الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) لما نفى عنهم أن يكونوا ولاة البيت ذكر من فعلهم القبيح ما يؤكد ذلك ، وأن من كانت صلاته ما ذكر لا يستأهل أن يكونوا أولياءه ، فالمعنى - والله أعلم - أن الذي يقوم مقام صلاتهم هو المكاء والتصدية ، وضعوا مكان الصلاة والتقرب إلى الله التصفير والتصفيق ، كانوا يطوفون عراة ، رجالهم ونساؤهم ، مشبكين بين أصابعهم يصفرون ويصفقون ، يفعلون ذلك إذا قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم يخلطون عليه في صلاته ، ونظير هذا المعنى قولهم : كانت عقوبتك عزلتك ، أي : القائم مقام العقوبة هو العزل . وقال الشاعر :


وما كنت أخشى أن يكون عطاؤه أداهم سودا أو مدحرجة سمرا



أقام مقام العطاء القيود والسياط ، كما أقاموا مقام الصلاة المكاء والتصدية ، وقال ابن عباس : كان ذلك عبادة في ظنهم ، قال ابن عطية : لما نفى تعالى ولايتهم للبيت أمكن أن يعترض معترض بأن يقول : كيف لا نكون أولياءه ونحن نسكنه ونصلي عنده فقطع الله هذا الاعتراض ، وما كان صلاتهم إلا المكاء والتصدية ، كما يقول الرجل : أنا أفعل الخير ، فيقال له : ما فعلك الخير إلا أن تشرب الخمر وتقتل ، أي : هذه عادتك وغايتك ، قال : والذي مر بي من أمر العرب في غير ما ديوان أن المكاء والتصدية كانا من فعل العرب قديما قبل الإسلام على جهة التقرب والتشرع ، وروي عن بعض أقوياء العرب أنه [ ص: 492 ] كان يمكو على الصفا فيسمع من جبل حراء وبينهما أربعة أميال ، وعلى هذا يستقيم تعييرهم وتنقيصهم بأن شرعهم وصلاتهم وعبادتهم لم تكن رهبة ولا رغبة ، إنما كانت مكاء وتصدية من نوع اللعب ، ولكنهم كانوا يتزيدون فيها وقت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ليشغلوه وأمته عن القراءة والصلاة ، قال ابن عمر ومجاهد والسدي : والمكاء : الصفير ، والتصدية : التصفيق ، وعن مجاهد أيضا : المكاء إدخالهم أصابعهم في أفواههم ، والتصدية الصفير ، والصفير بالفم ، وقد يكون بالأصابع والكف في الفم ، قاله مجاهد وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وقد يشارك الأنف ، يريدون أن يشغلوا بذلك الرسول عن الصلاة ، وقال ابن جبير وابن زيد : التصدية صدهم عن البيت ، وقال ابن بحر : إن صلاتهم ودعاءهم غير رادين عليهم ثوابا إلا كما يجيب الصدى الصائح ، فتلخص في معنى الآية ثلاثة أقوال : أحدها : ما ظاهره أن الكفار كانت لهم صلاة وتعبد ، وذلك هو المكاء والتصدية ، والثاني : أنه كانت لهم صلاة ولا جدوى لها ولا ثواب ، فجعلت كأنها أصوات الصدا حيث لها حقيقة ، والثالث : أنه لا صلاة لهم لكنهم أقاموا مقامها المكاء والتصدية ، وقال بعض شيوخنا : أكثر أهل العلم على أن الصلاة هنا هي الطواف ، وقد سماه الرسول صلى الله عليه وسلم صلاة ، وقرأ أبان بن تغلب وعاصم والأعمش بخلاف عنهما ( صلاتهم ) بالنصب ( إلا مكاء وتصدية ) بالرفع ، وخطأ قوم منهم أبو علي الفارسي هذه القراءة لجعل المعرفة خبرا والنكرة اسما ، قالوا : ولا يجوز ذلك إلا في ضرورة ، كقوله :


يكون مزاجها عسل وماء

وخرجها أبو الفتح على أن المكاء والتصدية اسم جنس ، واسم الجنس تعريفه وتنكيره واحد ، انتهى ، وهو نظير قول من جعل نسلخ صفة لليل في قوله : ( وآية لهم الليل نسلخ منه النهار ) ويسبني صفة للئيم في قوله :


