( ويكون الدين لله ) الدين هنا : الطاعة ، أي : يكون الانقياد خالصا لله ، وقيل : الدين هنا السجود والخضوع لله وحده ، فلا يسجد لغيره ، وغيى هنا الأمر بالقتال بشيئين ، أحدهما : انتفاء الفتنة ، والثاني : ثبوت الدين لله ، وهو عطف مثبت على منفي ، وهما في معنى واحد ومتلازمان : لأنه إذا انتفى الشرك بالله كان تعالى هو المعبود المطاع ، وعلى تفسير أبي مسلم في الفتنة يكون قد غيى بأمرين مختلفين ، أحدهما : انتفاء القتال في الحرم ، والثاني : خلوص الدين لله تعالى . قيل وجاء في الأنفال : ( ويكون الدين كله لله ) ، ولم يجئ هنا " كله " : لأن آية الأنفال في الكفار عموما ، وهنا في مشركي مكة ، فناسب هناك التعميم ، ولم يحتج هنا إليه . قيل : وهذا لا يتوجه إلا على قول من جعل الضمير في " وقاتلوهم " عائدا على أهل مكة على أحد القولين ، وراجع رجل في الخروج في فتنة ابن عمر ابن الزبير مستدلا عليه بقوله : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ) ، فعارضه بقوله : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا ) ، فقال : ألم يقل : ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) ، فأجابه بأنا فعلنا ذلك على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ كان الإسلام قليلا ، وكان الرجل يفتن عن دينه بقتله أو تعذيبه ، وكثر الإسلام فلم تكن فتنة ، وكان الدين لله ، وأنتم تقاتلون حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله . ابن عمر
( فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ) . متعلق الانتهاء محذوف ، التقدير : عن الشرك بالدخول في الإسلام ، أو عن القتال . وأذعنوا إلى أداء الجزية فيمن يشرع ذلك فيهم ، أو عن الشرك وتعذيب المسلمين وفتنتهم ليرجعوا عن دينهم ، وذلك على الاختلاف في الضمير ، إذ هو عام في الكفار ، أو خاص بكفار مكة .
والعدوان مصدر عدا ، بمعنى : اعتدى ، وهو نفي عام ، أي : لا يؤخذ فرد فرد من أنواعه البتة إلا على من ظلم ، ويراد بالعدوان الذي هو الظلم الجزاء . سماه عدوانا من حيث هو جزاء عدوان ، والعقوبة تسمى باسم الذنب ، وذلك على المقابلة ، كقوله : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) ، ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ) ، ( ومكروا ومكر الله ) ، وقال الشاعر :
جزينا ذوي العدوان بالأمس قرضهم قصاصا سواء حذوك النعل بالنعل
وقال الرماني ، إنما استعمل لفظ العدوان في الجزاء من غير مزاوجة اللفظ : لأن مزاوجة اللفظ مزاوجة المعنى ، كأنه يقول : انتهوا عن العدوان فلا عدوان إلا على الظالمين ، انتهى كلامه . وهذا النفي العام يراد به النهي ، أي : فلا تعتدوا ، وذلك على سبيل المبالغة إذا أرادوا المبالغة في ترك الشيء عدلوا فيه عن النهي إلى النفي المحض العام ، وصار ألزم في المنع ، إذ صار من الأشياء التي لا تقع أصلا ، ولا يصح حمل ذلك على النفي الصحيح أصلا لوجود العدوان على غير الظالم . فكأنه يكون إخبارا غير مطابق ، وهو لا يجوز على الله تعالى . وفسر الظالمون هنا بمن بدأ بالقتال ، وقيل : من بقي على كفر وفتنة ، قال [ ص: 69 ] عكرمة ، وقتادة : الظالم هنا من أبى أن يقول لا إله إلا الله . وقال الأخفش المعنى : فإن انتهى بعضهم فلا عدوان إلا على من لم ينته ، وهو الظالم .
قال : فلا تعتدوا على المنتهين : لأن مقاتلة المنتهين عدوان وظلم ، فوضع قوله : " الزمخشري إلا على الظالمين " موضع : على المنتهين ، انتهى كلامه . وهذا الذي قاله لا يصح إلا على تفسير المعنى ، وأما على تفسير الإعراب فلا يصح : لأن على المنتهين ، ليس مرادفا لقوله : " إلا على الظالمين " : لأن نفي العدوان عن المنتهين لا يدل على إثباته على الظالمين إلا بالمفهوم مفهوم الصفة . وفي التركيب القرآني يدل على إثباته على الظالمين بالمنطوق المحصور بالنفي وإلا ، وفرق بين الدلالتين ، ويظهر من كلامه أنه أراد تفسير الإعراب . ألا ترى قوله : فوضع قوله : " إلا على الظالمين " موضع : على المنتهين ؟ وهذا الوضع إنما يكون في تفسير الإعراب ، وليس كذلك لما بيناه من الفرق بين الدلالتين ، ألا ترى فرق ما بين قولك : ما أكرم الجاهل ، وما أكرم إلا العالم ؟
و " إلا على الظالمين " استثناء مفرغ من الإخبار " على الظالمين " ، في موضع رفع على أنه خبر " لا " على مذهب الأخفش ، أو على أنه خبر للمبتدأ الذي هو مجموع " لا عدوان " ، على مذهب . وقد تقدم التنبيه على ذلك ، وجاء بعلى ، تنبيها على استيلاء الجزاء عليهم واستعلائه . سيبويه
وقيل : معنى لا عدوان ، لا سبيل ، كقوله : ( أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي ) ، أي : لا سبيل علي ، وهو مجاز عن التسليط والتعرض ، وهو راجع لمعنى جزاء الظالم الذي شرحنا به العدوان . ورابط الجزاء بالشرط إما بتقدير حذف أي : إلا على الظالمين منهم ، أو بالاندراج في عموم الظالمين ، فكان الربط بالعموم .