الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ) قال ابن عباس : ( لا تفتح ) لأعمالهم ولا لدعائهم ولا لما يريدون به طاعة الله تعالى ، أي : لا يصعد لهم صالح فتفتح أبواب السماء له ، وهذا منتزع من قوله : ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) ومن قوله : إن كتاب الأبرار لفي عليين . وقال السدي وغيره : ( لا تفتح ) لأرواحهم ، وذكروا في صعود الروحين إلى السماء والإذن لروح المؤمن ورد روح الكافر أحاديث ، وذلك عند موتهما ، وقيل : المعنى ( لا تفتح لهم أبواب السماء ) في القيامة ليدخلوا منها إلى الجنة ، أي : لا يؤذن لهم في الصعود إلى السماء ، وقيل : لا تنزل عليهم البركة ولا يغاثون ، وقرأ أبو عمرو ( لا تفتح ) بتاء التأنيث والتخفيف ، وقرأ الأخوان بالياء والتخفيف ، وقرأ باقي السبعة بالتاء من أعلى والتشديد . وقرأ أبو حيوة ، وأبو البرهسم بالثاء من أعلى مفتوحة والتشديد .

( ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ) هذا نفي مغيا بمستحيل . والولوج : التقحم في الشيء ، وذكر الجمل ؛ لأنه أعظم الحيوان المزاول للإنسان جثة فلا يلج إلا في باب واسع كما قال ، لقد عظم البعير بغير لب ، وقال : جسم الجمال وأحلام العصافير ، وذكر ( سم الخياط ) ؛ لأنه يضرب به المثل في ضيق المسلك يقال : أضيق من خرت الإبرة ، وقيل : للدليل خريت لاهتدائه في المضايق تشبيها بإخرات الإبرة ، والمعنى : أنهم لا يدخلون الجنة أبدا ، وقرأ ابن عباس فيما روى عنه شهر بن حوشب ، ومجاهد ، وابن يعمر ، وأبو مجلز والشعبي ومالك بن الشخير ، وأبو رجاء ، وأبو رزين ، وابن محيصن ، وأبان عن عاصم ( الجمل ) بضم الجيم وفتح الميم مشددة ، وفسر بالقلس الغليظ وهو حبل السفينة ، تجمع حبال وتفتل وتصير حبلا واحدا ، وقيل : هو الحبل الغليظ من القنب ، وقيل : الحبل الذي يصعد به في النخل ، وروي عن ابن عباس ولعله لا يصح أن الله أحسن تشبيها من أن يشبه بالجمل يعني أنه لا يناسب ، والحبل يناسب الخيط الذي يسلك به في خرم الإبرة ، وعن الكسائي أن الذي روى الجمل عن ابن عباس كان أعجميا فشدد الجيم لعجمته ، قال ابن عطية : وهذا ضعيف لكثرة أصحاب ابن عباس على القراءة المذكورة . انتهى . ولكثرة القراء بها غير ابن عباس ، وقرأ ابن عباس أيضا في رواية مجاهد ، وابن جبير ، وقتادة وسالم الأفطس بضم الجيم وفتح الميم مخففة ، وقرأ ابن عباس في رواية عطاء ، والضحاك والجحدري بضم الجيم والميم مخففة ، وقرأ عكرمة ، وابن جبير في رواية بضم الجيم وسكون الميم : الجمل ، وقرأ المتوكل ، وأبو الجوزاء بفتح الجيم وسكون الميم ، ومعناه في هذه القراءات القلس الغليظ وهو حبل السفينة وقراءة الجمهور ( الجمل ) بفتح الجيم والميم أوقع ؛ لأن سم الإبرة يضرب بها المثل في الضيق والجمل وهو هذا الحيوان المعروف يضرب به المثل في عظم الجثة كما ذكرنا ، وسئل ابن مسعود عن الجمل فقال زوج الناقة وذلك منه استجهال للسائل ومنع منه أن يتكلف له معنى آخر ، وقرأ عبد الله ، وقتادة ، وأبو رزين ، وابن مصرف وطلحة بضم سين ( سم ) ، وقرأ أبو عمران الحوفي ، وأبو نهيك والأصمعي عن نافع بكسر السين " سم " ، وقرأ عبد الله ، وأبو رزين ، وأبو مجلز [ ص: 298 ] المخيط بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الياء ، وقرأ طلحة بفتح الميم .

