحق ، وقوله : هو الحق ، تهكم بمن يقول على سبيل التخصيص والتعيين هذا هو الحق ، ويقال : أمطرت كأنجمت وأسبلت ، ومطرت كهتفت ، وكثر الأمطار في معنى العذاب ، ( فإن قلت ) : فما فائدة قوله : من السماء ، والأمطار لا تكون إلا منها ، ( قلت ) : كأنه أراد أن يقال : فأمطر علينا السجيل ، وهي الحجارة المسومة للعذاب ، موضع حجارة من السماء موضع السجيل ، كما يقال : صب عليه مسرودة من حديد يريد درعا ، انتهى ، ومعنى جوابه أن قوله : من السماء جاء على سبيل التأكيد ، كما أن قوله : من حديد معناه التأكيد ; لأن المسرودة لا تكون إلا من حديد ، [ ص: 489 ] كما أن الأمطار لا تكون إلا من السماء الزمخشريوقال ابن عطية : وقولهم من السماء مبالغة وإغراق ، انتهى . والذي يظهر لي أن حكمة قولهم من السماء هي مقابلتهم مجيء الأمطار من الجهة التي ذكر أنه يأتيه الوحي من جهتها ، أي : إنك تذكر أنه يأتيك الوحي من السماء فأتنا بعذاب من الجهة التي يأتيك منها الوحي ; إذ كان يحسن أن يعبر عن إرسال الحجارة عليهم من غير جهة السماء بقولهم : فأمطر علينا حجارة ، وقالوا ذلك على سبيل الاستبعاد والاعتقاد أن ما أتي به ليس بحق ; وقيل : على سبيل الحسد والعناد مع علمهم أنه حق ، واستبعد هذا الثاني ، قال : ولا يقول هذا على وجه العناد عاقل ، انتهى ، وكأنه لم يقرأ : ( ابن فورك وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ) وقصة وأحبار أمية بن أبي الصلت اليهود الذين قال الله تعالى فيهم : ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ) ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم لهم : ، أو كلام يقاربه ، واقتراحهم هذين النوعين هو على ما جرى عليه اقتراح الأمم السالفة ، وسأل يهودي والله إنكم لتعلمون أني رسول الله ممن أنت ، قال من ابن عباس قريش ، فقال أنت من الذين قالوا : ( إن كان هذا هو الحق من عندك ) الآية ، فهلا قالوا : فاهدنا إليه ؟ فقال : فأنت يا إسرائيلي من الذين لم تجف أرجلهم من بلل البحر الذي أغرق فيه فرعون وقومه ونجا ابن عباس موسى وقومه حتى قالوا : ( اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ) فقال لهم موسى : ( إنكم قوم تجهلون ) فأطرق اليهودي مفحما ، وعن معاوية أنه قال لرجل من سبأ : ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة ، فقال أجهل من قومي قومك قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الحق : ( إن كان هذا هو الحق ) الآية ، ولم يقولوا : فاهدنا له .
( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ) نزلت هذه إلى " يعلمون " بمكة ; وقيل : بعد وقعة بدر حكاية عما حصل فيها . وقال ابن أبزى : الجملة الأولى بمكة إثر قوله : ( بعذاب أليم ) ، والثانية عند خروجه من مكة في طريقه إلى المدينة ، وقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون ، والثالثة بعد بدر عند ظهور العذاب عليهم ، ولما علقوا إمطار الحجارة أو الإتيان بعذاب أليم على تقدير كينونة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حقا أخبر تعالى أنهم مستحقو العذاب ، لكنه لا يعذبهم وأنت فيهم إكراما له وجريا على عادته تعالى مع مكذبي أنبيائه أن لا يعذبهم وأنبياؤهم مقيمون فيهم عذابا يستأصلهم فيه ، قال : لم تعذب أمة قط ونبيها فيها ، وعليه جماعة المتأولين ، فالمعنى فما كانت لتعذب أمتك وأنت فيهم ، بل كرامتك عند ربك أعظم ، وقال تعالى ( ابن عباس وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ، ومن رحمته تعالى أن لا يعذبهم والرسول صلى الله عليه وسلم فيهم ، ولما كان الإمطار للحجارة عليهم مندرجا تحت العذاب كان النفي متسلطا على العذاب الذي إمطار الحجارة نوع منه ، فقال تعالى : ( وما كان الله ليعذبهم ) ولم يجئ التركيب : وما كان الله ليمطر أو ليأتي بعذاب ، وتقييد نفي العذاب بكينونة الرسول فيهم إعلام بأنه إذا لم يكن فيهم وفارقهم عذبهم ، ولكنه لم يعذبهم إكراما له مع كونهم بصدد من يعذب لتكذيبهم . قال ابن عطية : عن أبي زيد : سمعت من العرب من يقول : وما كان الله ليعذبهم ، بفتح اللام ، وهي لغة غير معروفة ، ولا مستعملة في القرآن ، انتهى ، وبفتح اللام في ليعذبهم قرأ أبو السمال ، وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو بالفتح في لام الأمر في قوله : فلينظر الإنسان إلى طعامه ، وروى ابن مجاهد عن أبي زيد أن من العرب من يفتح كل لام إلا في نحو : الحمد لله ، انتهى ، يعني لام الجر إذا دخلت على الظاهر ، أو على ياء المتكلم ، والظرفية في فيهم مجاز ، والمعنى : وأنت مقيم بينهم غير راحل عنهم .
( وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ) انظر إلى حسن مساق هاتين [ ص: 490 ] الجملتين لما كانت كينونته فيهم سببا ; لانتفاء تعذيبهم أكد خبر كان باللام على رأي الكوفيين ، أو جعل خبر كان الإرادة المنفية على رأي البصريين ، وانتفاء الإرادة للعذاب أبلغ من انتفاء العذاب ، ولما كان استغفارهم دون تلك الكينونة الشريفة لم يؤكد باللام ، بل جاء خبر كان قوله : معذبهم ، فشتان ما بين استغفارهم وكينونته صلى الله عليه وسلم فيهم ، والظاهر أن هذه الضمائر كلها في الجمل عائدة على الكفار ، وهو قول قتادة ، وقال ابن عباس وابن أبزى وأبو مالك والضحاك ما مقتضاه : إن الضمير في قوله : معذبهم ، عائد على كفار مكة ، والضمير في قوله : وهم ، عائد على المؤمنين الذين بقوا بعد الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة ، أي : وما كان الله ليعذب الكفار والمؤمنون بينهم يستغفرون ، قال ابن عطية : ويدفع في صدر هذا القول أن المؤمنين الذين رد الضمير إليهم لم يجر لهم ذكر ، وقال أيضا ما مقتضاه : إن الضميرين عائدان على الكفار ، وكانوا يقولون في دعائهم : غفرانك ، ويقولون : لبيك لا شريك لك ، ونحو هذا مما هو دعاء واستغفار ، فجعله الله أمنة من عذاب الدنيا ، على هذا تركب قول ابن عباس أبي موسى الأشعري : إن الله جعل من عذاب الدنيا أمنتين كون الرسول صلى الله عليه وسلم مع الناس والاستغفار ، فارتفعت الواحدة وبقي الاستغفار إلى يوم القيامة ، وقال وابن عباس وحكي عن الزجاج : وهم يستغفرون ، عائد على الكفار ، والمراد به من سبق له في علم الله أن يسلم ويستغفر ، فالمعنى : وما كان الله ليعذب الكفار ، ومنهم من يستغفر ويؤمن في ثاني حال ، وقال ابن عباس مجاهد : وهم يستغفرون ، أي : وذريتهم يستغفرون ويؤمنون فأسند إليهم إذ ذريتهم منهم ، والاستغفار طلب الغفران ، وقال الضحاك ومجاهد : معنى يستغفرون يصلون ، وقال عكرمة ومجاهد أيضا : يسلمون ، وظاهر قوله : وهم يستغفرون أنهم ملتبسون بالاستغفار ، أي : هم يستغفرون فلا يعذبون ، كما أن الرسول فيهم فلا يعذبون ، فكلا الحالين موجود كون الرسول فيهم واستغفارهم ، وقال : وهم يستغفرون في موضع الحال ، ومعناه نفي الاستغفار عنهم ، أي : ولو كانوا ممن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذبهم ، كقوله تعالى : ( الزمخشري وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ) ولكنهم لا يستغفرون ولا يؤمنون ، ولا يتوقع ذلك منهم ، انتهى ، وما قاله تقدمه إليه غيره ، فقال : المعنى وهم بحال توبة واستغفار من كفرهم أن لو وقع ذلك منهم ، واختاره ، وهو مروي عن الطبري قتادة وابن زيد .
( وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام ) الظاهر أن ما استفهامية ، أي : أي شيء لهم في انتفاء العذاب ، وهو استفهام معناه التقرير ، أي : كيف لا يعذبون وهم متصفون بهذه الحالة المقتضية للعذاب وهي صدهم المؤمنين عن المسجد الحرام وليسوا بولاة البيت ، ولا متأهلين لولايته ، ومن صدهم ما فعلوا بالرسول صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ، وإخراجه مع المؤمنين داخل في الصد ، كانوا يقولون : نحن ولاة البيت نصد من نشاء وندخل من نشاء ، وأن مصدرية ، وقال الأخفش : هي زائدة ، قال النحاس : لو كان كما قال لرفع تعذيبهم ، انتهى ، فكان يكون الفعل في موضع الحال ، كقوله : وما لنا لا نؤمن بالله ، وموضع أن نصب ، أو جر على الخلاف ; إذ حذف منه في وهي تتعلق بما تعلق به لهم ، أي : أي شيء كائن أو مستقر لهم في أن لا يعذبهم الله ، والمعنى : لا حظ لهم في انتفاء العذاب ، وإذا انتفى ذلك فهم معذبون ولا بد ، وتقدير وما يمنعهم من أن يعذبوا هو تفسير معنى لا تفسير إعراب ، وكذلك ينبغي أن يتأول كلام الطبري ابن عطية أن التقدير : وما قدرتهم ، ونحوه من الأفعال موجب أن يكون في موضع نصب ، والظاهر عود الضمير في ( أولياءه ) على المسجد لقربه وصحة المعنى ; وقيل : ما للنفي فيكون إخبارا ، أي : وليس [ ص: 491 ] لهم أن لا يعذبهم الله ، أي : ليس ينتفي العذاب عنهم مع تلبسهم بهذه الحال ; وقيل : الضمير في ( أولياءه ) عائد على الله تعالى ، وروي عن الحسن ، والظاهر أن قوله : وما كانوا أولياءه استئناف إخبار ، أي : وما استحقوا أن يكونوا ولاة أمره ( إن أولياؤه إلا المتقون ) ، أي : المتقون للشرك ، وقال : إلا المتقون من المسلمين ليس كل مسلم أيضا ممن يصلح أن يلي أمره ، إنما يستأهل ولايته من كان برا تقيا فكيف عبدة الأصنام ؟ انتهى ، ويجوز أن يكون ( الزمخشري وما كانوا أولياءه ) معطوفا على وهم يصدون ، فيكون حالا ، والمعنى : كيف لا يعذبهم الله وهم متصفون بهذين الوصفين صدهم عن المسجد الحرام وانتفاء كونهم أولياءه ، أي : أولياء المسجد ، أي : ليسوا ولاته فلا ينبغي أن يصدوا عنه ، أو أولياء الله ، فهم كفار ، فيكون قد ارتقى من حال إلى أعظم منها ، وهو كونهم ليسوا مؤمنين ، فمن كان صادا عن المسجد كافرا بالله فهو حقيق بالتعذيب ، والضمير في ( إن أولياؤه ) مترتب على ما يعود عليه في قوله : ( وما كانوا أولياءه ) ، واختلفوا في هذا التعذيب فقال قوم : هو الأول إلا أنه كان امتنع بشيئين : كون النبي فيهم واستغفار من بينهم من المؤمنين ، فلما وقع التمييز بالهجرة وقع بالباقين يوم بدر ; وقيل : بل وقع بفتح مكة ، وقال قوم : هذا التعذيب غير ذلك ، فالأول : استئصال كلهم ، فلم يقع لما علم من إسلام بعضهم وإسلام بعض ذراريهم ، والثاني : قتل بعضهم يوم بدر ، وقال : الأول عذاب الدنيا ، والثاني : عذاب الآخرة ، فالمعنى وما كان الله معذب المشركين لاستغفارهم في الدنيا وما لهم أن لا يعذبهم الله في الآخرة ، ومتعلق لا يعلمون محذوف ، تقديره : لا يعلمون أنهم ليسوا أولياءه بل يظنون أنهم أولياؤه ، والظاهر استدراك الأكثر في انتفاء العلم ; إذ كان بينهم ، وفي خلالهم من جنح إلى الإيمان ، فكان يعلم أن أولئك الصادين ليسوا أولياء البيت ، أو أولياء الله ، فكأنه قيل : ولكن أكثرهم ، أي : أكثر المقيمين بمكة لا يعلمون لتخرج منهم ابن عباس العباس وغيرهما ممن وقع له علم ، أو إذ كان فيهم من يعلمه ، وهو يعاند طلبا للرياسة ، أو أريد بالأكثر الجميع على سبيل المجاز ، فكأنه قيل : ولكنهم لا يعلمون ، كما قيل : قلما رجل يقول ذلك ، في معنى النفي المحض ، وإبقاء الأكثر على ظاهره أولى ، وكونه أريد به الجميع هو تخريج وأم الفضل الزمخشري وابن عطية .