الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين ) قال قوم : هذا التكرير للتأكيد ، وقال ابن عطية : هذا التكرير لمعنى ليس للأول ، أو الأول دأب في أن هلكوا لما كفروا ، وهذا الثاني دأب في أن لم يغير نعمتهم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، انتهى ، وقال قوم : كرر لوجوه منها : أن الثاني جرى مجرى التفصيل للأول ; لأن في ذلك ذكر إجرامهم ، وفي هذا ذكر إغراقهم ، وأريد بالأول ما نزل بهم من العقوبة حال الموت ، وبالثاني ما نزل بهم من العذاب في الآخرة ، وفي الأول بآيات الله إشارة إلى إنكار دلائل الإلهية ، وفي الثاني بآيات ربهم إشارة إلى إنكار نعم من رباهم ودلائل تربيته وإحسانه على [ ص: 508 ] كثرتها وتواليها ، وفي الأول اللازم منه الأخذ ، وفي الثاني اللازم منه الهلاك والإغراق ، وقال الزمخشري : في قوله تعالى : بآيات ربهم زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق ، وفي ذكر الإغراق بيان للأخذ بالذنوب ، وقال الكرماني : يحتمل أن يكون الضمير في الآية الأولى في كفروا عائدا على قريش ، وفي الأخيرة في كذبوا عائد على آل فرعون والذين من قبلهم ، انتهى ; وقيل : فأهلكناهم هم الذين أهلكوا يوم بدر ، فيلزم من هذا القول أن يكون كذبوا عائدا على كفار قريش ، وقال التبريزي : فأهلكناهم : قوم نوح بالطوفان ، وعادا بالريح ، وثمودا بالصيحة ، وقوم لوط بالخسف ، وفرعون وآله بالغرق ، وقوم شعيب بالظلة ، وقوم داود بالمسخ ، وأهلك قريشا وغيرها بعضهم بالفزع ، وبعضهم بالسيف ، وبعضهم بالعدسة كأبي لهب ، وبعضهم بالغدة كعامر بن الطفيل ، وبعضهم بالصاعقة كأويد بن قيس ، انتهى ، فيظهر من هذا الكلام أن الضمير في كذبوا وأهلكناهم عائد على المشبه والمشبه به في كدأب ; إذ عم الضمير القبيلتين ، وإنما خص آل فرعون بالذكر ، وذكر الذي أهلكوا به ، وهو إغراقهم ; لأنه انضم إلى كفرهم دعوى الإلهية والربوبية لغير الله تعالى ، فكان ذلك أشنع الكفر وأفظعه ، ومراعاة لفظ ( كل ) إذا حذف ما أضيف إليه ومعناه جائزة ، واختير هنا مراعاة المعنى لأجل الفواصل ; إذ لو كان التركيب : وكل كان ظالما ، لم يقع فاصلة ، وقال الزمخشري : وكلهم من غرقى القبط وقتلى قريش كانوا ظالمين أنفسهم بالكفر والمعاصي ، انتهى ، ولا يظهر تخصيص الزمخشري كلا بغرقى القبط وقتلى قريش ; إذ الضمير في كذبوا وفي فأهلكناهم لا يختص بهما ، فالذي يظهر عموم المشبه به وهم آل فرعون والذين من قبلهم ، أو عموم المشبه والمشبه بهم .

( إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون ) نزلت في بني قريظة ، منهم كعب بن الأشرف وأصحابه عاهدهم الرسول أن لا يمالئوا عليه فنكثوا بأن أعانوا مشركي مكة بالسلاح وقالوا : نسينا وأخطأنا ، ثم عاهدهم فنكثوا ، مالئوا معهم يوم الخندق ، وانطلق كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم . قال البغوي : من روى أنه كعب بن الأشرف أخطأ ووهم ، بل يحتمل أنه كعب بن أسد فإنه كان سيد قريظة ; وقيل : هم بنو قريظة والنضير ; وقيل : نفر من قريش من عبد الدار ، حكاه التبريزي في تفسيره ، ( فهم لا يؤمنون ) إخبار منه تعالى أنهم لا يؤمنون فلا يمكن أن يقع منهم إيمان ، قال ابن عباس شر الناس الكفار ، وشر الكفار المصرون منهم ، وشر المصرين الناكثون للعهود ، فأخبر تعالى أنهم جامعون لأنواع الشر ، الذين عاهدت بدل من الذين كفروا ، قاله الحوفي والزمخشري ، وأجاز أبو البقاء أن يكون خبر المبتدأ محذوفا ، وضمير الموصول محذوف ، أي : عاهدتهم منهم ، أي : من الذين كفروا ، قال ابن عطية : يحتمل أن يكون ( شر الدواب ) بثلاثة أوصاف : الكفر ، والموافاة عليه ، والمعاهدة مع النقض ، والذين على هذا بدل بعض من كل ، ويحتمل أن يكون الذين عاهدت فرقة أو طائفة ، ثم أخذ يصف حال المعاهدين بقوله : ثم ينقضون عهدهم في كل مرة ، انتهى ، فعلى هذا الاحتمال يكون الذين مبتدأ ويكون الخبر قوله : ( فإما تثقفنهم ) ، ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى اسم الشرط ، فكأنه قيل من يعاهد منهم ، أي : من الكفار ، فإن تظفر بهم فاصنع كذا ، أو من للتبعيض ; لأن المعاهدين بعض الكفار ، وهي في موضع الحال ، أي : كائنين منهم ; وقيل : بمعنى مع ; وقيل : الكلام محمول على المعنى ، أي : أخذت منهم العهد ، فتكون من على هذا التقدير : لابتداء الغاية ; وقيل : من زائدة ، أي : عاهدتهم ، وهذه الأقوال الثلاثة ضعيفة ، وأتى ثم ينقضون بالمضارع تنبيها على أن من شأنهم نقض العهد مرة بعد مرة ، تقديره : وهم [ ص: 509 ] لا يتقون لا يخافون عاقبة العدو ، ولا يبالون بما في نقض العهد من العار واستحقاق النار .

التالي السابق


الخدمات العلمية