الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه ) مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما أخبر عنهم أنهم حرموا أشياء مما رزقهم الله ، أخذ يذكر تعالى ما امتن به عليهم من الرزق الذي تصرفوا فيه بغير إذنه تعالى افتراء منهم عليه واختلافا ، فذكر [ ص: 236 ] نوعي الرزق النباتي والحيواني ، فبدأ بالنباتي كما بدأ به في الآية المشبهة لهذا ، واستطرد منه إلى الحيواني ، إذ كانوا قد حرموا أشياء من النوعين ، و ( معروشات ) اسم مفعول ، يقال : عرشت الكرم إذا جعلت له دعائم وسمكا ينعطف عليه القضبان . وهل المعروشات ما غرسه الناس وعرشوه وغيرها ما نبت في الصحاري والبراري ؟ وهو قول ابن عباس ، أو كل شجر ذي ساق كالنخل والكرم وكل ما نجم غير ذي ساق كالزرع ، أو ما يثمر وما لا يثمر ، أو الكرم قسمت إلى ما عرش فارتفع وإلى ما كان منها منبسطا على الأرض ؟ قاله ابن عباس ، أو ما حوله حائط وما لا حائط حوله وما انبسط على وجه الأرض وانتشر كالكرم والقرع والبطيخ ، وما قام على ساق كالنخل والزرع والأشجار ؟ قاله ابن عباس ، أو الكرم الذي عرش عنبه ، وسائر الشجر الذي لا يعرش ، أو ما يرتفع بعض أغصانه على بعض وما لا يحتاج إلى ذلك ، أو ما عادته أن يعرش كالكرم وما يجري مجراه وما لا يعرش كالنخل وما أشبهه ؟ تسعة أقوال ، والظاهر أن المعروش ما جعل له عرش كرما كان أو غيره ، وغير المعروش ما لم يجعل له ذلك ، ولما كانت هذه الآية واردة في معنى ذكر المنة والإحسان قدم ما حاجة العرب إليه أشد وما هو أكثر فيه ، كما قال تعالى : ( بواد غير ذي زرع ) وهو غالب قوتهم ، فقال : ( والنخل والزرع ) ، ولما كانت تلك الآية جاءت عقب إنكار الكفار التوحيد وجعلهم معه آلهة ، استطرد من ذلك إلى المعاد الأخروي ، واستدل عليه بقوله : ( وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء ) ، فاندرج فيه ( النخل والزرع ) ، كان الابتداء في التقسيم بذكر الزرع لصغر حبه ، وهو أدل على التوحيد والقدرة التامة ، وأبلغ في الاعتبار ، وأسرع في الانتفاع من ما هو فوقه في الجرم ، والظاهر دخول ( والنخل ) وما بعده في قوله : ( جنات معروشات وغير معروشات ) ، فاندرج في ( جنات ) ، وخص بالذكر وجرد تعظيما لمنفعته والامتنان به ، ومن خص الجنات بقسمها بالكرم قال : ذكر النخل وما بعده ذكر أنواع أخبر تعالى بأنه أنشأها ، واختلاف أكله وهو المأكول ، هو بأن كل نوع من أنواع النخل والزرع طعما ولونا وحجما ورائحة يخالف به النوع الآخر ، والمعنى مختلفا أكل ثمره ، وانتصب مختلفا على أنه حال مقدرة ; لأنه لم يكن وقت الإنشاء مختلفا . وقيل : هي حال مقارنة ، وذلك بتقدير حذف مضاف قبله ، تقديره : وثمر النخل وحب الزرع ، والضمير في ( أكله ) عائد على ( النخل والزرع ) ، وأفرد لدخوله في حكمه بالعطفية ، قال معناه الزمخشري ، وليس بجيد لأن العطف بالواو لا يجوز إفراد ضمير المتعاطفين . وقال الحوفي : والهاء في ( أكله ) عائدة على ما تقدم من ذكر هذه الأشياء المنشآت . انتهى . وعلى هذا لا يكون ذو الحال ( النخل والزرع ) فقط بل جميع ما أنشأ لاشتراكها كلها في اختلاف المأكول ، ولو كان كما زعم لكان التركيب : مختلفا أكلها ، إلا إن أخذ ذلك على حذف مضاف ، أي : ثمر جنات ، وروعي هذا المحذوف فقيل : ( أكله ) بالإفراد على مراعاته ، فيكون ذلك نحو قوله : ( أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج ) أو كذي ظلمات ، ولذلك أعاد الضمير في ( يغشاه ) عليه ، والظاهر عوده على أقرب مذكور وهو ( الزرع ) ، ويكون قد حذفت حال ( النخل ) لدلالة هذه الحال عليها ، التقدير : والنخل مختلفا أكله والزرع مختلفا أكله ، كما تأول بعضهم في قولهم : زيد وعمرو قائم ، أي : زيد قائم وعمرو قائم ، ويحتمل أن يكون الحال مختصة بالزرع لأن أنواعه مختلفة الشكل جدا كالقمح والشعير والذرة والقطينة والسلت والعدس والجلبان والأرز وغير ذلك ، بخلاف النخل فإن الثمر لا يختلف شكله إلا بالصغر والكبر ، وتقدم الكلام على قوله : ( والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه ) ، فأغنى عن إعادته .