( وكذلك نجزي المجرمين ) ، أي : مثل ذلك الجزاء نجزي أهل الجرائم ، وقال الزمخشري ليؤذن أن الإجرام هو السبب الموصل ، وأن كل من أجرم عوقب ، ثم كرره تعالى فقال : ( وكذلك نجزي الظالمين ) ؛ لأن كل مجرم ظالم لنفسه . انتهى . وفيه دسيسة الاعتزال .

( لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين ) هذه استعارة لما يحيط بهم من النار من كل جانب كما قال لهم ( من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ) والغواشي جمع غاشية ، قال ابن عباس والقرظي ، وابن زيد : هي اللحف ، وقال عكرمة : يغشاهم الدخان من فوقهم ، وقال الزجاج : غاشية من النار ، وقال الضحاك : المهاد الفرش ، والغواشي اللحف والتنوين في ( غواش ) تنوين صرف ، أو تنوين عوض قولان ، وتنوين عوض من الياء ، أو من الحركة قولان كل ذلك مقرر في علم النحو ، وقرئ " غواش " بالرفع كقراءة عبد الله ( وله الجوار المنشآت ) .

( والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) لما أخبر بوعيد الكفار أخبر بوعد المؤمنين ، وخبر و ( الذين ) الجملة من ( لا نكلف نفسا ) منهم ، أو الجملة من ( أولئك ) وما بعده ، وتكون جملة ( لا نكلف ) اعتراضا بين المبتدأ والخبر ، وفائدته أنه لما ذكر قوله و ( وعملوا الصالحات ) نبه على أن ذلك العمل وسعهم وغير خارج عن قدرتهم ، وفيه تنبيه للكفار على أن الجنة مع عظم مجالها يوصل إليها بالعمل السهل من غير مشقة ، وقال القاضي أبو بكر بن الطيب : لم يكلف أحدا في نفقات الزوجات إلا ما وجد وتمكن منه دون ما لا تناله يده ولم يرد إثبات الاستطاعة قبل الفعل ، ونظيره ( لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ) . انتهى . وليس السياق يقتضي ما ذكر ، وقال الزمخشري : جملة معترضة بين المبتدأ والخبر للترغيب في اكتساب ما لا يكتنهه وصف الواصف من النعيم الخالد مع العظيم بما هو من الواسع وهو الإمكان الواسع غير الضيق من الإيمان والعمل الصالح . انتهى . وفيه دسيسة الاعتزال ، وقرأ الأعمش : لا تكلف نفس .

( ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار ) ، أي : أذهبنا في الجنة ما انطوت عليه صدورهم من الحقود . وقيل : نزع الغل في الجنة أن لا يحسد بعضهم بعضا في تفاضل منازلهم ، وقال الحسن : غل الجاهلية ، وقال سهل بن عبد الله : الأهواء والبدع ، وروي عن علي كرم الله وجهه : فينا والله أهل بدر نزلت . وعنه : إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قيل فيهم ونزعنا الآية ، والذي يظهر أن النزع للغل كناية عن خلقهم في الآخرة سالمي القلوب طاهريها متوادين متعاطفين ، كما قال : إخوانا على سرر متقابلين . وتجري حال . قاله الحوفي قال : والعامل فيه نزعنا ، وقال أبو البقاء : حال والعامل فيها معنى الإضافة وكلا القولين لا يصح ؛ لأن تجري ليس من صفات الفاعل الذي هو ضمير نزعنا ولا صفات المفعول الذي [ ص: 299 ] هو ما في صدورهم ، ولأن معنى الإضافة لا يعمل إلا إذا كانت إضافة يمكن للمضاف أن يعمل إذا جرد من الإضافة رفعا ، أو نصبا فيما بعده ، والظاهر أنه خبر مستأنف عن صفة حالهم .

( وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا ) ، أي : وفقنا لتحصيل هذا النعيم الذي صرنا إليه بالإيمان والعمل الصالح إذ هو نعمة عظيمة يجب عليهم بها حمده والثناء عليه تعالى ، وقيل : الهداية هنا هو الإرشاد إلى طريق الجنة ومنازلهم فيها وفي الحديث : إن أحدهم أهدى إلى منزله في الجنة من منزله في الدنيا ، وقيل : الإشارة بهذا إلى العمل الصالح الذي هذا جزاؤه ، وقيل : إلى الإيمان الذي تأهلوا به لهذا النعيم المقيم ، وقال الزمخشري : أي : وفقنا لموجب هذا الفوز العظيم وهو الإيمان والعمل الصالح . انتهى . وفي لفظة ( واجب والعمل الصالح ) دسيسة الاعتزال ، وقال أبو عبد الله الرازي معنى هدانا الله : أعطانا القدرة وضم إليها الداعية الجازمة ، وصير مجموعهما لحصول تلك الفضيلة وقالت المعتزلة : التحميد إنما وقع على أنه تعالى خلق العقل ووضع الدلائل وأزال الموانع . انتهى . وفي صحيح مسلم : إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا ، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا ، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا ، وإن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبدا فلذلك قالوا : ( الحمد لله الذي هدانا لهذا ) .

( وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ) أي : وما كانت توجد منا أنفسنا وحدها الهداية لولا أن الله هدانا ، وهذه الجملة توضح أن الله خالق الهداية فيهم ، وأنهم لو خلوا وأنفسهم لم تكن منهم هداية ، وقال الزمخشري : وما كان يستقيم أن نكون مهتدين لولا هداية الله تعالى وتوفيقه ، وقال أبو البقاء : والواو للحال ويجوز أن تكون مستأنفة . انتهى . والثاني أظهر . وقرأ ابن عامر : ما كنا . بغير واو وكذا هي في مصاحف أهل الشام وهي على هذا جملة موضحة للأولى ومن أجاز فيها الحال مع الواو ينبغي أن يجيزها دونها ، والذي تقتضيه أصول العربية أن جواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه ، أي : لولا أن هدانا الله ما كنا لنهتدي ، أو لضللنا ؛ لأن لولا للتعليق فهي في ذلك كأدوات الشرط على أن بعض الناس خرج قوله لولا أن رأى برهان ربه على أنه جواب تقدم وهو قوله : ( وهم بها ) وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى ، وهذا على مذهب جمهور البصريين في منع تقديم جواب الشرط .

( لقد جاءت رسل ربنا بالحق ) ، أي : بالموعود الذي وعدنا في الدنيا قضوا بأن ذلك حق قضاء ومشاهدة بالحس ، وكانوا في الدنيا يقضون بذلك بالاستدلال ، وقال الكرماني : وقع الموعود به على ما سبق به الوعد ، وقال الزمخشري فكان لنا لطفا وتنبيها على الاهتداء فاهتدينا يقولون ذلك سرورا واغتباطا بما نالوا وتلذذا بالتكلم به لا تقربا وتعبدا كما ترى ، من رزق خيرا في الدنيا يتكلم بنحو ذلك ولا يتمالك أن يقوله للفرح لا للقربة .

( ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ) يحتمل [ ص: 300 ] أن يكون النداء من الله وهو أسر لقلوبهم وأرفع لقدرهم ، ويحتمل أن يكون من الملائكة ، وأن يحتمل أن تكون المخففة من الثقيلة ، أي : ( ونودوا ) بأنه ( تلكم الجنة ) واسمها ضمير الشأن يحذف إذا خففت ، ويحتمل أن تكون ( أن ) مفسرة لوجود شرطها ، وهما أن يكون قبلها جملة في معنى القول وبعدها جملة وكأنه قيل : ( تلكم الجنة ) . قال ابن عطية : ( تلكم ) إشارة إلى غائبة فإما لأنهم كانوا وعدوا بها في الدنيا فالإشارة إلى تلك ، أي : ( تلكم ) هذه ( الجنة ) وحذفت هذه ، وإما قبل أن يدخلوها ، وإما بعد الدخول وهم مجتمعون في موضع منها فكل غائب عن منزله . انتهى . وفي كتاب التحرير و " تلكم " إشارة إلى غائب ، وإنما قال هنا " تلكم " ؛ لأنهم وعدوا بها في الدنيا فلأجل الوعد جرى الخطاب بكلمة العهد ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - للصديق في الاستخبار عن عائشة كيف تيكم للعهد السابق . انتهى . والجنة جوزوا فيها أن تكون خبرا لتلكم و ( أورثتموها ) حال كقوله : ( فتلك بيوتهم خاوية ) . قال أبو البقاء : حال من ( الجنة ) والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة ولا يجوز أن تكون حالا من تلك للفصل بينهما بالخبر ولكون المبتدأ لا يعمل في الحال . انتهى . وفي العامل في الحال في مثل هذا زيد قائما خلاف في النحو ، وأن يكون نعتا وبدلا ، ( أورثتموها ) الخبر ، أدغم النحويان وحمزة وهشام الثاء في التاء وأظهرها باقي السبعة ، ومعنى ( أورثتموها ) صيرت لكم كالإرث ، وأبعد من ذهب إلى أن المعنى أورثتموها عن آبائكم ؛ لأنها كانت منازلهم لو آمنوا فحرموها بكفرهم ، وبعده أن ذلك عام في جميع المؤمنين ولم تكن آباؤهم كلهم كفارا والباء في ( بما ) للسبب المجازي ، والأعمال أمارة من الله ودليل على قوة الرجاء ، ودخول الجنة إنما هو بمجرد رحمة الله ، والقسم فيها على قدر العمل ، ولفظ ( أورثتموها ) مشير إلى الأقسام وليس ذلك واجبا على الله تعالى ، وقال الزمخشري : ( أورثتموها ) بما كنتم تعملون بسبب أعمالكم لا بالتفضل كما تقول المبطلة . انتهى . وهذا مذهب المعتزلة ، وفي صحيح مسلم : لن يدخل الجنة أحد بعمله قالوا : ولا أنت يا رسول الله ، قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل .

( ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم ) . عبر بالماضي عن المستقبل لتحقق وقوعه ، وهذا النداء فيه تقريع وتوبيخ وتوقيف على مآل الفريقين وزيادة في كرب أهل النار بأن شرفوا عليهم وبخلق إدراك أهل النار لذلك النداء في أسماعهم ، قال الزمخشري : وإنما قالوا لهم ذلك اغتباطا بحالهم وشماتة بأهل النار وزيادة في غمهم ، وليكون حكايته لطفا لمن سمعها وكذلك قول المؤذن بينهم أن : لعنة الله على الظالمين ، وهو ملك يأمره الله تعالى فينادي بينهم يسمع أهل الجنة وأهل النار ، وأتى في إخبار أهل الجنة ( ما وعدنا ) بذكر المفعول وفي قصة أهل النار ما وعد ولم يذكر مفعول ( وعد ) ؛ لأن أهل الجنة مستبشرون بحصول موعودهم ، فذكروا ما وعدهم الله مضافا إليهم ولم يذكروا حين سألوا أهل الجنة متعلق ( وعد ) باسم الخطاب فيقولوا : ( ما وعدكم ) ليشمل كل موعود من عذاب أهل النار ونعيم أهل الجنة ، وتكون إجابتهم بنعم تصديقا لجميع ما وعد الله بوقوعه في الآخرة للصنفين ويكون ذلك اعترافا منهم بحصول موعود المؤمنين ليتحسروا على ما فاتهم من نعيمهم ، إذ نعيم أهل الجنة مما يخزيهم ويزيد في عذابهم ، ويحتمل أن يكون حذف المفعول الذي للخطاب لدلالة ما قبله عليه ، وتقديره : ( فهل وجدتم ما وعد ربكم ) ، وقرأ ابن وثاب والأعمش ، والكسائي ( نعم ) بكسر العين ، ويحتمل أن تكون تفسيرية ، وأن تكون مصدرية مخففة من أن الثقيلة ، وإذا ولي المخففة فعل متصرف غير دعاء فصل بينهما بقد في الأجود ، كقوله : ( أن قد وجدنا ) .

