الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ) . قرأ ابن عامر وحمزة وحفص ( ولا نكذب ونكون ) بالنصب فيهما ، وهذا النصب عند جمهور البصريين ، هو بإضمار ( أن ) بعد الواو ، فهو ينسبك من ( أن ) المضمرة ، والفعل بعدها مصدر مرفوع معطوف على مصدر متوهم مقدر من الجملة السابقة ، والتقدير : يا ليتنا يكون لنا رد وانتفاء تكذيب ، وكون من المؤمنين . وكثيرا ما يوجد في كتب النحو أن هذه الواو المنصوب بعدها ، هو على جواب التمني ، كما قال الزمخشري : ( ولا نكذب ونكون ) بالنصب بإضمار ( أن ) على جواب التمني ، ومعناه إن رددنا لم نكذب ، ونكن من المؤمنين ) انتهى . وليس كما ذكر ، فإن نصب الفعل بعد الواو ليس على جهة الجواب; لأن الواو لا تقع في جواب الشرط ، فلا ينعقد مما قبلها ، ولا مما بعدها شرط وجواب ، وإنما هي واو الجمع يعطف ما بعدها على المصدر المتوهم قبلها ، وهي واو العطف يتعين مع النصب أحد محاملها الثلاثة ، وهي المعية ، ويميزها من الفاء تقدير شرط قبلها ، أو حال مكانها . وشبهة من قال : إنها جواب ، أنها تنصب في المواضع التي تنصب فيها الفاء ، فتوهم أنها جواب . [ ص: 102 ] وقال سيبويه : والواو تنصب ما بعدها من حيث انتصب ما بعد الفاء والواو ، ومعناها ، ومعنى الفاء مختلفان ، ألا ترى ، لا تنه عن خلق ، وتأتي مثله . لو أدخلت الفاء هنا لأفسدت المعنى ، وإنما أراد لا يجتمع النهي والإتيان ، وتقول : لا تأكل السمك ، وتشرب اللبن ، لو أدخلت الفاء فسد المعنى انتهى كلام سيبويه ملخصا وبلفظه . ويوضح لك أنها ليست بجواب انفراد الفاء دونها بأنها إذا حذفت انجزم الفعل بعدها بما قبلها; لما فيه من معنى الشرط ، إلا إذا نصبت بعد النفي ، وسقطت الفاء ، فلا ينجزم ، وإذا تقرر هذا ، فالأفعال الثلاثة من حيث المعنى متمناة على سبيل الجمع بينها ، لا أن كل واحد متمنى وحده ، إذ التقدير كما قلنا يا ليتنا يكون لنا رد مع انتفاء التكذيب ، وكون من المؤمنين . قال ابن عطية : وقرأ ابن عامر في رواية هشام بن عمار عن أصحابه عن ابن عامر ( ولا نكذب ) بالرفع ( ونكون ) بالنصب ويتوجه ذلك على ما تقدم انتهى . وكان قد قدم أن رفع ( ولا نكذب ونكون ) في قراءة باقي السبعة على وجهين : أحدهما; العطف على ( نرد ) فيكونان داخلين في التمني ، والثاني; الاستئناف والقطع ، فهذان الوجهان يسوغان في رفع ( ولا نكذب ) على هذه القراءة ، وفي مصحف عبد الله ، فلا نكذب بالفاء ، وفي قراءة أبي ( فلا نكذب بآيات ربنا أبدا ونكون ) . وحكى أبو عمرو أن في قراءة أبي ونحن ( نكون من المؤمنين ) وجوزوا في رفع ( ولا نكذب ونكون ) أن يكون في موضع نصب على الحال ، فتلخص في الرفع ثلاثة أوجه .