( كلوا من ثمره إذا أثمر ) لما كان مجيء تلك الآية في معرض الاستدلال بها على الصانع وقدرته ، والحشر وإعادة الأرواح إلى الأجساد بعد العدم ، [ ص: 237 ] وإبراز الجسد وتكوينه من العظم الرميم ، وهو عجب الذنب ، قال : " انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه " إشارة إلى الإيجاد أولا وإلى غايته ، وهنا لما كان معرض الغاية الامتنان وإظهار الإحسان بما خلق لنا قال : ( كلوا من ثمره ) ، فحصل بمجموعهما الحياة الأبدية السرمدية والحياة الدنيوية السريعة الانقضاء ، وتقدم النظر - وهو الفكر - على الأكل لهذا السبب ، وهذا أمر بإباحة الأكل ، ويستدل به على أن الأصل في المنافع الإباحة والإطلاق ، وقيده بقوله : ( إذا أثمر ) وإن كان من المعلوم أنه إذا لم يثمر فلا أكل ، تنبيها على أنه لا ينتظر به محل إدراكه واستوائه ، بل متى أمكن الأكل منه فعل .

( وآتوا حقه يوم حصاده ) والذي يظهر عود الضمير على ما عاد عليه من ثمره ، وهو جميع ما تقدم ذكره مما يمكن أن يؤكل إذا أثمر . وقيل : يعود على ( النخل ) ; لأنه ليس في الآية ما يجب أن يؤتى حقه عند جذاذه إلا النخل . وقيل : يعود على ( والزيتون والرمان ) لأنهما أقرب مذكور . وأفرد الضمير للوجوه التي ذكرناها في قوله ( مختلفا أكله ) ، ( وآتوا ) أمر على الوجوب ، وتقدم الأمر بالأكل على الأمر بالصدقة ; لأن تقديم منفعة الإنسان بما يملكه في خاصة نفسه مترجحة على منفعة غيره ، كما قال تعالى : ( ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ) ، وابدأ بنفسك ثم بمن تعول ، إنما الصدقة عن ظهر غنى ، والحق هنا مجمل ، واختلف فيه أهو الزكاة أم غيرها ؟ فقال ابن عباس وأنس بن مالك والحسن وطاوس وجابر بن زيد وابن المسيب وقتادة ومحمد بن الحنفية وابن طاوس والضحاك وزيد بن أسلم وابنه ومالك بن أنس : هو الزكاة ، واعترض هذا القول بأن السورة مكية ، وهذه الآية على قول الجمهور غير مستثناة . وحكى الزجاج أن هذه الآية قيل فيها إنها نزلت بالمدينة . وقال محمد بن علي بن الحسين وهو الباقر ، وعطاء وحماد ومجاهد وإبراهيم وابن جبير ومحمد بن كعب والربيع بن أنس ويزيد بن الأصم والحكم : هو حق غير الزكاة . وقال مجاهد : إذا حضر المساكين فاطرح لهم عند الجذاذ وعند التكديس وعند الدرس وعند التصفية ، وعنه أيضا : كانوا يعلقون العذق عند الصرام فيأكل منه من مس . وعن إبراهيم : هو الضغث يطرحه للمساكين ، ولفظ ما يسقط منك من السنبل لا يمنعهم منه . وروي عن ابن عباس وابن الحنفية وإبراهيم والحسن وعطية العوفي والسدي : أنها منسوخة نسخها العشر ونصف العشر . قال سفيان : قلت للسدي : نسخها عن من قال عن العلماء . وقال أبو جعفر النحاس ما ملخصه هل أريد بها الزكاة ، أو نسخت بالزكاة المفروضة ، أو بالعشر ونصف العشر ، أو هي محكمة يراد بها غير الزكاة ، أو ذلك على الندب ؟ خمسة أقوال . وإذا كان معنيا به الزكاة فالظاهر إخراجه من كل ما سبق ذكره ، فيعم جميع ما أخرجته الأرض ، وبه قال أبو حنيفة وزفر ، إلا الحطب والقصب والحشيش . وقال أبو يوسف ومحمد : لا شيء فيما أخرجته الأرض إلا ما كان له ثمرة باقية . وقال مالك : الزكاة في الثمار والحبوب ، فمن الثمار العنب والزيتون ، ومن الحب القمح والشعير والسلت والذرة والدخن والحمص والعدس واللوبيا والجلبان والأرز وما أشبه ذلك إذا كان خمسة أوسق . وقال الشافعي وأبو ثور : يجب في يابس مقتات مدخر لا في زيتون لأنه إدام . وقال الثوري وابن أبي ليلى والحسن بن صالح وابن المبارك ويحيى بن آدم : لا يجب إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب . وعن أحمد أقوال ، أظهرها كمذهب أبي حنيفة إذا كان يوثق فأوجبها في اللوز لأنه مكيل ولم يوجبها في الجوز لأنه معدود . وروي عن جماعة من السلف منهم عمرو بن دينار : لا صدقة في الخضر . وعن ابن عباس : كان يأخذ من دساتيج الكراث العشر بالبصرة . وعن إبراهيم : في كل ما أخرجت الأرض حتى في كل عشر دساتيج من بقل واحد . وقال الزهري والحسن : يزكى اثنان الخضر والفواكه إذا أينعت [ ص: 238 ] وبلغ ثمنها مائتي درهم ، وقاله الأوزاعي في ثمن الفواكه . وأما مقدار ما يجب فيه الزكاة ، فقال أبو حنيفة : في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره . وقال مالك والليث وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد والشافعي : لا يخرج حتى يبلغ خمسة أوسق إذا كان مكيلا ، فإن كان غير مكيل ، فعن أبي يوسف ومحمد اختلاف فيما يعتبر ، وذكروا هنا فروعا ، قالوا : لا زكاة عند أصحاب مالك في الجوز واللوز والحلوز وما أشبهها وإن كان مدخرا ، كما لا زكاة عندهم في الإجاص والتفاح والكمثرى والمشمش ونحوه مما ييبس ولا يدخر ، وعد مالك التين في الفواكه . وقال ابن حبيب : فيه الزكاة ، وإليه ذهب جماعة من أتباع مالك ، إسماعيل بن إسحاق وأبو بكر الأبهري وغيرهم . وقال مالك : لا زكاة في الزيتون . وقال هو والشافعي : ولا في الرمان . وقال الزهري والأوزاعي والثوري والليث : تجب الزكاة في الزيتون . وعن مالك : لا يخرص الزيتون ولكن يؤخذ العشر من زيته إذا بلغ مكيله خمسة أوسق . وأبو حنيفة في هذه كلها على أصله . وما خصصوه به من عموم الآية يحتاج إلى دليل ، والأدلة مذكورة في كتب الفقهاء . والظاهر أن ( يوم حصاده ) معمول لقوله ( وآتوا ) ، والمعنى : واقصدوا الإيتاء واهتموا به وقت الحصاد فلا يؤخر عن وقت إمكان الإيتاء فيه . ويجوز أن يكون معمولا لقوله : ( حقه ) ، أي : ( وآتوا ) ما استحق ( يوم حصاده ) ، فيكون الاستحقاق بإيتاء يوم الحصاد والأداء بعد التصفية ; ولذلك قال بعضهم : في الكلام محذوف ، تقديره : وآتوا حقه يوم حصاده إلى تصفيته ، قال : فيكون الحصاد سببا للوجوب الموسع ، والتصفية سبب للأداء ، والظاهر وجوب إخراج الحق منه كله ، ما أكل صاحبه وأهله منه وما تركوه ، وبه قال أبو حنيفة ومالك . وقال جماعة : لا يدخل ما أكل هو وأهله منه في الحق ، والظاهر أنه أمر بأن يؤتى حقه يوم حصاده ، فلا يخرص عليه . قال النخعي : الخرص اليوم بدعة . وقال الثوري : الخرص غير مستعمل ولا يجوز بحال ، وإنما على رب الحائط أن يؤدي عشر ما يصل في يده للمساكين إذا بلغ خمسة أوسق . وقرأ العربيان وعاصم : " حصاده " بفتح الحاء . وقرأ باقي السبعة بكسرها .

( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) لما أمر تعالى بالأكل من ثماره وبإيتاء حقه ، نهى عن مجاوزة الحد ، فقال : ( لا تسرفوا ) ، وهذا النهي يتضمن إفراد الإسراف فيدخل فيه الإسراف في أكل الثمرة حتى لا يبقى منها شيء للزكاة ، والإسراف في الصدقة بها حتى لا يبقي لنفسه ولا لعياله شيئا ، وقيده أبو العالية وابن جريج بالصدقة بجميع المال ، فيبقى هو وعياله كلا على الناس . وقال ابن جريج أيضا : هو نهي في الأكل ، فيأكل حتى لا يبقى ما تجب فيه . وقال الزهري : هو نهي عن النفقة في المعصية . وقيل : في صرف الصدقة إلى غير الجهة التي افترضت ، كما صرف المشركون إلى جهة أصنامهم . وقيل : نهي للعاملين على الصدقة عن أخذ الزائد . وروي عن ابن عباس أن ثابت بن قيس بن شماس جذ خمسمائة نخلة وقسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئا ، فنزلت ( ولا تسرفوا ) ، أي : لا تعطوا كله . وعن ابن جريج جذ معاذ بن جبل ، فلم يزل يتصدق حتى لم يبق منها شيء ، فنزلت ( لا تسرفوا ) . وقال أبو العالية : كانوا يعطون شيئا عند الجذاذ فتماروا فيه فأسرفوا ، فنزلت . وقال مجاهد : لو كان أبو قبيس لرجل ذهبا فأنفقه في طاعة الله لم يكن مسرفا ، ولو أنفق درهما واحدا في معصية الله كان مسرفا . وقال إياس بن معاوية : كل ما جاوزت فيه أمر الله فهو سرف .

التالي السابق


الخدمات العلمية