الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) قال الكلبي لما لبس المسلمون الثياب وطافوا بالبيت عيرهم المشركون بذلك وقالوا استحلوا الحرم فنزلت ، وتقدم تفسير ( الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) في أواخر الأنعام ، وزيد هنا أقوال ، أحدها : ( ما ظهر منها ) طواف الرجل بالنهار عريانا ( وما بطن ) طوافها بالليل عارية . قاله التبريزي ، وقال مجاهد : ( ما ظهر ) طواف الجاهلية عراة ( وما بطن ) الزنا ، وقيل : ( ما ظهر ) الظلم ( وما بطن ) السرقة ، وقال ابن عباس ، ومجاهد في رواية : ( ما ظهر ) ما كانت تفعله الجاهلية من نكاح الأبناء نساء الآباء ، والجمع بين الأختين ، وأن ينكح المرأة على عمتها وخالتها ( وما بطن ) الزنا ( والإثم ) عام يشمل الأقوال والأفعال التي يترتب عليها الإثم ، هذا قول الجمهور ، وقيل : هو صغار الذنوب ، وقيل : الخمر ، وهذا قول لا يصح هنا ؛ لأن السورة مكية ، ولم تحرم الخمر إلا بالمدينة بعد أحد ، وجماعة من الصحابة اصطحبوها يوم أحد وماتوا شهداء ، وهي في أجوافهم ، وأما تسمية الخمر إثما ، فقيل هو من قول الشاعر :


شربت الإثم حتى زل عقلي

وهو بيت مصنوع مختلق وإن صح فهو على حذف مضاف ، أي : موجب الإثم ، ولا يدل قول ابن عباس ، والحسن ( الإثم ) الخمر على أنه من أسمائها إذ يكون ذلك من إطلاق المسبب على السبب ، وأنكر أبو العباس أن يكون الإثم من أسماء الخمر وقال الفضل : الإثم الخمر ، وأنشد :


نهانا رسول الله أن نقرب الخنا     وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا



وأنشد الأصمعي أيضا :


ورحت حزينا ذاهل العقل بعدهم     كأني شربت الإثم أو مسني خبل



قال : وقد تسمى الخمر إثما ، وأنشد :


شربت الإثم حتى زل عقلي

وقال ابن عباس : والفراء : البغي الاستطالة ، وقال الحسن : السكر من كل شراب ، وقال ثعلب : تكلم الرجل في الرجل بغير الحق إلا أن ينتصر منه بحق ، وقيل : الظلم والكبر . قاله الزمخشري ، وقال وأفردوه بالذكر كما قال تعالى : ( وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ) . وقال ابن عطية : ( البغي ) التعدي وتجاوز الحد مبتدئا كان ، أو منتصرا ، وقوله : ( بغير الحق ) زيادة بيان وليس يتصور بغي بحق ؛ لأن ما كان بحق لا يسمى بغيا ، وتقدم تفسير ( ما لم ينزل به سلطانا ) في الأنعام ، وقال الزمخشري فيه تهكم ؛ لأنه لا يجوز أن ينزل برهانا بأن يشرك به غيره ما لا تعلمون من تحريم البحائر وغيرها ، وقال ابن عباس : أراد بذلك أن الملائكة بنات الله ، وقيل : قولهم أنه حرم عليهم مآكل وملابس ومشارب في الإحرام من قبل أنفسهم .

( ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) هذا وعيد لأهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عند الله كما نزل بالأمم ، أي : أجل مؤقت لمجيء العذاب إذا خالفوا أمر ربهم ، فأنتم أيتها الأمة كذلك ، [ ص: 293 ] وقيل : الأجل هنا أجل الدنيا ، التقدير للأمم كلها أجل ، أي : يقدمون فيه على ما قدموا من عمل ، وقيل : الأجل مدة العمر ، والتقدير : ولكل واحد من الأمة عمر ينتهي إليه بقاؤه في الدنيا ، وإذا مات علم ما كان عليه من حق ، أو باطل ، وقال ابن عطية : أي فرقة وجماعة ، وهي لفظة تستعمل في الكثير من الناس ، وقال غيره : والأمة الجماعة قلوا ، أو كثروا ، وقد يطلق على الواحد كقوله في قس بن ساعدة : يبعث يوم القيامة أمة وحده ، وأفرد الأجل ؛ لأنه اسم جنس ، أو لتقارب أعمال أهل كل عصر ، أو لكون التقدير : لكل واحد من أمة ، وقرأ الحسن ، وابن سيرين : فإذا جاء آجالهم ، بالجمع ، وقال : ساعة ؛ لأنها أقل الأوقات في استعمال الناس ، يقول المستعجل لصاحبه في ساعة يريد في أقصر وقت وأقربه . قاله الزمخشري ، وقال ابن عطية : لفظ عني به الجزء القليل من الزمان ، والمراد جمع أجزائه . انتهى . والمضارع المنفي بلا إذا وقع في الظاهر جوابا لإذا يجوز أن يتلقى بفاء الجزاء ، ويجوز أن لا يتلقى بها وينبغي أن يعتقد أن بين الفاء والفعل مبتدأ محذوفا ، وتكون الجملة إذ ذاك اسمية ، والجملة الاسمية إذا وقعت جوابا لإذا فلا بد فيها من الفاء ، أو إذا الفجائية ، قال بعضهم : ودخلت الفاء على إذا حيث وقع إلا في يونس ؛ لأنها عطفت جملة على جملة بينهما اتصال وتعقيب فكان الموضع موضع الفاء ، وما في يونس يأتي في موضعه إن شاء الله . انتهى . وقال الحوفي : ( ولا يستقدمون ) معطوف على ( لا يستأخرون ) . انتهى . وهذا لا يمكن ؛ لأن إذا شرطية ، فالذي يترتب عليها إنما هو مستقبل ولا يترتب على مجيء الأجل في المستقبل إلا مستقبل ، وذلك يتصور في انتفاء الاستئخار لا في انتفاء الاستقدام ؛ لأن الاستقدام سابق على مجيء الأجل في الاستقبال ، فيصير نظير قولك إذا قمت في المستقبل لم يتقدم قيامك في الماضي ، ومعلوم أنه إذا قام في المستقبل لم يتقدم قيامه هذا في الماضي ، وهذا شبيه بقول زهير :


بدا لي أني لست مدرك ما مضى     ولا سابقا شيئا إذا كان جائيا



ومعلوم أن الشيء إذا كان جائيا إليه لا يسبقه ، والذي تخرج عليه الآية أن قوله : ( ولا يستقدمون ) منقطع من الجواب على سبيل استئناف إخبار ، أي : لا يستقدمون الأجل ، أي : لا يسبقونه ، وصار معنى الآية أنهم لا يسبقون الأجل ولا يتأخرون عنه .

