الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون ) فالذي آمنتم به هو من حيث المعنى بما أرسل به لكنه من حيث اللفظ أعم قصدوا الرد لما جعله المؤمنون معلوما وأخذوه مسلما .

( فعقروا الناقة ) نسب العقر إلى الجميع وإن كان صادرا عن بعضهم لما كان عقرها عن تمالئ واتفاق حتى روي أن قدارا لم يعقرها إلا عن مشاورة الرجال والنساء والصبيان فأجمعوا على ذلك ، وسبب عقرها أنها كانت إذا وقع الحر نصبت بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم فتهبط إلى بطنه ، وإذا وقع البرد تلبث ببطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره ، فشق ذلك عليهم ، وكانت تستوفي ماءهم شربا ، ويحلبونها ما شاء الله حتى ملوها وقالوا : ما نصنع باللبن ، الماء أحب إلينا منه ، وقال لهم صالح يوما إن هذا الشهر يولد فيه مولود ، يكون هلاككم على يديه ، فولد لعشرة نفر فذبح التسعة أولادهم ، وبقي العاشر وهو سالف بن قدار ، وكان قدار أحمر أزرق قصيرا ، ولذلك قال بعض شعراء الجاهلية :


فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم



قال الشراح : غلط وإنما هو أحمر ثمود ، وهو قدار وكان يشب في اليوم شباب غيره في السنة ، وكان التسعة إذا رأوه قالوا : لو عاش بنونا كانوا مثل هذا فأحفظهم أن قتلوا أولادهم بكلام صالح فأجمعوا على قتله فكمنوا له في غار ليبيتوه ، ويأتي خبر التبييت وما جرى لهم في سورة النمل إن شاء الله ، وروي أن السبب في عقرها أن امرأتين من ثمود من أعداء صالح ، وهما عنيزة بنت غنم أم مجلز زوجة دؤاب بن عمرو ، وتكنى أم غنم ، عجوز ذات بنات حسان ومال من إبل وبقر وغنم ، وصدوف بنت المحيا جميلة غنية ذات مواش كثيرة فدعت عنيزة على عقرها قدارا على أن تعطيه أي بناتها شاء ، وكان عزيزا منيعا في قومه ودعت صدوف رجلا من ثمود يقال له الحباب إلى ذلك وعرضت نفسها عليه إن فعل ، فأبى فدعت ابن عم لها يقال له مصدع بن مهرج بن المحيا لذلك وجعلت له نفسها فأجاب قدار ومصدع واستغويا سبعة نفر ، فكانوا تسعة رهط فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء وكمن قدار في أصل صخرة ، ومصدع في أصل أخرى فمرت على مصدع فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها وخرجت أم غنم عنيزة بابنتها وكانت من أحسن النساء فسفرت لقدار ، ثم مرت الناقة به فشد عليها بالسيف فكشف عرقوبها فخرت ورغت رغاة واحدة فطعن في لبتها ونحرها وخرج أهل البلدة فاقتسموا لحمها وطبخوه ، وذكروا لسقبها حكاية الله أعلم بصحتها ، وقيل : سبب عقرها أن قدارا شرب الخمر وطلبوا ماء لمزجها فلم يجدوه لشرب الناقة فعزموا على عقرها ، وكمن لها فرماها بالحربة ، ثم سقطت فعقرها ، وقال بعض شعراء العرب ، وقد ذكر قصة الناقة :


فأتاها أحيمر كأخي السهم     بعضب فقال كوني عقيرا



[ ص: 331 ] ( وعتوا عن أمر ربهم ) ، أي : استكبروا عن امتثال أمر ربهم وهو ما أمر به تعالى على لسان صالح من قوله : ( فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء ) ومن اتباع أمر الله وهو دينه وشرعه ويجوز أن يكون المعنى صدر عتوهم عن أمر ربهم ، كأن أمر ربهم بتركها كان هو السبب في عتوهم ونحو عن هذه ما في قوله : ( وما فعلته عن أمري ) .

