الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير ) قال الكلبي : نزلت ببدر ، وقال الواقدي : كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة [ ص: 497 ] أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما أمر تعالى بقتال الكفار حتى لا تكون فتنة اقتضى ذلك وقائع وحروبا ، فذكر بعض أحكام الغنائم ، وكان في ذلك تبشير للمؤمنين بغلبتهم للكفار ، وقسم ما تحصل منهم من الغنائم ، والخطاب في واعلموا للمؤمنين ، والغنيمة عرفا ما يناله المسلمون من العدو بسعي ، وأصله الفوز بالشيء ، يقال : غنم غنما . قال الشاعر :


وقد طوفت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب



وقال الآخر :


ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه     أنى توجه والمحروم محروم



والغنيمة والفيء هل هما مترادفان أو متباينان ، قولان ، وسيأتي ذلك عند ذكر الفيء إن شاء الله تعالى . والظاهر أن ما غنم يخمس كائنا ما كان ، فيكون خمسه لمن ذكر الله ، فأما قوله : فأن لله خمسه ، فالظاهر أن ما نسب إلى الله يصرف في الطاعات ، كالصدقة على فقراء المسلمين ، وعمارة الكعبة ونحوهما ، وقال بذلك فرقة ، وأنه كان الخمس يقسم على ستة ، فما نسب إلى الله قسم على من ذكرنا ، وقالأبو العالية : سهم الله يصرف إلى رتاج الكعبة ، وعنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه فيأخذ بيده قبضة فيجعلها للكعبة ، وهو سهم الله تعالى ، ثم يقسم ما بقي على خمسة ; وقيل : سهم الله لبيت المال ، وقال ابن عباس والحسن والنخعي وقتادة والشافعي قوله : ( فأن لله خمسه ) استفتاح كلام ، كما يقول الرجل لعبده : أعتقك الله وأعتقتك على جهة التبرك وتفخيم الأمر ، والدنيا كلها لله ، وقسم الله وقسم الرسول واحد ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقسم الخمس على خمسة أقسام ، وهذا القول هو الذي أورده الزمخشري احتمالا ، فقال : يحتمل أن يكون معنى : ( لله وللرسول ) ، كقوله تعالى : ( والله ورسوله أحق أن يرضوه ) وأن يراد بقوله : ( فأن لله خمسه ) ، أي : من حق الخمس أن يكون متقربا به إليه لا غير ، ثم خص من وجوه القرب هذه الخمسة تفضيلا لها على غيرها ، كقوله تعالى : ( وجبريل وميكال ) ، والظاهر أن للرسول عليه الصلاة والسلام سهما من الخمس . وقال ابن عباس فيما روى الطبري : ليس لله ولا للرسول شيء وسهمه لقرابته ، يقسم الخمس على أربعة أقسام ، وقالت فرقة : هو مردود على الأربعة الأخماس ، وقال علي : يلي الإمام سهم الله ورسوله ، والظاهر أنه ليس له - عليه السلام - غير سهم واحد من الغنيمة ، وقال ابن عطية : كان مخصوصا - عليه السلام - من الغنيمة بثلاثة أشياء ، كان له خمس الخمس ، وكان له سهم رجل في سائر الأربعة الأخماس ، وكان له صفي يأخذه قبل قسم الغنيمة دابة ، أو سيفا ، أو جارية ، ولا صفي بعده لأحد بالإجماع ، إلا ما قاله أبو ثور من أن الصفي إلى الإمام ، وهو قول معدود في شواذ الأقوال ، انتهى ، وقالت فرقة : لم يورث الرسول صلى الله عليه وسلم فسقط سهمه ; وقيل : سهمه موقوف على قرابته ، وقد بعثه إليهم عمر بن عبد العزيز ، وقالت فرقة : هو لقرابة القائم بالأمر بعده ، وقال الحسن وقتادة : كان للرسول صلى الله عليه وسلم في حياته ، فلما توفي جعل لولي الأمر من بعده . انتهى ، وذوو القربى معناه قربى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والظاهر عموم قرباه ، فقالت فرقة : قريش كلها بأسرها ذوو قربى ، وقال أبو حنيفة والشافعي : هم بنو هاشم وبنو المطلب استحقوه بالنصرة والمظاهرة دون بني عبد شمس وبني نوفل ، وقال علي بن الحسين وعبد الله بن الحسن وابن عباس : هم بنو هاشم فقط ، قال مجاهد : كان آل محمد لا تحل لهم الصدقة فجعل لهم خمس الخمس ، قال ابن عباس : ولكن أبى ذلك علينا قومنا وقالوا : قريش كلها قربى ، والظاهر بقاء هذا السهم لذوي القربى وأنه لغنيهم وفقيرهم ، وقال ابن [ ص: 498 ] عباس كان على ستة لله وللرسول سهمان ، وسهم لأقاربه حتى قبض فأجرى أبو بكر الخمس على ثلاثة ، ولذلك روي عن عمر ومن بعده من الخلفاء ، وروي أن أبا بكر منع بني هاشم الخمس ، وقال إنما لكم أن يعطى فقيركم ويزوج أيمكم ويخدم من لا خادم له منكم ، وإنما الغني منكم فهو بمنزلة ابن السبيل ، الغني لا يعطى من الصدقة شيئا ، ولا يتيم موسر ، وعن زيد بن علي : ليس لنا أن نبني منه قصورا ، ولا أن نركب منه البراذين ، وقال قوم : سهم ذوي القربى لقرابة الخليفة ، والظاهر أن اليتامى والمساكين وابن السبيل عام في يتامى المسلمين ومساكينهم ، وابن السبيل منهم ; وقيل : الخمس كله للقرابة ; وقيل لعلي : إن الله تعالى قال : واليتامى والمساكين ، فقال : أيتامنا ومساكيننا ، وروي عن علي بن الحسين وعبد الله بن محمد بن علي أنهما قالا : الآية كلها في قريش ومساكينها ، وظاهر العطف يقتضي التشريك فلا يحرم أحد ، قاله الشافعي ، قال : وللإمام أن يفضل أهل الحاجة ، لكن لا يحرم صنفا منهم ، وقال مالك : للإمام أن يعطي الأحوج ويحرم غيره من الأصناف ، ولم تتعرض الآية لمن يصرف أربعة الأخماس ، والظاهر أنه لا يقسم لمن لم يغنم ، فلو لحق مدد للغانمين قبل حوز الغنيمة لدار الإسلام فعند أبي حنيفة هم شركاؤهم فيها ، وقال مالك والثوري والأوزاعي والليث والشافعي : لا يشاركونهم ، والظاهر أن من غنم شيئا خمس ما غنم إذا كان وحده ولم يأذن الإمام ، وبه قال الثوري والشافعي ، وقال أصحاب أبي حنيفة : هو له خاصة ، ولا يخمس ، وعن بعضهم فيه تفصيل ، وقال الأوزاعي إن شاء الإمام عاقبه وحرمه ، وإن شاء خمس والباقي له ، والظاهر أن قوله : غنمتم خطاب للمؤمنين فلا يسهم لكافر حضر بإذن الإمام وقاتل ، ويندرج في الخطاب العبيد المسلمون فما يخصهم لساداتهم ، وقال الثوري والأوزاعي إذا استعين بأهل الذمة يسهم لهم ، وقال أشهب إذا خرج المقيد والذمي من الجيش وغنما فالغنيمة للجيش دونهم ، والظاهر أن قوله : ( أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ) عام في كل ما يغنم من حيوان ومتاع ومعدن وأرض وغير ذلك ، فيخمس جميع ذلك ، وبه قال الشافعي ، إلا الرجال البالغين ، فقال : الإمام فيهم مخير بين أن يمن ، أو يقتل ، أو يسبي ، ومن سبي منهم فسبيله سبيل الغنيمة ، وقال مالك : إن رأى الإمام قسمة الأرض كان صوابا ، أو إن أداه الاجتهاد إلى أن لا يقسمها لم يقسمها ، والظاهر أنه لا يخرج من الغنيمة غير الخمس ، فسلب المقتول غنيمة لا يختص به القاتل إلا أن يجعل له الأمير ذلك على قتله ، وبه قال مالك وأبو حنيفة والثوري ، وقال الأوزاعي والليث والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد والطبري وابن المنذر : السلب للقاتل ، قال ابن سريج : وأجمعوا على أن من قتل أسيرا ، أو امرأة ، أو شيخا ، أو ذفف على جريح ، أو قتل من قطعت يداه ورجله ، أو منهزما لا يمنع في انهزامه كالمكتوف ليس له سلب واحد من هؤلاء ، والخلاف هل من شرطه أن يكون القاتل مقبلا على المقتول ، وفي معركة أم ليس ذلك من شرطه ، ودلائل هذه المسائل مستوفاة في كتب الفقه ، وفي كتب مسائل الخلاف ، وفي كتب