( يابني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) . هذا الخطاب لبني آدم . قيل : هو في الأول ، وقيل : هو مراعى به وقت الإنزال ، وجاء بصورة الاستقبال لتقوى الإشارة بصحة النبوة إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وما في إما تأكيد ، قال ابن عطية : وإذا لم يكن ما لم يجز دخول النون الثقيلة . انتهى . وبعض النحويين يجيز ذلك وجواب الشرط ( فمن اتقى ) فيحتمل أن تكون من شرطية ، وجوابه ( فلا خوف ) وتكون هذه الجملة الشرطية مستقلة بجواب الشرط الأول من جهة اللفظ ، ويحتمل أن تكون من موصولة ، فتكون هذه الجملة والتي بعدها من قوله : ( والذين كذبوا ) مجموعهما هو جواب الشرط ، وكأنه قصد بالكلام التقسيم وجعل القسمان جوابا للشرط ، أي : ( إما يأتينكم ) فالمتقون لا خوف عليهم والمكذبون أصحاب النار فثمرة إتيان الرسل وفائدته هذا ، وتضمن قوله : ( فمن اتقى وأصلح ) سبق الإيمان ، إذ التقوى والإصلاح هما ناشئان عنه وجاء في قسمه ( والذين كذبوا ) والتكذيب هو بدو الشقاوة إذ لا ينشأ عنه إلا الانهماك والإفساد وقال ، بل الإصلاح بالاستكبار ؛ لأن إصلاح العمل من نتيجة التقوى ، والاستكبار من نتيجة التكذيب ، وهو التعاظم فلم يكونوا ليتبعوا الرسل فيما جاءوا به ولا يقتدوا بما أمروا به ؛ لأن من كذب بالشيء نأى بنفسه عن اتباعه ، وقال ابن عطية : هاتان حالتان تعم جميع من [ ص: 294 ] يصد عن رسالة الرسول إما أن يكذب بحسب اعتقاده أنه كذب ، وإما أن يستكبر فيكذب ، وإن كان غير مصمم في اعتقاده على التكذيب ، وهذا نحو : الكفر عناد . انتهى . وتضمنت الجملتان حذف رابط ، وتقديره : فمن اتقى وأصلح منكم ، والذين كذبوا منكم ، وتقدم تفسير ( فلا خوف ) و ( أولئك أصحاب النار ) الجملتان ، وقرأ أبي ، والأعرج إما تأتينكم بالتاء على تأنيث الجماعة و ( يقصون ) محمول على المعنى إذ ذاك إذ لو حمل على اللفظ لكان تقص .

( فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) لما ذكر المكذبين ذكر أسوأ حالا منهم ، وهو من يفتري الكذب على الله وذكر أيضا من كذب بآياته ، قال ابن عباس ، وابن جبير ، ومجاهد : ما كتب لهم من السعادة والشقاوة ، ولا يناسب هذا التفسير الجملة التي بعد هذا ، وقال الحسن : ما كتب لهم من العذاب ، وقال الربيع ومحمد بن كعب ، وابن زيد : ما سبق لهم في أم الكتاب ، وقال ابن عباس أيضا ، ومجاهد أيضا ، وقتادة : ما كتب الحفظة في صحائف الناس من الخير والشر ، فيقال : هذا نصيبهم من ذلك وهو الكفر والمعاصي ، وقال الحكم ، وأبو صالح ما كتب لهم من الأرزاق والأعمار والخير والشر في الدنيا . وقال الضحاك : ما كتب لهم من الثواب والعقاب ، وقال ابن عباس أيضا ، والضحاك أيضا ، ومجاهد ما كتب لهم من الكفر والمعاصي ، وقال الحسن أيضا : ما كتب لهم من الضلالة والهدى ، وقال ابن عباس أيضا : ما كتب لهم من الأعمال . وقال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك : من الكتاب يراد به من القرآن وحظهم فيه سواد وجوههم يوم القيامة ، وقيل : ما أوجب من حفظ عهودهم إذا أعطوا الجزية . وقال الحسن ، والسدي ، وأبو صالح : من المقرر في اللوح المحفوظ ، وقد تقرر في الشرع أن حظهم فيه العذاب والسخط ، والذي يظهر أن الذي كتب لهم في الدنيا من رزق وأجل ، وغيرهما ينالهم فيها ، ولذلك جاءت التغيية بعد هذا بـ حتى ، وإلى هذا المعنى نحا الزمخشري قال : أي ما كتب لهم من الأرزاق والأعمال .

( حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) . تقدم الكلام على ( حتى إذا ) في أوائل الأنعام ، ووقع في التحرير ( حتى ) هنا ليس بغاية ، بل هي ابتداء وجر ، والجملة بعدها في موضع جر ، وهذا وهم ، بل معناهاهنا الغاية والخلاف فيها إذا كانت حرف ابتداء أهي حرف جر ، والجملة بعدها في موضع جر وتتعلق بما قبلها كما تتعلق حروف الجر ، أم ليست حرف جر ولا تتعلق بما قبلها تعلق حروف الجر من حيث المعنى لا من حيث الإعراب ؟ قولان : الأول لابن درستويه ، والزجاج ، والثاني للجمهور . وإذا كانت حرف ابتداء ، فهي للغاية ألا تراها في قول الشاعر :


سريت بهم حتى تكل مطيهم     وحتى الجياد ما يقدن بأرسان



وقول الآخر :


فما زالت القتلى تمج دماءها     بدجلة حتى ماء دجلة أشكل





تفيد الغاية ؛ لأن المعنى أنه مد همهم في السير إلى كلال المطي والجياد ومجت الدماء إلى تغيير ماء دجلة . قال الزمخشري : وهي حتى التي يبتدأ بعدها الكلام . انتهى . وقال الحوفي : وحتى غاية متعلقة بينالهم ، فيحتمل قوله أن يريد التعلق الصناعي ، وأن يريد التعلق المعنوي ، والمعنى : أنهم ينالهم حظهم مما كتب لهم إلى أن يأتيهم رسل الموت يقبضون أرواحهم فيسألونهم سؤال توبيخ وتقرير أين [ ص: 295 ] معبوداتكم من دون الله ؟ فيجيبون بأنهم حادوا عنا وأخذوا طريقا غير طريقنا ، أو ضلوا عنا هلكوا واضمحلوا ، والرسل ملك الموت وأعوانه ، ويتوفونهم في موضع الحال ، وكتبت أينما متصلة وكان قياسه كتابتها بالانفصال ؛ لأن ما موصولة كهي في ( إن ما توعدون لآت ) إذ التقدير : أين الآلهة التي كنتم تعبدون ؟ وقيل : معنى ( تدعون ) ، أي : تستغيثونهم لقضاء حوائجكم وما ذكرناه من أن هذه المحاورة بين الملائكة وهؤلاء تكون وقت الموت ، وأن التوفي هو بقبض الأرواح ، هو قول المفسرين ، وقالت فرقة منهم الحسن : ( الرسل ) ملائكة العذاب يوم القيامة ، والمحاورة في ذلك اليوم ومعنى ( يتوفونهم ) يستوفونهم عددا في السوق إلى جهنم ونيل النصيب على هذا إنما هو في الآخرة إذ لو كان في الدنيا لما تحققت الغاية لانقطاع النيل قبلها بمدد كثيرة ، ويحتمل ( وشهدوا ) أن يكون مقطوعا على ( قالوا ) فيكون من جملة جواب السؤال ، ويحتمل أن يكون استئناف إخبار من الله تعالى بإقرارهم على أنفسهم بالكفر ، ولا تعارض بين هذا وبين قوله : ( والله ربنا ما كنا مشركين ) لاحتمال ذلك من طوائف مختلفة ، أو في أوقات ، وجواب سؤالهم ليس مطابقا من جهة اللفظ ؛ لأنه سؤال عن مكان ، وأجيب بفعل وهو مطابق من جهة المعنى إذ تقدير السؤال : ما فعل معبودوكم من دون الله معكم ؟ ( قالوا ضلوا عنا ) .

( قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار ) . أي : يقول الله لهم ، أي : لكفار العرب وهم المفترون الكذب والمكذبون بالآيات وذلك يوم القيامة ، وعبر بالماضي لتحقق وقوعه ، وقوله ذلك على لسان الملائكة ويتعلق ( في أمم ) في الظاهر بـ ادخلوا ، والمعنى : في جملة أمم ، ويحتمل أن يتعلق بمحذوف فيكون في موضع الحال و ( قد خلت من قبلكم ) ، أي : تقدمتكم في الحياة الدنيا ، أو تقدمتكم ، أي : تقدم دخولها في النار وقدم الجن ؛ لأنهم الأصل في الإغواء والإضلال ودل ذلك على أن عصاة الجن يدخلون النار ، وفي النار متعلق بخلت على أن المعنى تقدم دخولها ، أو بمحذوف وهو صفة لأمم ، أي : في أمم سابقة في الزمان كائنة من الجن والإنس كائنة في النار ، أو بـ " ادخلوا " على تقدير أن تكون في بمعنى مع ، وقد قاله بعض المفسرين فاختلف مدلول في إذ الأولى تفيد الصحبة ، والثانية تفيد الظرفية وإذا اختلف مدلول الحرف جاز أن يتعلق اللفظان بفعل واحد ويكون إذ ذاك ( ادخلوا ) قد تعدى إلى الظرف المختص بفي وهو الأصل وإن كان قد تعدى في موضع آخر بنفسه لا بوساطة في كقوله : وقيل ادخلا النار ( ادخلوا أبواب جهنم ) ويجوز أن تكون في باقية على مدلولها من الظرفية و ( في النار ) كذلك ويتعلقان بلفظ ( ادخلوا ) وذلك على أن يكون ( في النار ) بدل اشتمال كقوله : قتل أصحاب الأخدود النار ، ويجوز أن يتعدى الفعل إلى حرفي جر بمعنى واحد على طريقة البدل .

( كلما دخلت أمة لعنت أختها ) ( كلما ) للتكرار ولا يستوي ذلك في الأمة الأولى ، فاللاحقة تلعن السابقة ، أو يلعن بعض الأمة الداخلة بعضها ، ومعنى ( أختها ) ، أي : في الدين ، والمعنى : كلما دخلت أمة من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان ، وغيرهم من الكفار ، وقال الزمخشري : ( أختها ) التي ضلت بالاقتداء بها . انتهى . ، والمعنى : أن أهل النار يلعن بعضهم بعضا ، ويعادي بعضهم بعضا ، ويكفر بعضهم ببعض ، كما جاء في آيات أخر .

( حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار ) [ ص: 296 ] ( حتى ) غاية لما قبلها ، والمعنى : أنهم يدخلون فوجا ففوجا لاعنا بعضهم بعضا إلى انتهاء تداركهم وتلاحقهم في النار واجتماعهم فيها ، وأصل ( اداركوا ) تداركوا أدغمت التاء في الدال فاجتلبت همزة الوصل ، قال ابن عطية : وقرأ أبو عمرو أداركوا بقطع ألف الوصل ، قال أبو الفتح : هذا مشكل ولا يسوغ أن يقطعها ارتجالا فذلك إنما يجيء شاذا في ضرورة الشعر في الاسم أيضا ، لكنه وقف مثل وقفة المستنكر ، ثم ابتدأ فقطع ، وقرأ مجاهد بقطع الألف وسكون الدال ، وفتح الراء بمعنى أدرك بعضهم بعضا ، وقرأ حميد : أدركوا بضم الهمزة وكسر الراء ، أي : أدخلوا في إدراكها ، وقال مكي في قراءة مجاهد : إنها ادركوا بشد الدال المفتوحة وفتح الراء ، قال : وأصلها ادتركوا وزنها افتعلوا ، وقرأ ابن مسعود والأعمش تداركوا ورويت عن أبي عمر . انتهى . وقال أبو البقاء : وقرئ " إذا اداركوا " بألف واحدة ساكنة والدال بعدها مشددة ، وهو جمع بين ساكنين ، وجاز في المنفصل كما جاز في المتصل ، وقد قال بعضهم : اثنا عشر بإثبات الألف وسكون العين . انتهى . ويعني بقوله : كما جاز في المتصل نحو الضالين وجان وأخراهم : الأمة الأخيرة في الزمان التي وجدت ضلالات مقررة مستعملة لأولاهم التي شرعت ذلك وافترت وسلكت سبيل الضلال ابتداء ، أو أخراهم منزلة ورتبة وهم الأتباع والسفلة لأولاهم منزلة ورتبة وهم القادة المتبوعون ، أو أخراهم في الدخول إلى النار وهم الأتباع لأولاهم دخولا ، وهم القادة ، أقوال آخرها لمقاتل ، وقال ابن عباس : آخر أمة لأول أمة ، وأخرى هنا بمعنى آخرة مؤنث آخر ، فمقابل أول لا مؤنث له ، آخر بمعنى غير لقوله : ( وزر أخرى ) واللام في لأولاهم لام السبب ، أي : لأجل أولاهم ؛ لأن خطابهم مع الله لا معهم ( أضلونا ) شرعوا لنا الضلال ، أو جعلونا نضل وحملونا عليه ضعفا زائدا على عذابنا إذ هم كافرون ومسببو كفرنا .

( قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون ) ، أي : لكل من الأخرى والأولى عذاب ، وللأولى عذاب متضاعف زائد إلى غير نهاية وذلك أن العذاب مؤبد ، فكل ألم يعقبه آخر ، وقرأ الجمهور بالتاء على الخطاب للسائلين ، أي : لا تعلمون ما لكل فريق من العذاب ، أو لا تعلمون المقادير وصور العذاب . قيل أو خطاب لأهل الدنيا ، أي : ولكن يا أهل الدنيا لا تعلمون مقدار ذلك ، وقرأ أبو بكر والمفضل عن عاصم بالياء فيحتمل أن يكون إخبارا عن الأمة ويكون الضمير في ( لا يعلمون ) عائدا على الأمة الأخيرة التي طلبت أن يضعف العذاب على أولاها ، ويحتمل أن يكون خبرا عن الطائفتين ، أي : لا يعلم كل فريق قدر ما أعد له من العذاب ، أو قدر ما أعد للفريق الآخر من العذاب ، وروي عن ابن مسعود أن الضعف هنا الأفاعي والحيات ، وهذه الجملة رد على أولئك السائلين ، وعدم إسعاف لما طلبوا .

( وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون ) . أي : قالت الطائفة المتبوعة للطائفة المتبعة ، واللام في ( لأخراهم ) لام التبليغ نحو قلت لك اصنع كذا ؛ لأن الخطاب هو مع أخراهم بخلاف اللام ، أي : في ( لأولاهم ) فإنها كما ذكرنا لام السبب ؛ لأن الخطاب هناك مع الله تعالى ، والمعنى : أنتم لا فضل لكم علينا ولم تزدجروا حين جاءتكم الرسل والنذر ، بل دمتم في كفركم ، وتركتم النظر فاستوت حالنا وحالكم قال الزمخشري : أي : قد ثبت أن لا فضل لكم علينا ، وأنا متساوون في استحقاق الضعف ، وقال مجاهد : معنى ( من فضل ) من التخفيف لما قال الله ( لكل ضعف ) قالت الأولى للأخرى لم تبلغوا أملا بأن عذابكم أخف من عذابنا ولا فضلتم بالإسعاف . انتهى . والفاء في " فما " قال الزمخشري : عطفوا هذا الكلام على قول الله تعالى للسفلة ( لكل ضعف ) والذي يظهر أن المعنى انتفاء كون فضل عليهم من السفلة في الدنيا بسبب اتباعهم إياهم وموافقتهم لهم في الكفر ، أي : اتباعكم [ ص: 297 ] إيانا وعدم اتباعكم سواء ؛ لأنكم كنتم في الدنيا أقل عندنا من أن يكون لكم علينا فضل باتباعكم ، بل كفرتم اختيارا لا إنا حملناكم على ذلك إجبارا ، وأن قوله : ( فما ) معطوف على جملة محذوفة بعد القول دل عليها ما سبق من الكلام ، والتقدير : قالت أولاهم لأخراهم ما دعاؤكم الله بأنا أضللناكم وسؤالكم ما سألتم فما كان لكم علينا من فضل بضلالكم ، وأن قوله : ( فذوقوا العذاب ) من كلام الأولى خطابا للأخرى على سبيل التشفي منهم ، وأن ذوق العذاب هو بما كسبت من الآثام لا بسبب دعواكم أنا أضللناكم ، وقيل : ( فذوقوا ) من خطاب الله لجميعهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية