(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=200فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا ) ، قالوا : بين تعالى حال الذاكرين له قبل مبعثه ، وحال المؤمنين بعد مبعثه ، وعلمهم بالثواب والعقاب . والذي يظهر أن هذا تقسيم للمأمورين بالذكر بعد الفراغ من المناسك ، وأنهم ينقسمون في السؤال إلى من يغلب عليه حب الدنيا ، فلا يدعو إلا بها ، ومنهم من يدعو بصلاح حاله في الدنيا والآخرة ، وأن هذا من الالتفات . ولو جاء على الخطاب لكان فمنكم من يقول : ومنكم . وحكمة هذا الالتفات أنهم ما وجهوا بهذا الذي لا ينبغي أن يسلكه عاقل ، وهو الاقتصار على الدنيا ، فأبرزوا في صورة أنهم غير المخاطبين بذكر الله بأن جعلوا في صورة الغائبين ، وهذا من التقسيم الذي هو من جملة ضروب البيان ، وهو تقسيم بديع يحصره المقسم إلى هذين النوعين ، لا على ما يذهب إليه الصوفية من أن ثم قسما ثالثا لم يذكر لهم تعالى ، قالوا : وهم الراضون بقضائه ، المستسلمون لأمره ، الساكتون عن كل دعاء ، وافتشاء ، ومفعول " آتنا " الثاني محذوف ، تقديره : ما نريد ، أو مطلوبنا ، أو ما أشبه . هذا وجعل " في " زائدة ، وتكون الدنيا المفعول الثاني قول ساقط ، وكذلك جعل
[ ص: 105 ] " في " بمعنى : من ، حتى يكون في موضع المفعول ، وحذف مفعولي آتى وأحدهما جائز اختصارا واقتصارا : لأن هذا باب أعطى ، وذلك جائز فيه .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=200وما له في الآخرة من خلاق ) ، تقدم تفسير هذا في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) ، واحتملت هذه الجملة هنا معنيين ، أحدهما : الإخبار بأنه لا نصيب له في الآخرة لاقتصاره على الدنيا . والثاني : أن يكون المعنى إخبارا عن الداعي بأنه ما له في الآخرة من طلب نصيب ، فيكون هذا كالتوكيد لاقتصاره على طلب الدنيا ، وجمع في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=200ربنا آتنا في الدنيا ) ، ولو جرى على لفظ من ، لكان : رب آتني . وروعي الجمع هنا لكثرة من يرغب في الاقتصار على مطالب الدنيا ونيلها ، ولو أفرد لتوهم أن ذلك قليل .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=201ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة ) ، الحسنة مطلقة ، والمعنى : أنهم سألوا الله في الدنيا الحالة الحسنة ، وقد مثل المفسرون ذلك بأنها المرأة الصالحة ، قاله
علي . أو العافية في الصحة وكفاف المال ، قاله
قتادة . أو العلم ، أو العبادة ، قاله
الحسن . أو المال ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي ،
وأبو وائل ،
وابن زيد . أو الرزق الواسع ، قاله
مقاتل . أو النعمة في الدنيا ، قاله :
ابن قتيبة . أو القناعة بالرزق ، أو التوفيق والعصمة ، أو الأولاد الأبرار ، أو الثبات على الإيمان ، أو حلاوة الطاعة ، أو اتباع السنة ، أو ثناء الخلق ، أو الصحة والأمن والكفاءة والنصرة على الأعداء ، أو الفهم في كتاب الله تعالى . أو صحبة الصالحين ، قاله
جعفر . وعن الصوفية في ذلك مثل كثيرة .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=201وفي الآخرة حسنة ) ، مثلوا حسنة الآخرة بأنها الجنة ، أو العفو والمغفرة والسلامة من هول الموقف وسوء الحساب ، أو النعمة ، أو الحور العين ، أو تيسير الحساب ، أو مرافقة الأنبياء ، أو لذة الرؤية ، أو الرضا ، أو اللقاء .
وقال
ابن عطية : هي الحسنة بإجماع . قيل : وينبغي أن تكون الحسنتان هما العافية في الدنيا والآخرة : لثبوت ذلك في حديث الذي زاره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد صار مثل الفرخ ، وأنه سأله عما كان يدعو به ، فأخبره أنه سأل الله في الدنيا تعجيل ما يعاقبه به في الآخرة ، وأنه قال له : " لا تستطيعه " وقال : " هلا قلت : اللهم آتنا في الدنيا . . . " إلى آخره . فدعا بهما الله تعالى فشفاه . وصح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر ما كان يدعو به ، وكان يقول ذلك فيما بين
الركن والحجر الأسود ، وكان يأمر أن يكون أكثر دعاء المسلم في الموقف .