أحدها : أن يكون معطوفا على ( نرد ) فيكون انتفاء التكذيب والكون من المؤمنين داخلين في التمني; أي وليتنا لا نكذب ، وليتنا نكون من المؤمنين ، ويكون هذا الرفع مساويا في هذا الوجه للنصب; لأن في كليهما العطف ، وإن اختلفت جهتاه ففي النصب على مصدر من الرد متوهم ، وفي الرفع على نفس الفعل ، فإن قلت : التمني إنشاء ، والإنشاء لا يدخله الصدق والكذب ، فكيف جاء قوله : ( وإنهم لكاذبون ) إخبارا من الله أن سجية هؤلاء الكفار هي الكذب ، فيكون ذلك حكاية وإخبارا عن حالهم في الدنيا ، لا تعلق به بمتعلق التمني . والوجه الثاني : أن هذا التمني قد تضمن معنى الخبر والعدة ، فإذا كانت سجية الإنسان شيئا ، ثم تمنى ما يخالف السجية ، وما هو بعيد أن يقع منها ، صح أن يكذب على تجوز ، نحو ليت الله يرزقني مالا فأحسن إليك وأكافئك على صنيعك ، فهذا متمن في معنى الواعد والمخبر ، فإذا رزقه الله مالا ، ولم يحسن إلى صاحبه ، ولم يكافئه ، كذب وكان تمنيه في حكم من قال : إن رزقني الله مالا كافأتك على إحسانك ، ونحو قول رجل شرير بعيد من أفعال الطاعات : ليتني أحج ، وأجاهد ، وأقوم الليل ، فيجوز أن يقال لهذا على تجوز كذبت; أي أنت لا تصلح لفعل الخير ، ولا يصلح لك . والثاني من وجوه الرفع; أن يكون رفع ( ولا نكذب ونكون ) على الاستئناف ، فأخبروا عن أنفسهم بهذا ، فيكون مندرجا تحت القول أي قالوا : يا ليتنا نرد وقالوا : نحن لا نكذب بآيات ربنا ، ونكون من المؤمنين ، فأخبروا أنهم يصدر عنهم ذلك على كل حال . فيصح على هذا تكذيبهم في هذا الإخبار . ورجح سيبويه هذا الوجه ، وشبهه بقوله : دعني ولا أعود بمعنى وأنا لا أعود تركتني أو لم تتركني . والثالث من وجوه الرفع : أن يكون ( ولا نكذب ونكون ) في موضع نصب على الحال ، التقدير يا ليتنا نرد غير مكذبين ، وكائنين من المؤمنين ، فيكون داخلا قيدا في الرد المتمنى ، وصاحب الحال هو الضمير المستكن في ( نرد ) . ويجاب عن قوله : ( وإنهم لكاذبون ) بالوجهين اللذين ذكرا في إعراب ( ولا نكذب ونكون ) إذا كانا معطوفين على نرد . وحكي أن بعض القراء قرأ ( ولا نكذب ) بالنصب ( ونكون ) بالرفع ، فالنصب عطف على مصدر متوهم ، والرفع في ( ونكون ) عطف [ ص: 103 ] على ( نرد ) ، أو على الاستئناف; أي ونحن نكون ، وتضعف فيه الحال; لأنه مضارع مثبت ، فلا يكون حالا بالواو ، إلا على تأويل مبتدأ محذوف ، نحو : نجوت وأرهنهم مالكا ، وأنا أرهنهم مالكا . والظاهر أنهم تمنوا الرد من الآخرة إلى الدنيا . وحكى الطبري تأويلا في الرد ، وهو أنهم تمنوا أن يردوا من عذاب النار إلى الوقوف على النار التي وقفوا عليها ، فالمعنى : يا ليتنا نوقف هذا الوقوف غير مكذبين بآيات ربنا ، كائنين من المؤمنين . قال : ويضعف هذا التأويل من غير وجه يبطله ، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ، ولا يصح أيضا التكذيب في هذا التمني; لأنه تمني ما قد مضى ، وإنما يصح التكذيب الذي ذكرناه ، قبل هذا على تجوز في تمني المستقبلات انتهى . وأورد بعضهم هنا سؤالا ، فقال : فإن قيل : كيف يتمنون الرد مع علمهم بتعذر حصوله ، وأجاب بقوله : قلنا لعلهم لم يعلموا أن الرد لا يحصل ، والثاني : أن العلم بعدم الرد ، لا يمنع من الإرادة ، كقوله : ( يريدون أن يخرجوا من النار ) ( أن أفيضوا علينا من الماء ) انتهى . ولا يرد هذا السؤال; لأن التمني يكون في الممكن والممتنع ، بخلاف الترجي فإنه لا يكون إلا في الممكن ، فورد التمني هنا على الممتنع ، وهو أحد قسمي ما يكون التمني له في لسان العرب ، والأصح أن ( يا ) في قوله : ( يا ليت ) حرف تنبيه ، لا حرف نداء ، والمنادى محذوف لأن في هذا حذف جملة النداء ، وحذف متعلقه رأسا ، وذلك إجحاف كثير .

التالي السابق


الخدمات العلمية