الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ) هذا تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، . وإن عادة الأمم مع رسلهم التكذيب والمبالغة في قسوة القلوب ، حتى هم إذا أخذوا بالبلايا لا يتذللون لله ، ولا يسألونه كشفها ، وهؤلاء الأمم الذين بعث الله تعالى إليهم الرسل ، أبلغ انحرافا ، وأشد شكيمة ، وأجلد من الذين بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إذ خاطبهم تعالى بقوله : ( قل أرأيتكم ) الآية . وأخبر أنهم عند الأزمات لا يدعون [ ص: 130 ] لكشفها ، إلا الله تعالى . وفي الكلام حذف ، التقدير : ولقد أرسلنا الرسل إلى أمم من قبلك فكذبوا فأخذناهم وتقدم تفسير البأساء والضراء . والترجي هنا بالنسبة إلى البشر; أي لو رأى أحد ما حل بهم ، لرجا تضرعهم وابتهالهم إلى الله في كشفه ، والأخذ : الإمساك بقوة وبطش وقهر ، وهو هنا مجاز عن متابعة العقوبة والملازمة ، والمعنى لعاقبناهم في الدنيا .

( فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ) ( لولا ) هنا حرف تحضيض ، يليها الفعل ظاهرا ، أو مضمرا ، أو يفصل بينهما بمعمول الفعل من مفعول به وظرف كهذه الآية فصل بين ( لولا ) ، و ( تضرعوا ) بإذ ، وهي معمولة لتضرعوا ، والتحضيض يدل على أنه لم يقع تضرعهم حين جاء البأس ، فمعناه إظهار معاتبة مذنب غائب ، وإظهار سوء فعله; ليتحسر عليه المخاطب ، وإسناد المجيء إلى البأس ، مجاز عن وصوله إليهم ، والمراد أوائل البأس وعلاماته .

( ولكن قست قلوبهم ) أي صلبت وصبرت على ملاقاة العذاب; لما أراد الله من كفرهم ، ووقوع ( لكن ) هنا حسن; لأن المعنى انتفاء التذلل عند مجيء البأس ، ووجود القسوة الدالة على العتو والتعزز ، فوقعت ( لكن ) بين ضدين ، وهما اللين والقسوة ، وكذا إن كانت القسوة عبارة عن الكفر ، فعبر بالسبب عن المسبب ، والضراعة عبارة عن الإيمان ، فعبر بالسبب عن المسبب ، كانت أيضا واقعة بين ضدين ، تقول : قسا قلبه فكفر ، وآمن فتضرع .

( وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ) يحتمل أن تكون الجملة داخلة تحت الاستدراك ، ويحتمل أن تكون استئناف إخبار . والظاهر الأول ، فيكون الحامل على ترك التضرع قسوة قلوبهم ، وإعجابهم بأعمالهم التي كان الشيطان سببا في تحسينها لهم .

( فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ) أي فلما تركوا الاتعاظ والازدجار بما ذكروا به من البأس ، استدرجناهم بتيسير مطالبهم الدنيوية ، وعبر عن ذلك بقوله : ( فتحنا عليهم أبواب كل شيء ) ، إذ يقتضي شمول الخيرات ، وبلوغ الطلبات .

( حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة ) معنى هذه الجمل ، معنى قوله : ( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ) . وفي الحديث الصحيح عن عقبة بن عامر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : " إذا رأيتم الله تعالى يعطي العباد ما يشاءون على معاصيهم ، فإنما ذلك استدراج منه لهم ، ثم تلا ( فلما نسوا ما ذكروا به ) الآية . والأبواب استعارة عن الأسباب التي هيأها الله لهم ، المقتضية لبسط الرزق عليهم ، والإبهام في هذا العموم; لتهويل ما فتح عليهم وتعظيمه ، وغيا الفتح بفرحهم بما أوتوا ، وترتب على فرحهم أخذهم بغتة; أي إهلاكهم فجأة ، وهو أشد الإهلاك ، إذ لم يتقدم شعور به ، فتتوطن النفس على لقائه ، ابتلاهم أولا بالبأساء والضراء ، فلم يتعظوا ، ثم نقلهم إلى ما أوجب سرورهم من إسباغ النعم عليهم ، فلم يجد ذلك [ ص: 131 ] عندهم ولا قصدوا الشكر ولا أصغوا إلى إنابة بل لم يحصلوا إلا على فرح بما أسبغ عليهم . قال محمد بن النضر الحارثي : أمهل هؤلاء القوم عشرين سنة .

( فإذا هم مبلسون ) أي باهتون بائسون لا يحيرون جوابا . وقرأ ابن عامر ( فتحنا ) بتشديد التاء ، والتشديد لتكثير الفعل ، " وإذا " هي الفجائية وهي حرف على مذهب الكوفيين وظرف مكان ، ونسب إلى سيبويه ، وظرف زمان وهو مذهب الرياشي ، والعامل فيها - إذا قلنا بظرفيتها - هو خبر المبتدأ أي ففي ذلك المكان هم مبلسون ، أي مكان إقامتهم وذلك الزمان هم مبلسون ، وأصل الإبلاس الإطراق لحلول نقمة أو زوال نعمة . قال الحسن : مكتئبون . وقال السدي : هالكون . وقال ابن كيسان وقطرب : خاشعون . وقال ابن عباس : متحيرون . وقال الزجاج : متحسرون . وقال ابن جرير : الساكت عند انقطاع الحجة .

( فقطع دابر القوم الذين ظلموا ) عبارة عن استئصالهم بالهلاك ، والمعنى : فقطع دابرهم ، ونبه على سبب الاستئصال بذكر الوصف الذي هو الظلم ، وهو هنا الكفر ، والدابر : التابع للشيء من خلفه ، يقال : دبر الوالد الولد يدبره ، وفلان دبر القوم دبورا ودبرا : إذا كان آخرهم . وقال أمية بن أبي الصلت :


فاستؤصلوا بعذاب خص دابرهم فما استطاعوا له صرفا ولا انتصروا



قال أبو عبيدة : دابر القوم آخرهم الذي يدبرهم . وقال الأصمعي : الدابر : الأصل ، يقال : قطع الله دابره أي أذهب أصله ، وقرأ عكرمة : ( فقطع دابر ) بفتح القاف والطاء والراء ، أي فقطع الله ، وهو التفات إذ فيه الخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب .

( والحمد لله رب العالمين ) قال الزمخشري : إيذان بوجوب الحمد لله عند هلاك الظلمة وأنه من أجل النعم وأجزل القسم . انتهى . والذي يظهر أنه تعالى لما أرسل الرسل إلى هؤلاء الأمم كذبوهم وآذوهم فابتلاهم الله تارة بالبلاء ، وتارة بالرخاء فلم يؤمنوا فأهلكهم واستراح الرسل من شرهم وتكذيبهم ، وصار ذلك نعمة في حق الرسل إذ أنجز الله وعده على لسانهم بهلاك المكذبين فناسب هذا الفعل كله الختم بالحمد له .

التالي السابق


الخدمات العلمية