وأبو بكر أول من قالها في الموسم عام الفتح ، ثم اتبعه
علي ، والناس أجمعون .
وأنس سئل الدعاء فدعا بها ، ثم سئل الزيادة فأعادها ، ثم سئل الزيادة فقال : ما تريدون ؟ قد سألت الله خير الدنيا والآخرة .
" وفي الآخرة حسنة " : الواو فيها لعطف شيئين على شيئين ، فعطفت " في الأخرة حسنة " على " الدنيا حسنة " ، والحرف قد يعطف شيئين فأكثر على شيئين فأكثر ، تقول : أعلمت زيدا أخاك منطلقا وعمرا أباه مقيما ، إلا إن ناب عن عاملين ففيه خلاف ، وفي الجواز تفصيل . وليس هذا من الفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف والمجرور كما ظن بعضهم ، فأجاز ذلك مستدلا به على ضعف مذهب
الفارسي في أن ذلك مخصوص بالشعر : لأن الآية ليست من هذا الباب ، بل من عطف شيئين فأكثر على شيئين فأكثر ، وإنما الذي وقع فيه خلاف
أبي علي هو : ضربت زيدا وفي الدار عمرا ، وإنما يستدل على ضعف مذهب
أبي علي بقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=12الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ) ، وبقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) ، وتمام الكلام على هذه المسألة مذكور في علم النحو .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=201وقنا عذاب النار ) هو سؤال بالوقاية من النار ، وهو أن لا يدخلوها ، وهي نار جهنم ، وقيل : المرأة السوء الكثيرة الشر . وقال
القشيري : واللام في النار لام الجنس ، فتحصل الاستعاذة عن نيران الحرقة ونيران الفرقة ، انتهى . وظاهر هذا الدعاء أنه لما كان قولهم : وفي الآخرة حسنة ، يقتضي أن من دخل الجنة ، ولو آخر الناس ، صدق عليه أنه أوتي في الآخرة حسنة ، فدعوا
[ ص: 106 ] الله تعالى أن يكونوا مع دخول الجنة يقيهم عذاب النار ، فكأنه دعاء بدخول الجنة أولا دون عذاب ، وأنهم لا يكونون ممن يدخل النار بمعاصيهم ويخرجون منها بالشفاعة . ويحتمل أن يكون مؤكدا لطلب دخول الجنة ، كما قال بعض الصحابة :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10373945إنما أقول في دعائي : اللهم أدخلني الجنة ، وعافني من النار ، ولا أدري ما دندنتك ولا دندنة معاذ ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " حولها ندندن " .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=202أولئك لهم نصيب مما كسبوا ) ، تقدم انقسام الناس إلى فريقين : فريق اقتصر في سؤاله على دنياه ، وفريق أشرك في دنياه أخراه ، فالظاهر أن " أولئك " إشارة إلى الفريقين ، إذ المحكوم به ، وهو كون نصيب لهم مما كسبوا ، مشترك بينهما ، والمعنى : أن كل فريق له نصيب مما كسب ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر . ولا يكون الكسب هنا الدعاء ، بل هذا مجرد إخبار من الله بما يئول إليه أمر كل واحد من الفريقين ، وأن أنصباءهم من الخير والشر تابعة لأكسابهم .
وقيل : المراد بالكسب هنا الدعاء ، أي : لكل واحد منهم نصيب مما دعا به . وسمي الدعاء كسبا لأنه عمل ، فيكون ذلك ضمانا للإجابة ، وعدا منه تعالى أنه يعطي كلا منه نصيبا مما اقتضاه دعاؤه ، إما الدنيا فقط ، وإما الدنيا والآخرة ، فيكون كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=20من كان يريد حرث الآخرة ) ، و (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=18من كان يريد العاجلة ) ، و (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=15من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها ) الآيات . وكما جاء في الصحيح : وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا ما عمل لله بها ، فإذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها . وفي المعنى الأول لا يكون فيه وعد بالإجابة . و " من " في قوله : " مما كسبوا " يحتمل أن تكون للتبعيض ، أي : نصيب من جنس ما كسبوا ، ويحتمل أن يكون للسبب ، و " ما " يحتمل أن تكون موصولة لمعنى الذي ، أو موصولة مصدرية أي : من كسبهم ، وقيل : " أولئك " مختص بالإشارة إلى طالبي الحسنتين فقط ، ولم يذكر
ابن عطية غيره . وذكره
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري بإزائه . قال
ابن عطية : وعد على كسب الأعمال الصالحة في صيغة الإخبار المجرد ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : أولئك الداعون بالحسنتين لهم نصيب من جنس ما كسبوا من الأعمال الصالحة ، وهو الثواب الذي هو منافع الحسنة ، أو من أجل ما كسبوا ، كقوله : " مما خطاياهم أغرقوا " ، ثم قال بعد كلام : ويجوز أن يكون أولئك الفريقين جميعا ، وأن لكل فريق نصيبا من جنس ما كسبوا . انتهى كلامه .
والأظهر ما قدمناه من أن " أولئك " إشارة إلى الفريقين ، ويؤيده قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=202والله سريع الحساب ) ، وهذا ليس مما يختص به فريق دون فريق ، بل هذا بالنسبة لجميع الخلق ، والحساب يعم محاسبة العالم كلهم ، لا محاسبة هذا الفريق الطالب الحسنتين . وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : أن النصيب هنا مخصوص بمن حج عن ميت ، يكون الثواب بينه وبين الميت ، وروي عنه أيضا ، في حديث الذي سأل هل يحج عن أبيه ، وكان مات ؟ وفي آخره ، قال : فهل لي من أجر ؟ فنزلت هذه الآية ، قيل : وإذا صح هذا فتكون الآية منفصلة عن التي قبلها ، معلقة بما قبله من ذكر الحج ومناسكه وأحكامه ، انتهى . وليست كما ذكر منفصلة ، بل هي متصلة بما قبلها : لأن ما قبلها هو في الحج ، وأن انقسام الفريقين هو في الحج ، فمنهم من كان يسأل الله الدنيا فقط ، ومنهم من يسأل الدنيا والآخرة . وحصل الجواب للسائل عن حجه عن أبيه : أله فيه أجر ؟ لعموم قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=202أولئك لهم نصيب مما كسبوا ) ، وقد أجاب
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس بهذه الآية من سأله أن يكري دابته ويشرط عليهم أن يحج ، فهل يجزي عنه ؟ وذلك لعموم قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=202أولئك لهم نصيب مما كسبوا ) .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=202والله سريع الحساب ) ، ظاهره الإخبار عنه تعالى بسرعة حسابه ، وسرعته بانقضائه عاجلا كقصد مدته ، فروي : بقدر حلب شاة ، وروي بمقدار فواق ناقة ، وروي بمقدار لمحة البصر . أو لكونه لا يحتاج إلى فكر ، ولا روية كالعاجز ، قاله
أبو سليمان . أو لما علم ما للمحاسب وما عليه قبل حسابه ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج . أو لكون حساب العالم كحساب رجل واحد ، ولقرب مجيء الحساب ، قاله
مقاتل . وقيل : كني
[ ص: 107 ] بالحساب عن المجازاة على الأعمال إذ كانت ناشئة عنها كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=26ولم أدر ما حسابيه ) ، يعني ما جزائي ، وقيل : كني بالحساب عن العلم بمجاري الأمور : لأن الحساب يفضي إلى العلم ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج أيضا . وقيل : عبر بالحساب عن القبول لدعاء عباده ، وقيل : عبر به عن القدرة والوفاء ، أي : لا يؤخر ثواب محسن ولا عقاب مسيء . وقيل : هو على حذف مضاف ، أي : سريع مجيء يوم الحساب . فالمقصود بالآية الإنذار بسرعة يوم القيامة . وقيل : سرعة الحساب ، تعالى رحمته وكثرتها ، فهي لا تغب ولا تنقطع . وروي ما يقاربه عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس .
وظاهر سياق هذا الكلام عموم الحساب للكافر والمؤمن إذ جاء بعد ما ظاهره أنه للطائعين ، ويكون حساب الكفار تقريعا وتوبيخا : لأنه ليس له حسنة في الآخرة يجزى بها ، وهو ظاهر قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=26ولم أدر ما حسابيه ) ، وقال الجمهور : الكفار لا يحاسبون ، قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=105فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=23وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) ، وظاهر ثقل الموازين وخفتها ، وما ترتب عليها في الآيات الواردة في القرآن شمول الحسنات للبر والفاجر ، والمؤمن والكافر . وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة : أن الحج له أشهر معلومات ، وجمعها على أشهر لقلتها ، وهي : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، بكمالها ، على ما يقتضيه ظاهر الجمع ، ووصفها بمعلومات : لعلمهم بها . وأخبر تعالى أن من ألزم نفسه الحج فيها فلا يرفث ولا يفسق ولا يجادل ، فنهاه عن مفسد الحج مما كان جائزا قبله ، وما كان غير جائز مطلقا ليسوي بين التحريمين ، وإن كان أحدهما مؤقتا ، والآخر ليس بمؤقت . ثم لما نهى عن هذه المفسدات ، أخبر تعالى أن ما يفعله الإنسان من الخير الذي فرض الحج منه يعلمه الله ، فهو تعالى يثيب عليه . ثم أمر تعالى بالتزود للدار الآخرة بأعمال الطاعات ، ودخل فيها ما هم ملتبسون به من الحج ، وأخبر أن خير الزاد هو ما كان وقاية بينك وبين النار ، ثم نادى ذوي العقول ، الذين هم أهل الخطاب ، وأمرهم باتقاء عقابه : لأنه قد تقدم ذكر المناهي ، فناسب أن ينتهوا على اتقاء عذاب الله بالمخالفة فيما نهى عنه ، ثم إنه لما كان الحاج مشغولا بهذه العبادة الشاقة ، ملتبسا بأقوالها وأفعالها ، كان مما يتوهم أنها لا يمزج وقتها بشيء غير أفعالها ، فبين تعالى أنه لا حرج على من ابتغى فيها فضلا بتجارة ، أو إجارة ، أو غير ذلك من الأعمال المعينة على كلف الدنيا ، ثم أمرهم تعالى بذكره عند المشعر الحرام إذا أفاضوا من
عرفات ، ليرجعهم بذكره إلى الاشتغال بأفعال الحج ، لئلا يستغرقهم التعلق بالتجارات والمكاسب ، ثم أمرهم بالذكر على هدايته التي منحها إياهم ، وقد كانوا قبل في ضلال ، فاصطفاهم للهداية ، ثم أمرهم بأن يفيضوا من حيث أفاض الناس ، وهي التي جرت عادة الناس بأن يفيضوا منها ، وذلك المكان هو
عرفة ، والمعنى أنهم أمروا أن يكونوا تلك الإفاضة السابقة من
عرفة لا من غيرها ، كما ذكر في سبب النزول . وأتى " بثم " لا لترتيب في الزمان ، بل للترتيب في الذكر ، لا في الوقوع . ثم أمر بالاستغفار ، ثم أمر بعد أداء المناسك بذكر الله تعالى ، ولما كان الإنسان كثيرا ما يذكر أباه ويثني عليه بما أسلفه من كريم المآثر ، وكان ذلك عندهم الغاية في الذكر ، مثل ذكر الله بذلك الذكر ، ثم أكد مطلوبية المبالغة في الذكر بقوله : " أو أشد " ليفهم أن ما مثل به أولا ليس إلا على طريق ضرب المثل لهم . والمقصود أن لا يغفلوا عن ذكر الله تعالى طرفة عين . ثم قسم مقصد الحاج إلى دنيوي صرف ، وإلى دنيوي وأخروي ، وبين ذلك في سؤاله إياه ، وذكر أن من اقتصر على دنياه ، فإنه لا حظ له في الآخرة ، ثم أشار إلى مجموع الصنفين بأن كلا منهما له مما كسب من أعمال حظ ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، وأنه تعالى حسابه سريع ، فيجازي العبد بما كسب .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=200فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا ) ، قَالُوا : بَيَّنَ تَعَالَى حَالَ الذَّاكِرِينَ لَهُ قَبْلَ مَبْعَثِهِ ، وَحَالَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ مَبْعَثِهِ ، وَعِلْمَهُمْ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ . وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا تَقْسِيمٌ لِلْمَأْمُورِينَ بِالذِّكْرِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْمَنَاسِكِ ، وَأَنَّهُمْ يَنْقَسِمُونَ فِي السُّؤَالِ إِلَى مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ حُبُّ الدُّنْيَا ، فَلَا يَدْعُو إِلَّا بِهَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدْعُو بِصَلَاحِ حَالِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَأَنَّ هَذَا مِنَ الِالْتِفَاتِ . وَلَوْ جَاءَ عَلَى الْخِطَابِ لَكَانَ فَمِنْكُمْ مَنْ يَقُولُ : وَمِنْكُمْ . وَحِكْمَةُ هَذَا الِالْتِفَاتِ أَنَّهُمْ مَا وَجَّهُوا بِهَذَا الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْلُكَهُ عَاقِلٌ ، وَهُوَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الدُّنْيَا ، فَأُبْرِزُوا فِي صُورَةِ أَنَّهُمْ غَيْرُ الْمُخَاطَبِينَ بِذِكْرِ اللَّهِ بِأَنْ جُعِلُوا فِي صُورَةِ الْغَائِبِينَ ، وَهَذَا مِنَ التَّقْسِيمِ الَّذِي هُوَ مِنْ جُمْلَةِ ضُرُوبِ الْبَيَانِ ، وَهُوَ تَقْسِيمٌ بَدِيعٌ يَحْصُرُهُ الْمُقَسِّمُ إِلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ ، لَا عَلَى مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ الصُّوفِيَّةَ مِنْ أَنَّ ثَمَّ قِسْمًا ثَالِثًا لَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ تَعَالَى ، قَالُوا : وَهُمُ الرَّاضُونَ بِقَضَائِهِ ، الْمُسْتَسْلِمُونَ لِأَمْرِهِ ، السَّاكِتُونَ عَنْ كُلِّ دُعَاءٍ ، وَافْتِشَاءٍ ، وَمَفْعُولُ " آتِنَا " الثَّانِي مَحْذُوفٌ ، تَقْدِيرُهُ : مَا نُرِيدُ ، أَوْ مَطْلُوبَنَا ، أَوْ مَا أَشْبَهَ . هَذَا وَجَعْلُ " فِي " زَائِدَةً ، وَتَكُونُ الدُّنْيَا الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ قَوْلٌ سَاقِطٌ ، وَكَذَلِكَ جَعْلُ
[ ص: 105 ] " فِي " بِمَعْنَى : مِنْ ، حَتَّى يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ ، وَحَذْفُ مَفْعُولَيْ آتَى وَأَحَدِهِمَا جَائِزٌ اخْتِصَارًا وَاقْتِصَارًا : لِأَنَّ هَذَا بَابُ أَعْطَى ، وَذَلِكَ جَائِزٌ فِيهِ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=200وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ) ، تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ) ، وَاحْتَمَلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ هُنَا مَعْنَيَيْنِ ، أَحَدُهُمَا : الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ لَا نَصِيبَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ لِاقْتِصَارِهِ عَلَى الدُّنْيَا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِخْبَارًا عَنِ الدَّاعِي بِأَنَّهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ طَلَبِ نَصِيبٍ ، فَيَكُونُ هَذَا كَالتَّوْكِيدِ لِاقْتِصَارِهِ عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا ، وَجَمَعَ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=200رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا ) ، وَلَوْ جَرَى عَلَى لَفْظِ مَنْ ، لَكَانَ : رَبِّ آتِنِي . وَرُوعِيَ الْجَمْعُ هُنَا لِكَثْرَةِ مَنْ يَرْغَبُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى مَطَالِبِ الدُّنْيَا وَنَيْلِهَا ، وَلَوْ أَفْرَدَ لَتُوُهِّمَ أَنَّ ذَلِكَ قَلِيلٌ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=201وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ) ، الْحَسَنَةُ مُطْلَقَةٌ ، وَالْمَعْنَى : أَنَّهُمْ سَأَلُوا اللَّهَ فِي الدُّنْيَا الْحَالَةَ الْحَسَنَةَ ، وَقَدْ مَثَّلَ الْمُفَسِّرُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ ، قَالَهُ
عَلِيٌّ . أَوِ الْعَافِيَةُ فِي الصِّحَّةِ وَكَفَافُ الْمَالِ ، قَالَهُ