[ ص: 301 ] ( فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون ) ، أي : فأعلم معلم ، قيل : هو إسرافيل صاحب الصور ، وقيل : جبريل يسمع الفريقين تفريحا وتبريحا ، وقيل : ملك غيره معين ، ودخل طاوس على هشام بن عبد الملك فقال له : احذر يوم الأذان فقال : وما يوم الأذان قال : يوم ( فأذن مؤذن ) الآية فصعق هشام فقال طاوس : هذا ذل الصفة فكيف ذل المعاينة . وبينهم : يحتمل أن يكون معمولا لـ " أذن " ، ويحتمل أن يكون صفة لمؤذن ، فالعامل فيه محذوف ، وقرأ الأخوان ، وابن عامر والبزي ( أن لعنة الله ) بتثقيل ( أن ) ونصب ( لعنة ) ، وعصمة عن الأعمش ( إن ) بكسر الهمزة والتثقيل ونصب ( لعنة ) على إضمار القول ، أو إجراء أذن مجرى قال ، وقرأ باقي السبعة ( أن ) بفتح الهمزة خفيفة النون ، ورفع ( لعنة ) على الابتداء ، وأن مخففة من الثقيلة ، أو مفسرة و ( يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ) تقدم تفسير مثله ، وهذا الوصف بالموصول هو حكاية عن قولهم السابق ، والمعنى : الذين كانوا يصدون عن سبيل الله ؛ لأنهم وقت الأذان لم يكونوا متصفين بهذا الوصف ، والمعني بالظلم الكفار ، ويدفع قول من قال : إنه عام في الكافر والفاسق قوله أخيرا ( وهم بالآخرة كافرون ) ؛ لأن الفاسق ليس كافرا بالآخرة ، بل مؤمن مصدق بها .

( وبينهما حجاب ) ، أي : بين الفريقين ؛ لأنهم المحدث عنهم وهو الظاهر ، وقيل : بين الجنة والنار ، وبهذا بدأ الزمخشري ، وابن عطية وفسر الحجاب بأنه المعني بقوله : فضرب بينهم بسور ، وقاله ابن عباس . ويقوي أنه بين الفريقين لفظ بينهم إذ هو ضمير العقلاء ، ولا يحيل ضرب السور بعد ما بين الجنة والنار ، وإن كانت تلك في السماء ، والنار أسفل السافلين .

( وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ) ، أي : وعلى أعراف الحجاب وهو السور المضروب ( رجال يعرفون كلا ) من فريقي الجنة والنار بعلامتهم التي ميزهم الله بها من ابيضاض وجوه واسوداد وجوه ، أو بغير ذلك من العلامات ، أو بعلامتهم التي يلهمهم الله معرفتها ، والأعراف : تل بين الجنة والنار . قاله ابن عباس ، وقال مجاهد : حجاب بين الجنة والنار ، وقيل : هو أحد ممثل بين الجنة والنار ، روي هذا في حديث ، وفي آخر إن أحدا على ركن من أركان الجنة ، وقيل : أعالي السور الذي ضرب بين الجنة والنار . قاله الزمخشري ، والرجال قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم وقفوا هنالك ما شاء الله ، لم تبلغ حسناتهم بهم دخول الجنة ولا سيئاتهم دخول النار ، وروي في مسند ابن أبي خيثمة عن جابر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث فيه : قيل : يا رسول الله فمن استوت حسناته وسيئاته قال : أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون ، وقاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وحذيفة ، وأبو هريرة ، قال حذيفة بن اليمان أيضا : هم [ ص: 302 ] قوم أبطأت بهم صغائرهم إلى آخر الناس ، وقيل : غزاة جاهدوا من غير إذن والديهم فقتلوا في المعركة ، وهذا مروي عن الرسول أنهم حبسوا عن الجنة بمعصية آبائهم وأعتقهم الله من النار ؛ لأنهم قتلوا في سبيله ، وقيل : قوم رضي عنهم آباؤهم دون أمهاتهم ، أو بالعكس ، وقيل : هم أولاد الزنا ، وقيل : أولاد المشركين ، وقيل : الذين كانوا في الأسر ولم يبدلوا دينهم ، وقيل : علماء شكوا في أرزاقهم ، وقال الزمخشري : رجال من المسلمين من آخرهم دخولا في الجنة لقصور أعمالهم كأنهم المرجئون لأمر الله يحبسون بين الجنة والنار إلى أن يأذن الله لهم في دخول الجنة ، وقال ابن عطية : واللازم من الآية أن على أعراف ذلك السور ، أو على مواضع مرتفعة عن الفريقين حيث شاء الله رجالا من أهل الجنة يتأخر دخولهم ، ويقع لهم ما وصف من الاعتبار في الفريقين ، ويعرفون كلا بعلامتهم وهي بياض الوجوه وحسنها في أهل الجنة وسوادها وقبحها في أهل النار . انتهى . والأقوال السابقة تحتاج إلى دليل واضح في التخصيص ، والجيد منها هو الأول لحديث جابر ولتفسير جماعة من الصحابة ، وهذه الأقوال هي على قول من قال إن الأعراف هو بين الجنة والنار ، وفي شعر أمية بن الصلت :


وآخرون على الأعراف قد طمعوا في جنة حفها الرمان والخضر



وقال قوم : إنه الصراط ، وقيل : موضع على الصراط ، وقال قوم : هو جبل في وسط الجنة ، أو أعلاها واختلف هؤلاء في تفسير ( رجال ) ، وقال أبو مجلز : ملائكة في صور رجال ذكور وسموا رجالا لقوله : ( ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ) وقال مجاهد والحسن : هم فضلاء المؤمنين وعلماؤهم ، وقيل : هم الشهداء وقاله الكرماني ، واختاره النحاس ، وقال : هو أحسن ما قيل فيه ، وقيل : حمزة والعباس ، وعلي ، وجعفر الطيار ، وروي هذا عن ابن عباس ، وقيل : هم الأنبياء .

( ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ) . الظاهر أن الضمير في ونادوا إلى آخر الآية عائد على الرجال الذين على الأعراف ، وعلى هذا لا يمكن أن تكون تلك الضمائر للأنبياء ولا لشيء مما فسر به أنهم على جبل في وسط الجنة ، أو أعلى الجنة ، وفي غاية البعد ما تئول من ذلك ليصح شيء من تلك الأقوال أنهم أجلسوا على تلك الأماكن المرتفعة ليشاهدوا أحوال الفريقين فيلحقهم السرور بتلك الأحوال ، ثم إذا استقر الفريقان نقلوا إلى أمكنتهم التي أعدت لهم في الجنة ، فمعنى ( لم يدخلوها ) لم يدخلوا منازلهم المعدة لهم فيها ، ومعنى ( وهم يطمعون ) يتيقنون ما أعد الله لهم من الزلفى ، وقد جاء الطمع بمعنى اليقين قال : ( والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ) وطمع إبراهيم - عليه السلام - يقين . وقال الشاعر :