ولقد أمر على اللئيم يسبني

وقرأ أبو عمرو فيما روي عنه : إلا مكا ، بالقصر منونا ، فمن مد فكالثغاء والرغاء ، ومن قصر فكالبكا في لغة من قصر ، والعذاب في قوله : فذوقوا العذاب ، قيل هو في الآخرة ; وقيل : هو قتلهم وأخذ غنائمهم ببدر وأسرهم ، قال ابن عطية : فيلزم أن تكون هذه الآية الأخيرة نزلت بعد بدر ولا بد ، والأشبه أن الكل بعد بدر حكاية عن ماض ، وكون عذابهم بالقتل يوم بدر هو قول الحسن والضحاك وابن جريج .

( إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون ) قال مقاتل والكلبي : نزلت في المطعمين يوم بدر ، وكانوا اثني عشر رجلا : أبو جهل بن هشام وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ونبيه ومنبه ابنا حجاج وأبو البحتري بن هشام والنضر بن الحارث وحكيم بن حزام وأبي بن خلف وزمعة بن الأسود والحارث بن عامر بن نوفل والعباس بن عبد المطلب ، وكلهم من قريش ، وكان يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزائر ، وقال مجاهد والسدي وابن جبير وابن أبزى : نزلت في أبي سفيان بن حرب استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش يقاتل بهم النبي صلى الله عليه وسلم سوى من استجاش من العرب ، وفيهم يقول كعب بن مالك :


فجئنا إلى موج من البحر وسطه     أحابيش منهم حاسر ومقنع
ثلاثة آلاف ونحن بقية     ثلاث مئين إن كثرنا وأربع



وقال الحكم بن عيينة : أنفق على الأحابيش وغيرهم أربعين أوقية من ذهب ، وقال الضحاك وغيره : نزلت في نفقة المشركين الخارجين إلى بدر كانوا ينحرون يوما عشرا من الإبل ويوما تسعا ، وهذا نحو من القول الأول ، وقال ابن إسحاق عن رجاله : لما رجع فل قريش إلى مكة من بدر ، ورجع أبو سفيان بعيره كلم أبناء من أصيب ببدر وغيرهم أبا سفيان ، وتجار العير في الإعانة بالمال الذي سلم لعلنا ندرك [ ص: 493 ] ثأرا لمن أصيب ، ففعلوا فنزلت ، وروي نحوه عن ابن شهاب ومحمد بن يحيى بن حيان ، وعاصم بن عمرو بن قتادة ، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر من شرح أحوالهم في الطاعات البدنية - وهي صلاتهم - شرح حالهم في الطاعات المالية - وهي إنفاقهم أموالهم للصد عن سبيل الله - والظاهر الإخبار عن الكفار بأن إنفاقهم ليس في سبيل الله ، بل سببه الصد عن سبيل الله فيندرج هؤلاء الذين ذكروا في هذا العموم ، وقد يكون اللفظ عاما والسبب خاصا ، والمعنى : أن الكفار يقصدون بنفقتهم الصد عن سبيل الله وغلبة المؤمنين ، فلا يقع إلا عكس ما قصدوا ، وهو تندمهم وتحسرهم على ذهاب أموالهم ، ثم غلبتهم والتمكن منهم أسرا وقتلا وغنما ، والعطف بثم يقوي أن الحسرة في الدنيا ; وقيل : الحسرة في الآخرة ، وفي الآخرة فسينفقونها إلى آخره من الإخبار بالغيوب ; لأنه أخبر بما يكون قبل كونه ، ثم كان كما أخبر ، والإخبار بسين الاستقبال يدل على إنفاق متأخر عن وقعة أحد وبدر ، وأن ذلك إخبار عن علو الإسلام وغلبة أهله ، وكذا وقع فتحوا البلاد ودوخوا العباد وملأ الإسلام معظم أقطار الأرض واتسعت هذه الملة اتساعا لم يكن لشيء من الملل السابقة .

التالي السابق


الخدمات العلمية