( وقالوا ياصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين ) ، أي من العذاب ؛ لأنه كان سبق منه ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم فاستعجلوا ما وعدهم به من ذلك إذ كانوا مكذبين له في الإخبار بذلك الوعيد وبغيره ، ولذلك علقوه بما هم به كافرون وهو كونه من المرسلين ، وقرأ ورش والأعمش ( يا صالح ائتنا ) ، وأبو عمرو إذا أدرج بإبدال همزة فاء ( ائتنا ) واوا لضمة حاء صالح ، وقرأ باقي السبعة بإسكانها ، وفي كتاب ابن عطية قال أبو حاتم : قرأ عيسى ، وعاصم : " أوتنا " بهمز وإشباع ضم . انتهى . فلعله عاصم الجحدري لا عاصم بن أبي النجود أحد قراء السبعة .

( فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ) روي : أن السقب لما عقروا الناقة رغا ثلاثا فقال صالح : لكل رغوة أجل يوم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام فقالوا هازئين به متى ذلك وما آية ذلك فقال تصبحون غداة مؤنس مصفرة وجوهكم وغداة العروبة محمريها ويوم شيار مسوديها ، ثم يصبحكم العذاب يوم أول يوم وهو يوم الأحد فرام التسعة عاقرو الناقة قتله وبيتوه فدمغتهم الملائكة بالحجارة ، فقالوا له أنت قتلتهم وهموا بقتله فحمته عشيرته ، وقالوا : وعدكم أن العذاب نازل بكم بعد ثلاث فإن صدق لم تزيدوا ربكم عليكم إلا غضبا وإن كذب فأنتم من وراء ما تريدون ، فأصبحوا يوم الخميس مصفري الوجوه كأنها طليت بالخلوق ، فطلبوه ليقتلوه فهرب إلى بطن من ثمود يقال له بنو غنم فنزل على سيدهم أبي هدب لقيل ، وهو مشرك فغيبه ولم يقدروا عليه فعذبوا أصحاب صالح فقال منهم مبدع بن هدم : يا نبي الله عذبونا لندلهم عليك أفندلهم . قال : نعم . فدلهم عليه فأتوا أبا هدب فقال لهم : عندي صالح ولا سبيل لكم عليه فأعرضوا عنه وشغلهم ما نزل بهم فأصبحوا في الثاني محمري الوجوه كأنها خضبت بالدم ، وفي الثالث مسوديها كأنها طليت بالقار ، وليلة الأحد خرج صالح ومن أسلم معه إلى أن نزل رملة فلسطين من الشام فأصبحوا متكفنين متحنطين ملقين أنفسهم بالأرض ، يقلبون أبصارهم لا يدرون من أين يأتيهم العذاب فلما اشتد الضحى أخذتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء له صوت في الأرض فقطعت قلوبهم وهلكوا كلهم إلا امرأة مقعدة كافرة اسمها دريعة بنت سلف عندما عاينت العذاب خرجت أسرع ما يرى حتى أتت وادي القرى فأخبرت بما أصاب ثمود واستسقت فشربت وماتت ، وقيل : خرج صالح ومن معه من قومه وهم أربعة آلاف إلى حضرموت فلما دخلوها مات صالح فسمي المكان حضرموت ، وقيل : مات بمكة ابن ثمان وخمسين سنة وأقام في قومه عشرين سنة .

قال مجاهد ، والسدي : ( الرجفة ) الصيحة ، وقال أبو مسلم : الزلزلة الشديدة ، قال الزمخشري : ( جاثمين ) هامدين لا يتحركون موتى يقال : الناس جثوم ، أي : قعود لا حراك بهم ولا ينسبون بنسبة ومنه المجثمة التي جاء النهي عنها وهي البهيمة تربط وتجمع قوائمها لترمى . انتهى . وقيل : معناه حمما محترقين كالرماد الجاثم ذهب هذا القائل إلى أن الصيحة اقترن بها صواعق محرقة ، قال الكرماني : حيث ذكر الرجفة وهي الزلزلة وحد الدار وحيث ذكر الصيحة جمع ؛ لأن الصيحة كانت من السماء فبلوغها أكثر وأبلغ من الزلزلة فاتصل كل واحد منهما بما هو لائق به ، وقيل : في دارهم ، أي : في بلدهم كنى بالدار عن البلد ، وقيل : وحد والمراد به الجنس ، والفاء في ( فأخذتهم ) للتعقيب فيمكن العطف بها على قولهم ( فأتنا بما تعدنا ) على تقدير قرب زمان الهلاك من زمان طلب الإتيان بالوعد ولقرب ذلك [ ص: 332 ] كان العطف بالفاء ويمكن أن يقدر ما يصح العطف بالفاء عليه ، أي : فوعدهم العذاب بعد ثلاث فانقضت ( فأخذتهم الرجفة ) ولا منافاة بين ( فأخذتهم الرجفة ) وبين ( فأخذتهم الصيحة ) وبين ( فأهلكوا بالطاغية ) كما ظن قوم من الملاحدة ؛ لأن الرجفة ناشئة عن الصيحة صيح بهم فرجفوا فناسب أن يسند الأخذ لكل واحد منهما ، وأما فأهلكوا بالطاغية ، فالباء فيه للسببية ، أي : أهلكوا بالفعلة الطاغية ، وهي الكفر ، أو عقر الناقة والطاغية من طغى إذا تجاوز الحد وغلب ومنه تسمية الملك والعاتي بالطاغية ، وقوله : ( إنا لما طغى الماء ) وقال تعالى : ( كذبت ثمود بطغواها ) ، أي : بسبب طغيانها حصل تكذيبهم ويمكن أن يراد بالطاغية الرجفة ، أو الصيحة لتجاوز كل منهما الحد .