وإني لأطمع أن الإله     قدير بحسن يقيني يقيني



وأما قول من قال : إن الأعراف جبل بين الجنة والنار ، فقد طعن فيه القاضي والجبائي وقالا : هو فاسد ؛ لأن قوله : ( بما كنتم تعملون ) يدل على أن كل من دخل الجنة لا بد أن يكون مستحقا لدخولها وذلك يمنع من القول بوجود أقوام لا يستحقون الجنة ولا النار ، ثم يدخلون الجنة بمحض الفضل لا بسبب الاستحقاق ، ولأن كونهم من أهل الأعراف يدل على ميزهم من جميع أهل القيامة فإن إجلاسهم على الأماكن المرتفعة العالية على أهل الجنة والنار تشريف عظيم لا يليق إلا بالأشراف ومن تساوت حسناته وسيئاته درجته قاصرة لا يليق بهم ذلك التشريف ، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون ونودوا خطاب مع أقوام معينين فلا يلزم أن تكون أهل الجنة كذلك ، وعن الثاني أجلسهم [ ص: 303 ] لا للتشريف ، بل لأنها كالمرتبة المتوسطة بين الجنة والنار و ( أن سلام ) يحتمل أن ( أن ) تكون تفسيرية ومخففة من الثقيلة ، ولم يدخلوها حال من المفعول ، أي : ناداهم وهم في هذه الحال يعني أهل الجنة ، وهم يطمعون جملة خبرية لا موضع لها من الإعراب ، أي : نادوا أهل الجنة غير داخليها ، ثم أخبر أنهم طامعون في دخولها قال معناه أبو البقاء ، وقيل : المعنى ونادى أصحاب الأعراف أصحاب الجنة بالسلام وهم قد دخلوا الجنة ، وأهل الأعراف لم يدخلوها فيكون قوله : ( لم يدخلوها ) حالا من ضمير " ونادوا " العائد على أهل الأعراف فقط ، وهذا تأويل ابن مسعود ، وقتادة ، والسدي ، وغيرهم ، وقال ابن مسعود : والله ما جعل الله ذلك الطمع في قلوبهم إلا لخير أراده بهم ، وهذا هو الأظهر والأليق بمساق الآية ، وقال ابن مسعود أيضا : إنما طمع أصحاب الأعراف ؛ لأن النور الذي كان في أيديهم لم يطفأ حين طفئ نور ما بأيدي المنافقين ، وقيل : ( وهم يطمعون ) حال من ضمير الفاعل في ( يدخلوها ) ، والمعنى : لم يدخلوها في حال طمع لها ، بل كانوا في حال يأس وخوف ، لكن عمهم عفو الله .

وقال الزمخشري : فإن قلت : ما محل قوله : ( لم يدخلوها وهم يطمعون ) قلت : لا محل له ؛ لأنه استئناف كأن سائلا سأل عن أصحاب الأعراف فقيل له ( لم يدخلوها وهم يطمعون ) يعني أن دخولهم الجنة استأخر عن دخول أهل الجنة فلم يدخلوها لكونهم محبوسين ، وهم يطمعون لم ييأسوا ، ويجوز أن يكون له محل بأن يقع صفة . انتهى . وهذا توجيه ضعيف للفصل بين الموصوف وصفته بجملة ونادوا وليست جملة اعتراض ، وقرأ ابن النحوي وهم طامعون ، وقرأ إياد بن لقيط وهم ساخطون ، وقرأ الأعمش وإذا قلبت أبصارهم ، والضمير في أبصارهم عائد على رجال الأعراف يسلمون على أهل الجنة وإذا نظروا إلى أهل النار دعوا الله في التخلص منها . قاله ابن عباس وجماعة ، وقال أبو مجلز : الضمير لأهل الجنة وهم لم يدخلوها بعد ، وفي قوله : ( صرفت ) دليل أن أكثر أحوالهم النظر إلى تلقاء أصحاب الجنة ، وأن نظرهم إلى أصحاب النار هو بكونهم صرفت أبصارهم تلقاءهم ، فليس الصرف من قبلهم ، بل هم محمولون عليه مفعول بهم ذلك ؛ لأن ذلك المطلع مخوف من سماعه فضلا عن رؤيته فضلا عن التلبس به ، والمعنى : أنهم إذا حملوا على صرف أبصارهم ورأوا ما هم عليه من العذاب استغاثوا بربهم من أن يجعلهم معهم ، ولفظة ( ربنا ) مشعرة بوصفه تعالى بأنه مصلحهم وسيدهم وهم عبيد ، فبالدعاء به طلب رحمته واستعطاف كرمه .

التالي السابق


الخدمات العلمية