أحكام القرآن ، والظاهر أن ما موصولة بمعنى الذي ، وهي اسم أن وكتبت أن متصلة بما ، وكان القياس أن تكتب مفصولة ، كما كتبوا : ( إن ما توعدون لآت ) مفصولة وخبر أن هو قوله : ( فأن لله خمسه ) وأن لله في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالحكم أن لله ودخلت الفاء في هذه الجملة الواقعة خبرا لأن كما دخلت في خبر أن في قوله : ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ) وقال الزمخشري : فأن لله مبتدأ خبره محذوف ، تقديره : حق ، أو فواجب أن لله خمسه ، انتهى ، وهذا التقدير الثاني الذي هو : أو فواجب أن لله خمسه تكون أن ومعمولاها في موضع مبتدأ خبره محذوف ، وهو قوله : فواجب ، وأجاز الفراء أن تكون [ ص: 499 ] ( ما ) شرطية منصوبة بغنمتم ، واسم أن ضمير الشأن محذوف ، تقديره : أنه ، وحذف هذا الضمير مع ( أن ) المشددة مخصوص عند سيبويه بالشعر ، وروى الجعفي عن هارون عن أبي عمرو : فإن لله بكسر الهمزة ، وحكاها ابن عطية عن الجعفي عن أبي بكر عن عاصم ، ويقوي هذه القراءة قراءة النخعي : فلله خمسه ، وقرأ الحسن وعبد الوارث عن أبي عمرو : خمسه ، بسكون الميم ، وقرأ النخعي : خمسه ، بكسر الخاء على الإتباع ، يعني إتباع حركة الخاء لحركة ما قبلها ، كقراءة من قرأ : ( والسماء ذات الحبك ) بكسر الحاء إتباعا لحركة التاء ولم يعتد بالساكن لأنه ساكن غير حصين ، وانظر إلى حسن هذا التركيب كيف أفرد كينونة الخمس لله وفصل بين اسمه تعالى وبين المعاطيف بقوله : خمسه ، ليظهر استبداده تعالى بكينونة الخمس له ، ثم أشرك المعاطيف معه على سبيل التبعية له ، ولم يأت التركيب : فأن لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل خمسه ، وجواب الشرط محذوف ، أي : إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أن الخمس من الغنيمة يجب التقرب به ، ولا يراد مجرد العلم ، بل العلم والعمل بمقتضاه ، ولذلك قدر بعضهم : إن كنتم آمنتم بالله فاقبلوا ما أمرتم به في الغنائم ، وأبعد من ذهب إلى أن الشرط متعلق معناه بقوله : ( نعم المولى ونعم النصير ) ، والتقدير : فاعلموا أن الله مولاكم وما أنزلنا معطوف على بالله ، ويوم الفرقان : يوم بدر بلا خلاف ، فرق فيه بين الحق والباطل ، والجمعان جمع المؤمنين وجمع الكافرين ، قتل فيها صناديد قريش ، نص عليه ابن عباس ومجاهد ومقسم والحسن وقتادة ، وكانت يوم الجمعة سابع عشر رمضان في السنة الثانية من الهجرة ، هذا قول الجمهور ، وقال أبو صالح لتسعة عشر يوما ، والمنزل : الآيات والملائكة والنصر ، وختم بصفة القدرة ; لأنه تعالى أدال المؤمنين على قلتهم على الكافرين على كثرتهم ذلك اليوم ، وقرأ زيد بن علي : عبدنا ، بضمتين كقراءة من قرأ : وعبد الطاغوت ، بضمتين فعلى عبدنا هو الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعلى عبدنا هو الرسول ومن معه من المؤمنين ، وانتصاب ( يوم الفرقان ) على أنه ظرف معمول لقوله : ( وما أنزلنا ) ، وقال الزجاج : ويحتمل أن ينتصب بغنمتم ، أي : أن ما غنمتم يوم الفرقان يوم التقى الجمعان فأن خمسه لكذا وكذا ، أي : كنتم آمنتم بالله ، أي : فانقادوا لذلك وسلموا ، قال ابن عطية : وهذا تأويل حسن في المعنى ، ويعترض فيه الفصل بين الظرف وبين ما تعلق به بهذه الجملة الكثيرة من الكلام ، انتهى ، ولا يجوز ما قاله الزجاج ; لأنه إن كانت ما شرطية على تخريج الفراء لزم فيه الفصل بين فعل الشرط ومعموله بجملة الجزاء ومتعلقاتها ، وإن كانت موصولة فلا يجوز الفصل بين فعل الصلة ومعموله بخبر أن .

( إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ) العدوة : شط الوادي ، وتسمي شفيرا وضفة ، سميت بذلك لأنها عدت ما في الوادي من ماء أن يتجاوزه ، أي : منعته . وقال الشاعر :


عدتني عن زيارتها العوادي     وقالت دونها حرب زبون



وتسمى الفضاء المساير للوادي عدوة للمجاورة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : بالعدوة بكسر العين فيهما ، وباقي السبعة بالضم والحسن وقتادة وزيد بن علي وعمرو بن عبيد بالفتح ، وأنكر أبو عمرو الضم ، وقال الأخفش لم يسمع من العرب إلا الكسر ، وقال أبو عبيد : الضم أكثرهما ، وقال اليزيدي الكسر لغة الحجاز ، انتهى ، فيحتمل أن تكون الثلاث لغى ، ويحتمل أن يكون الفتح مصدرا سمي به ، وروي بالكسر والضم بيت أوس :


وفارس لم يحل اليوم عدوته     ولوا سراعا وما هموا بإقبال



[ ص: 500 ] وقرئ بالعدية بقلب الواو ياء لكسرة العين ، ولم يعتدوا بالساكن لأنه حاجز غير حصين ، كما فعلوا ذلك في صبية وقنية ودنيا من قولهم : هو ابن عمي دنيا ، والأصل في هذا التصحيح كالصفوة والذروة والربوة ، وفي حرف ابن مسعود : بالعدوة العليا وهم بالعدوة السفلى ، ووادي بدر آخذين الشرق والقبلة منحرف إلى البحر الذي هو قريب من ذلك الصقع ، والمدينة من الوادي من موضع الوقعة منه في الشرق وبينهما مرحلتان ، وقرأ زيد بن علي القصيا ، وقد ذكرنا أنه القياس ، وذلك لغة تميم ، والأحسن أن يكون : وهم والركب معطوفان على أنتم ، فهي مبتدآت تقسيم لحالهم وحال أعدائهم ، ويحتمل أن تكون الواوان فيهما واوي الحال ، وأسفل ظرف في موضع الخبر ، وقرأ زيد بن علي : أسفل ، بالرفع ، اتسع في الظرف فجعله نفس المبتدأ مجازا ، والركب هم الأربعون الذين كانوا يقودون العير ، عير أبي سفيان ; وقيل : الإبل التي كانت تحمل أزواد الكفار وأمتعتهم ، كانت في موضع يأمنون عليها ، قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما فائدة هذا التوقيت وذكر مراكز الفريقين وأن العير كانت أسفل منهم ؟ ( قلت ) : الفائدة فيه الإخبار عن الحالة الدالة على قوة شأن العدو وشوكته وتكامل عدته ، وتمهد أسباب الغلبة له ، وضعف شأن المسلمين وشتات أمرهم ، وأن غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلا صنعا من الله تعالى ، ودليل على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله تعالى وقوته وباهر قدرته ، وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء وكانت أرضا لا بأس بها ، ولا ماء بالعدوة الدنيا ، وهي خبار تسوخ فيها الأرجل ، ولا يمشى فيها إلا بتعب ومشقة ، وكانت العير وراء ظهور العدو مع كثرة عددهم ، وكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم ، ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم ; ليبعثهم الذب عن الحرم والغيرة على الحرم على بذل تجهيداتهم في القتال أن لا يتركوا وراءهم ما يحدثون أنفسهم بالانحياز إليه ، فيجمع ذلك قلوبهم ، ويضبط هممهم ويوطن نفوسهم على أن لا يبرحوا مواطئهم ، ولا يخلوا مراكزهم ، ويبذلوا منتهى نجدتهم وقصارى شدتهم ، وفيه تصوير ما دبر سبحانه من أمر وقعة بدر ، انتهى ، وهو كلام حسن . وقال ابن عطية : كان الركب ومدبر أمره أبو سفيان قد نكب عن بدر حين ندر بالنبي صلى الله عليه وسلم وأخذ سيف البحر ، فهو أسفل بالإضافة إلى أعلى الوادي من حيث يأتي .

( ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم ) كان الالتقاء على غير ميعاد . قال مجاهد : أقبل أبو سفيان وأصحابه من الشام تجارا لم يشعروا بأصحاب بدر ، ولم يشعر أصحاب محمد بكفار قريش ، ولا كفار قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، حتى التقوا على ماء بدر للسقي كلهم فاقتتلوا ، فغلبهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأسروهم ، قال الطبري وغيره : المعنى لو تواعدتم على الاجتماع ثم علمتم كثرتهم وقلتكم لخالفتم ولم تجتمعوا معهم ، وقال معناه الزمخشري ، قال : ولو تواعدتم أنتم وأهل مكة وتواضعتم بينكم على موعد تلتقون فيه للقتال لخاف بعضكم بعضا ، فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد ، وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين فلم يتفق لكم من التلاقي ما وفقه الله وسببه له ، وقال المهدوي : المعنى لاختلفتم بالقواطع والعوارض القاطعة بالناس ، قال ابن عطية : وهذا أنبل - يعني من قول الطبري - وأصح ، وإيضاحه أن المقصد من الآية تبيين نعمة الله وقدرته في قصة بدر وتيسيره ما تيسر من ذلك ، فالمعنى : إذ هيأ الله لكم هذه الحال ، ولو تواعدتم لها لاختلفتم إلا مع تيسير الله الذي تمم ذلك ، وهذا كما تقول لصاحبك في أمر شاءه الله دون تعب كثير : لو [ ص: 501 ] ثبتنا على هذا وسعينا فيه لم يتم هكذا ، انتهى ، وقال الكرماني ، ولو تواعدتم أنتم والمشركون للقتال لاختلفتم في الميعاد ، أي : كانوا لا يصدقون مواعدتكم طلبا لغرتكم والحيلة عليكم ; وقيل : المعنى ولو تواعدتم من غير قضاء الله أمر الحرب لاختلفتم في الميعاد ; لأنه تعالى إذا لم يقدر أمرا لم يقع ، انتهى : ( ولكن ليقضي الله ) ولكن تلاقيتم على غير ميعاد ليقضي الله أمرا من نصر دينه وإعزاز كلمته وكسر الكفار وإذلالهم ، كان مفعولا ، أي : موجودا متحققا واقعا ، وعبر بقوله : مفعولا لتحقق كونه ، قال ابن عطية : ليقضي أمرا قد قدره في الأزل مفعولا لكم بشرط وجودكم في وقت وجودكم ، وذلك كله معلوم عنده ، وقال الزمخشري : ليقضي الله متعلق بمحذوف ، أي : ليقضي الله أمرا كان واجبا أن يفعل ، وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه دبر ذلك ; وقيل : كان بمعنى صار ، ليهلك بدل من ليقضي فيتعلق بمثل ما تعلق به ليقضي ; وقيل : يتعلق بقوله : مفعولا ; وقيل : الأصل وليهلك ، فحذف حرف العطف ، والظاهر أن المعنى : ليقتل من قتل من كفار قريش وغيرهم عن بيان من الله وإعذار بالرسالة ، ويعيش من عاش عن بيان منه وإعذار لا حجة لأحد عليه ، وقال ابن إسحاق وغيره : ليكفر ويؤمن ، فالمعنى أن الله تعالى جعل قصة بدر عبرة وآية ليؤمن من آمن عن وضوح وبيان ويكفر من كفر عن مثل ذلك ، وقرأ الأعمش وعصمة عن أبي بكر عن عاصم : ( ليهلك ) بفتح اللام ، وقرأ نافع والبزي وأبو بكر : ( من حيي ) - بالفك - وباقي السبعة بالإدغام ، وقال المتلمس :


فهذا أوان العرض حي ذبابه

والفك والإدغام لغتان مشهورتان ، وختم بهاتين الصفتين ; لأن الكفر والإيمان يستلزمان النطق اللساني والاعتقاد الجناني ، فهو سميع لأقوالكم عليم بنياتكم .

( إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور ) الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، وتظاهرت الروايات أنها رؤيا منام رأى الرسول صلى الله عليه وسلم فيها الكفار قليلا فأخبر بها أصحابه فقويت نفوسهم وشجعت على أعدائهم ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين انتبه : " أبشروا لقد نظرت إلى مصارع القوم " ، والمراد بالقلة هنا قلة القدر واليأس والنجدة وأنهم مهزومون مصروعون ، ولا يحمل على قلة العدد ; لأنه رؤياه حق ، وقد كان علم أنهم ما بين تسعمائة إلى ألف ، فلا يمكن حمل ذلك على قلة العدد ، وروي عن الحسن أن معنى : في منامك : في عينك ; لأنها مكان النوم ، كما قيل للقطيفة المنامة ; لأنه ينام فيها فتكون الرؤية في اليقظة ، وعلى هذا فسر النقاش ، وذكره عن المازني ، وما روي عن الحسن ضعيف ، قال الزمخشري : وهذا تفسير فيه تعسف ، وما أحسب الرواية فيه صحيحة عن الحسن ، وما يلائم علمه بكلام العرب وفصاحته ، والمعنى : ولو أراكهم في منامك كثيرا لفشلتم ، أي : لخرتم وجبنتم عن اللقاء ولتنازعتم في الأمر ، أي : تفرقت آراؤكم في أمر القتال ، فكان يكون ذلك سببا ; لانهزامكم وعدم إقدامكم على قتال أعدائكم ; لأنه لو رآهم كثيرا أخبركم برؤياه ففشلتم ، ولما كان الرسول - عليه السلام - محميا من الفشل معصوما من النقائص أسند الفشل إلى من يمكن ذلك في حقه ، فقال تعالى : ( لفشلتم ) ، وهذا من محاسن القرآن ، ولكن الله سلم من الفشل والتنازع والاختلاف بإرايته له الكفار قليلا ، فأخبرهم بذلك فقويت به نفوسهم ، ( إنه عليم بذات الصدور ) يعلم ما سيكون فيها [ ص: 502 ] من الجرأة والجبن والصبر والجزع ، وإذ بدل من إذ وانتصب قليلا . قال الزمخشري : على الحال ، وما قاله ظاهر ; لأن أرى منقولة بالهمزة من رأى البصرية فتعدت إلى اثنين الأول كاف خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم ، والثاني ضمير الكفار ، فقليلا وكثيرا منصوبان على الحال ، وزعم بعض النحويين أن أرى الحلمية تتعدى إلى ثلاثة كأعلم ، وجعل من ذلك قوله تعالى : ( إذ يريكهم الله في منامك قليلا ) فانتصاب قليلا عنده على أنه مفعول ثالث ، وجواز حذف هذا المنصوب اقتصارا يبطل هذا المذهب . تقول : رأيت زيدا في النوم ، وأراني الله زيدا في النوم .

( وإذا يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور ) هذه الرؤية هي يقظة لا منام ، وقلل الكفار في أعين المؤمنين تحقيرا لهم ولئلا يجبنوا عن لقائهم . قال ابن مسعود : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة ، وهذا من عبد الله لكونه لم يسمع ما أعلم به الرسول صلى الله عليه وسلم من عددهم ، وقلل المؤمنون في أعين الكفار حتى قال قائل منهم : إنما هم أكلة جزور ، وذلك قبل الالتقاء ، وذلك ليجترئوا على المؤمنين فتقع الحرب ويلتحم القتال ; إذ لو كثروا قبل اللقاء لأحجموا وتحيلوا في الخلاص ، أو استعدوا واستنصروا ، ولما التحم القتال كثر الله المؤمنين في أعين الكفار فبهتوا وهابوا وفلت شوكتهم ورأوا ما لم يكن في حسابهم ، كما قال : ( يرونهم مثليهم رأي العين ) وعظم الاحتجاج عليهم استيضاح الآية البينة من قلتهم أولا وكثرتهم آخرا ، ورؤية كل من الطائفتين يكون بأن ستر الله بعضها عن بعض ، أو بأن أحدث في أعينهم ما يستقلون به الكثير ، هذا إذا كانت الرؤية حقيقة ، وأما إذا كانت بمعنى التخمين والحذر الذي يستعمله الناس فيمكن ذلك ، وعلى التقديرين لا يندرج الرسول في خطاب : ( وإذ يريكموهم ) ; لأنه لا يجوز على أن يرى الكثير قليلا لا حقيقة ولا تخمينا على أنه يحتمل أن يكون من باب تقليل القدر والمهابة والنجدة ، لا من باب تقليل العدد ، ألا ترى قولهم : المرء كثير بأخيه ؟ وإلى قول الشاعر :