( فتولى عنهم وقال ياقوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين ) ظاهر العطف بالفاء أن هذا التولي كان بعد هلاكهم ومشاهدة ما جرى عليهم فيكون الخطاب على سبيل التفجع عليهم والتحسر لكونهم لم يؤمنوا فهلكوا ، والاغتمام لهم وليسمع ذلك من كان معه من المسلمين فيزدادوا إيمانا وانتفاء عن معصية الله واقتضاء لما جاء به نبيه عن الله ويكون معنى قوله ( ولكن لا تحبون الناصحين ) ولكن كنتم لا تحبون الناصحين فتكون حكاية حال ماضية ، وقد خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل قليب بدر . وروي : أنه خرج في مائة وعشرين من المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الدخان فعلم أنهم قد هلكوا وكانوا ألفا وخمسمائة دار ، وروي أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم ، وقيل : كان توليه عنهم وقت عقر الناقة ، وقولهم ( ائتنا بما تعدنا ) وذلك قبل نزول العذاب وهو الذي يقتضيه ظاهر مخاطبته لهم وقوله : ( ولكن لا تحبون الناصحين ) وهو الذي في قصصهم من أنه رحل عنهم ليلة أن أخذتهم الرجفة صبحتها ، وبعد ظهور أمارات الهلاك التي وعد بها قال الطبري : وقيل لم تهلك أمة ونبيها فيها ، وروي أنه ارتحل بمن معه حتى جاء مكة فأقام بها حتى مات ولفظة التولي تقتضي اليأس من خيرهم واليقين في هلاكهم ، وخطابه هذا كخطابهم نوح وهود عليهما السلام في قولهما ( أبلغكم رسالات ربي ) وذكر النصح بعد ذلك لكنه لما كان قوله : ( أبلغتكم ) ماضيا عطف عليه ماضيا فقال : ( ونصحت ) ، وقوله : ( لا تحبون الناصحين ) ، أي : من نصح لكم من رسول ، أو غيره ، أي : ديدنكم ذلك لغلبة شهواتكم على عقولكم . وجاء لفظ ( الناصحين ) عاما ، أي : أي شخص نصح لكم لم تقبلوا في أي شيء نصح لكم وذلك مبالغة في ذمهم .

وروي عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من مائها ولا يستقوا منها فقالوا : يا رسول الله قد طبخنا وعجنا ، فأمرهم أن يطرحوا ذلك الطبيخ والعجين ويهريقوا ذلك الماء وأمرهم أن يستقوا من الماء الذي كانت ترده ناقة صالح وإلى الأخذ بهذا الحديث أخذ أبو محمد بن حزم في ذهابه إلى أنه لا يجوز الوضوء بماء أرض ثمود إلا إن كان من العين التي كانت تردها الناقة ، وعن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما مر بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه : لا يدخل أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم وفي الحديث : أنه مر بقبر ، فقال : أتعرفون ما هذا ؟ قالوا : لا ، قال : هذا قبر أبي رغال - الذي هو أبو ثقيف - كان من ثمود فأصاب قومه البلاء ، وهو بالحرم فسلم ، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصابهم ، فدفن هنا وجعل معه غصن من ذهب قال : فابتدر القوم بأسيافهم فحفروا حتى أخرجوا الغصن .

التالي السابق


الخدمات العلمية