أروح وأغتدي سفها     أكثر من أقل به



فهذا من باب التقليل والتكثير في المنزلة والقدر ، لا من باب تقليل العدد ، ليقضي : أي فعل ذلك ليقضي ، والمفعول في الآيتين هو القصة بأسرها ; وقيل : هما لمعنيين من معاني القصة ، أريد بالأول الوعد بالنصرة يوم بدر ، وبالثاني الاستمرار عليها ، وتقدم تفسير : ( وإلى الله ترجع الأمور ) واختلاف القراء في ( ترجع ) في سورة البقرة .

( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ) ، أي : فئة كافرة ، حذف الوصف لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار ، واللقاء اسم للقتال غالب ، وأمرهم تعالى بالثبات وهو مقيد بآية الضعف ، وفي الحديث : " لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاثبتوا " . وأمرهم بذكره تعالى كثيرا في هذا الموطن العظيم من [ ص: 503 ] مصابرة العدو والتلاحم بالرماح وبالسيوف ، وهي حالة يقع فيها الذهول عن كل شيء فأمروا بذكر الله ; إذ هو تعالى الذي يفزع إليه عند الشدائد ويستأنس بذكره ويستنصر بدعائه ، ومن كان كثير التعلق بالله ذكره في كل موطن حتى في المواضع التي يذهل فيها عن كل شيء ويغيب فيها الحس : ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) وحكى لي بعض الشجعان أنه حالة التحام القتال تأخذ الشجاع هزة وتعتريه ، مثل السكر لهول الملتقى ، فأمر المؤمنين بذكر الله في هذه الحالة العظيمة ، وقد نظم الشعراء هذا المعنى فذكروا أنهم في أشق الأوقات عليهم وأشدها لم ينسوا محبوبهم وأكثروا في ذلك ، فقال بعضهم :


ذكرت سليمى وحر الوغى     كقلبي ساعة فارقتها
وأبصرت بين القنا قدها     وقد ملن نحوي فعانقتها



قال قتادة : افترض الله ذكره أشغل ما يكون العبد عند الضراب والسيوف ، وقال الزمخشري : فيه إشعار بأن على العبد أن لا يفتر عن ذكر الله أشغل ما يكون قلبا وأكثر ما يكون هما ، وأن يكون نفسه مجتمعة لذلك وإن كانت متوزعة عن غيره ، وذكر أن الثبات وذكر الله سببا الفلاح ، وهو الظفر بالعدو في الدنيا والفوز في الآخرة بالثواب ، والظاهر أن الذكر المأمور به هو باللسان ، فأمر بالثبات بالجنان وبالذكر باللسان ، والظاهر أن لا يعين ذكر ; وقيل : هو قول المجاهدين : الله أكبر الله أكبر عند لقاء الكفار ; وقيل : الدعاء عليهم : اللهم اخذلهم ، اللهم دمرهم ، وشبهه ; وقيل : دعاء المؤمنين ; لأنفسهم بالنصر والظفر والتثبيت ، كما فعل قوم طالوت فقالوا : ( ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ) وقيل : هم لا ينصرون ، وكان هذا شعار المؤمنين عند اللقاء ، وقال محمد بن كعب : لو رخص ترك الذكر لرخص في الحرب ولذكرنا حيث أمر بالصمت ، ثم قيل له : ( واذكر ربك كثيرا ) ، وحكم هذا الذكر أن يكون خفيا ، إلا إن كان من الجميع وقت الحملة فحسن رفع الصوت به ; لأنه يفت في أعضاد الكفار ، وفي سنن أبي داود : كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يكرهون الصوت عند القتال وعند الجنازة ، وقال ابن عباس : يكره التلثم عند القتال .

( وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ) ، أمرهم تعالى بالطاعة لله ولرسوله ، ونهاهم عن التنازع وهو تجاذب الآراء وافتراقها ، والأظهر أن يكون فتفشلوا جوابا للنهي ، فهو منصوب ، ولذلك عطف عليه منصوب ; لأنه يتسبب عن التنازع الفشل ، وهو الخور والجبن عن لقاء العدو ، وذهاب الدولة باستيلاء العدو ، ويجوز أن يكون فتفشلوا مجزوما عطفا على ولا تنازعوا ، وذلك في قراءة عيسى بن عمر : ويذهب ، بالياء وجزم الباء ، وقرأ أبو حيوة وأبان وعصمة عن عاصم : ويذهب ، بالياء ونصب الباء ، وقرأ الحسن وإبراهيم : ( فتفشلوا ) ، بكسر الشين ، قال أبو حاتم : وهذا غير معروف ، وقال غيره : هي لغة . قال مجاهد : الريح : النصرة والقوة ، وذهبت ريح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ناغوه بأحد ، وقال الزمخشري : والريح الدولة ، شبهت لنفوذ أمرها ، وتشبيه بالريح وهبوبها ، فقيل : هبت رياح فلان ، إذا دالت له الدولة ونفذ أمره . ومنه قوله :


أتنظران قليلا ريث غفلتهم     أم تعدوان فإن الريح للعادي



انتهى ، وهو قول أبي عبيدة : إن الريح هي الدولة ، ومن استعارة الريح قول الآخر :


إذا هبت رياحك فاغتنمها     فإن لكل عاصفة سكونا



ورواه أبو عبيدة : ركودا . وقال شاعر الأنصار :

[ ص: 504 ]

قد عودتهم صباهم أن يكون لهم     ريح القتال وأسلاب الذين لقوا



وقال زيد بن علي : ويذهب ريحكم معناه الرعب من قلوب عدوكم ، ومنه قيل للخائف : انتفخ سحره . قال ابن عطية : وهذا حسن بشرط أن يعلم العدو بالتنازع ، فإذا لم يعلم فالذاهب قوة المتنازعين فينهزمون ، انتهى ، وقال ابن زيد وغيره الريح على بابها ، وروي في ذلك أن النصر لم يكن قط إلا بريح تهب فتضرب في وجوه الكفار ، واستند بعضهم في هذه المقالة إلى قوله : نصرت بالصبا ، وقال الحكم : وتذهب ريحكم ، يعني الصبا ; إذ بها نصر محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ، وقال مقاتل : ريحكم حدتكم ، وقال عطاء : جلدكم ، وحكى التبريزي : هيبتكم ، ومنه قول الشاعر :


كما حميناك يوم النعف من شطط     والفضل للقوم من ريح ومن عدد



( ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط ) نزلت في أبي جهل وأصحابه خرجوا لنصرة العير بالقينات والمعازف ، ووردوا الجحفة فبعث خفاف الكناني - وكان صديقا له - بهدايا مع ابنه ، وقال : إن شئت أمددناك بالرجال ، وإن شئت بنفسي مع من خف من قومي ، فقالأبو جهل : إن كنا نقاتل الله ، كما يزعم محمد فوالله ما لنا بالله طاقة ، وإن كنا نقاتل الناس فوالله إن بنا على الناس لقوة ، والله لا نرجع عن قتالمحمد حتى نرد بدرا فنشرب فيها الخمور وتعزف علينا القينات ، فإن بدرا مركز من مراكز العرب وسوق من أسواقهم ، حتى تسمع العرب مخرجنا فتهابنا آخر الأبد ، فوردوا بدرا فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر ، وناحت عليهم النوائح مكان القينات ، فنهى الله المؤمنين أن يكون مثل هؤلاء بطرين طربين مرائين بأعمالهم صادين عن سبيل الله ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إن قريشا أقبلت بفخرها وخيلائها تجادل وتكذب رسولك ، اللهم فأحنها الغداة ، وفي قوله : ( والله بما يعملون محيط ) وعيد وتهديد لمن بقي من الكفار .

التالي السابق


الخدمات العلمية