قَتَادَةُ . أَوِ الْعِلْمُ ، أَوِ الْعِبَادَةُ ، قَالَهُ
الْحَسَنُ . أَوِ الْمَالُ ، قَالَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14468السُّدِّيُّ ،
وَأَبُو وَائِلٍ ،
وَابْنُ زَيْدٍ . أَوِ الرِّزْقُ الْوَاسِعُ ، قَالَهُ
مُقَاتِلٌ . أَوِ النِّعْمَةُ فِي الدُّنْيَا ، قَالَهُ :
ابْنُ قُتَيْبَةَ . أَوِ الْقَنَاعَةُ بِالرِّزْقِ ، أَوِ التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ ، أَوِ الْأَوْلَادُ الْأَبْرَارُ ، أَوِ الثَّبَاتُ عَلَى الْإِيمَانِ ، أَوْ حَلَاوَةُ الطَّاعَةِ ، أَوِ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ ، أَوْ ثَنَاءُ الْخَلْقِ ، أَوِ الصِّحَّةُ وَالْأَمْنُ وَالْكَفَاءَةُ وَالنُّصْرَةُ عَلَى الْأَعْدَاءِ ، أَوِ الْفَهْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى . أَوْ صُحْبَةُ الصَّالِحِينَ ، قَالَهُ
جَعْفَرٌ . وَعَنِ الصُّوفِيَّةِ فِي ذَلِكَ مُثُلٌ كَثِيرَةٌ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=201وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ) ، مَثَّلُوا حَسَنَةَ الْآخِرَةِ بِأَنَّهَا الْجَنَّةُ ، أَوِ الْعَفْوُ وَالْمَغْفِرَةُ وَالسَّلَامَةُ مِنْ هَوْلِ الْمَوْقِفِ وَسُوءِ الْحِسَابِ ، أَوِ النِّعْمَةُ ، أَوِ الْحُورُ الْعِينُ ، أَوْ تَيْسِيرُ الْحِسَابِ ، أَوْ مُرَافَقَةُ الْأَنْبِيَاءِ ، أَوْ لَذَّةُ الرُّؤْيَةِ ، أَوِ الرِّضَا ، أَوِ اللِّقَاءُ .
وَقَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ : هِيَ الْحَسَنَةُ بِإِجْمَاعٍ . قِيلَ : وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْحَسَنَتَانِ هُمَا الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ : لِثُبُوتِ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ الَّذِي زَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ صَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ ، وَأَنَّهُ سَأَلَهُ عَمَّا كَانَ يَدْعُو بِهِ ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ اللَّهَ فِي الدُّنْيَا تَعْجِيلَ مَا يُعَاقِبُهُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ ، وَأَنَّهُ قَالَ لَهُ : " لَا تَسْتَطِيعُهُ " وَقَالَ : " هَلَّا قُلْتَ : اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا . . . " إِلَى آخِرِهِ . فَدَعَا بِهِمَا اللَّهَ تَعَالَى فَشَفَاهُ . وَصَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْثَرُ مَا كَانَ يَدْعُو بِهِ ، وَكَانَ يَقُولُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ
الرُّكْنِ وَالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ، وَكَانَ يَأْمُرُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ دُعَاءِ الْمُسْلِمِ فِي الْمَوْقِفِ .
وَأَبُو بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ قَالَهَا فِي الْمَوْسِمِ عَامَ الْفَتْحِ ، ثُمَّ اتَّبَعَهُ
عَلِيٌّ ، وَالنَّاسُ أَجْمَعُونَ .
وَأَنَسٌ سُئِلَ الدُّعَاءَ فَدَعَا بِهَا ، ثُمَّ سُئِلَ الزِّيَادَةَ فَأَعَادَهَا ، ثُمَّ سُئِلَ الزِّيَادَةَ فَقَالَ : مَا تُرِيدُونَ ؟ قَدْ سَأَلْتُ اللَّهَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
" وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً " : الْوَاوُ فِيهَا لِعَطْفِ شَيْئَيْنِ عَلَى شَيْئَيْنِ ، فَعَطَفَتْ " فِي الْأَخَرَةِ حَسَنَةً " عَلَى " الدُّنْيَا حَسَنَةً " ، وَالْحَرْفُ قَدْ يَعْطِفُ شَيْئَيْنِ فَأَكْثَرَ عَلَى شَيْئَيْنِ فَأَكْثَرَ ، تَقُولُ : أَعْلَمْتُ زَيْدًا أَخَاكَ مُنْطَلِقًا وَعَمْرًا أَبَاهُ مُقِيمًا ، إِلَّا إِنْ نَابَ عَنْ عَامِلَيْنِ فَفِيهِ خِلَافٌ ، وَفِي الْجَوَازِ تَفْصِيلٌ . وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَالْمَعْطُوفِ بِالظَّرْفِ وَالْمَجْرُورِ كَمَا ظَنَّ بَعْضُهُمْ ، فَأَجَازَ ذَلِكَ مُسْتَدِلًّا بِهِ عَلَى ضِعْفِ مَذْهَبِ
الْفَارِسِيِّ فِي أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالشِّعْرِ : لِأَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْبَابِ ، بَلْ مِنْ عَطْفِ شَيْئَيْنِ فَأَكْثَرَ عَلَى شَيْئَيْنِ فَأَكْثَرَ ، وَإِنَّمَا الَّذِي وَقَعَ فِيهِ خِلَافُ
أَبِي عَلِيٍّ هُوَ : ضَرَبْتُ زَيْدًا وَفِي الدَّارِ عَمْرًا ، وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى ضَعْفِ مَذْهَبِ
أَبِي عَلِيٍّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=12اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ) ، وَبِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=201وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) هُوَ سُؤَالٌ بِالْوِقَايَةِ مِنَ النَّارِ ، وَهُوَ أَنْ لَا يَدْخُلُوهَا ، وَهِيَ نَارُ جَهَنَّمَ ، وَقِيلَ : الْمَرْأَةُ السُّوءُ الْكَثِيرَةُ الشَّرِّ . وَقَالَ
الْقُشَيْرِيُّ : وَاللَّامُ فِي النَّارِ لَامُ الْجِنْسِ ، فَتَحْصُلُ الِاسْتِعَاذَةُ عَنْ نِيرَانِ الْحُرْقَةِ وَنِيرَانِ الْفُرْقَةِ ، انْتَهَى . وَظَاهِرُ هَذَا الدُّعَاءِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُمْ : وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ، يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَلَوْ آخِرَ النَّاسِ ، صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ أُوتِيَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ، فَدَعَوُا
[ ص: 106 ] اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَكُونُوا مَعَ دُخُولِ الْجَنَّةِ يَقِيهِمْ عَذَابَ النَّارِ ، فَكَأَنَّهُ دُعَاءٌ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ أَوَّلًا دُونَ عَذَابٍ ، وَأَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ مِمَّنْ يُدْخَلُ النَّارَ بِمَعَاصِيهِمْ وَيُخْرَجُونَ مِنْهَا بِالشَّفَاعَةِ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُؤَكِّدًا لِطَلَبِ دُخُولِ الْجَنَّةِ ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10373945إِنَّمَا أَقُولُ فِي دُعَائِي : اللَّهُمَّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ ، وَعَافِنِي مِنَ النَّارِ ، وَلَا أَدْرِي مَا دَنْدَنَتُكَ وَلَا دَنْدَنَةُ مُعَاذٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ " .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=202أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا ) ، تَقَدَّمَ انْقِسَامُ النَّاسِ إِلَى فَرِيقَيْنِ : فَرِيقٌ اقْتَصَرَ فِي سُؤَالِهِ عَلَى دُنْيَاهُ ، وَفَرِيقٌ أَشْرَكَ فِي دُنْيَاهُ أُخْرَاهُ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ " أُولَئِكَ " إِشَارَةٌ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ ، إِذِ الْمَحْكُومُ بِهِ ، وَهُوَ كَوْنُ نَصِيبٍ لَهُمْ مِمَّا كَسَبُوا ، مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا ، وَالْمَعْنَى : أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ لَهُ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبَ ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ . وَلَا يَكُونُ الْكَسْبُ هُنَا الدُّعَاءَ ، بَلْ هَذَا مُجَرَّدُ إِخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ بِمَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ ، وَأَنَّ أَنْصِبَاءَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ تَابِعَةٌ لِأَكْسَابِهِمْ .
وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِالْكَسْبِ هُنَا الدُّعَاءُ ، أَيْ : لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نُصِيبٌ مِمَّا دَعَا بِهِ . وَسُمِّيَ الدُّعَاءُ كَسْبًا لِأَنَّهُ عَمَلٌ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ ضَمَانًا لِلْإِجَابَةِ ، وَعْدًا مِنْهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُعْطِي كُلًّا مِنْهُ نَصِيبًا مِمَّا اقْتَضَاهُ دُعَاؤُهُ ، إِمَّا الدُّنْيَا فَقَطْ ، وَإِمَّا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=20مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ ) ، وَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=18مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ ) ، وَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=15مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ) الْآيَاتِ . وَكَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ : وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطَعَمُ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا مَا عَمِلَ لِلَّهِ بِهَا ، فَإِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا . وَفِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَا يَكُونُ فِيهِ وَعْدٌ بِالْإِجَابَةِ . وَ " مِنْ " فِي قَوْلِهِ : " مِمَّا كَسَبُوا " يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ ، أَيْ : نَصِيبٌ مِنْ جِنْسِ مَا كَسَبُوا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلسَّبَبِ ، وَ " مَا " يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً لِمَعْنَى الَّذِي ، أَوْ مَوْصُولَةً مَصْدَرِيَّةً أَيْ : مِنْ كَسْبِهِمْ ، وَقِيلَ : " أُولَئِكَ " مُخْتَصٌّ بِالْإِشَارَةِ إِلَى طَالِبِي الْحَسَنَتَيْنِ فَقَطْ ، وَلَمْ يَذْكُرِ
ابْنُ عَطِيَّةَ غَيْرَهَ . وَذَكَرَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ بِإِزَائِهِ . قَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ : وَعَدَ عَلَى كَسْبِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي صِيغَةِ الْإِخْبَارِ الْمُجَرَّدِ ، وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ : أُولَئِكَ الدَّاعُونَ بِالْحَسَنَتَيْنِ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ جِنْسِ مَا كَسَبُوا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، وَهُوَ الثَّوَابُ الَّذِي هُوَ مَنَافِعُ الْحَسَنَةِ ، أَوْ مِنْ أَجْلِ مَا كَسَبُوا ، كَقَوْلِهِ : " مِمَّا خَطَايَاهُمْ أُغْرِقُوا " ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ كَلَامٍ : وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا ، وَأَنَّ لِكُلِّ فَرِيقٍ نَصِيبًا مِنْ جِنْسِ مَا كَسَبُوا . انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَالْأَظْهَرُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ " أُولَئِكَ " إِشَارَةٌ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=202وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) ، وَهَذَا لَيْسَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ فَرِيقٌ دُونَ فَرِيقٍ ، بَلْ هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ ، وَالْحِسَابُ يَعُمُّ مُحَاسَبَةَ الْعَالَمِ كُلِّهِمْ ، لَا مُحَاسَبَةَ هَذَا الْفَرِيقِ الطَّالِبِ الْحَسَنَتَيْنِ . وَرُوِيَ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ النَّصِيبَ هُنَا مَخْصُوصٌ بِمَنْ حَجَّ عَنْ مَيِّتٍ ، يَكُونُ الثَّوَابُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا ، فِي حَدِيثِ الَّذِي سَأَلَ هَلْ يَحُجُّ عَنْ أَبِيهِ ، وَكَانَ مَاتَ ؟ وَفِي آخِرِهِ ، قَالَ : فَهَلْ لِي مِنْ أَجْرٍ ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ، قِيلَ : وَإِذَا صَحَّ هَذَا فَتَكُونُ الْآيَةُ مُنْفَصِلَةً عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا ، مُعَلَّقَةً بِمَا قَبْلَهُ مِنْ ذِكْرِ الْحَجِّ وَمَنَاسِكِهِ وَأَحْكَامِهِ ، انْتَهَى . وَلَيْسَتْ كَمَا ذَكَرَ مُنْفَصِلَةً ، بَلْ هِيَ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا : لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا هُوَ فِي الْحَجِّ ، وَأَنَّ انْقِسَامَ الْفَرِيقَيْنِ هُوَ فِي الْحَجِّ ، فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَسْأَلُ اللَّهَ الدُّنْيَا فَقَطْ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْأَلُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ . وَحَصَلَ الْجَوَابُ لِلسَّائِلِ عَنْ حَجِّهِ عَنْ أَبِيهِ : أَلَهُ فِيهِ أَجْرٌ ؟ لِعُمُومِ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=202أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا ) ، وَقَدْ أَجَابَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ سَأَلَهُ أَنْ يَكْرِيَ دَابَّتَهُ وَيَشْرُطُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَحُجَّ ، فَهَلْ يَجْزِي عَنْهُ ؟ وَذَلِكَ لِعُمُومِ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=202أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا ) .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=202وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) ، ظَاهِرُهُ الْإِخْبَارُ عَنْهُ تَعَالَى بِسُرْعَةِ حِسَابِهِ ، وَسُرْعَتُهُ بِانْقِضَائِهِ عَاجِلًا كَقَصْدِ مُدَّتِهِ ، فَرُوِيَ : بِقَدَرِ حَلْبِ شَاةٍ ، وَرُوِيَ بِمِقْدَارِ فَوَاقِ نَاقَةٍ ، وَرُوِيَ بِمِقْدَارِ لَمْحَةِ الْبَصَرِ . أَوْ لِكَوْنِهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى فِكْرٍ ، وَلَا رَوِيَّةٍ كَالْعَاجِزِ ، قَالَهُ
أَبُو سُلَيْمَانَ . أَوْ لِمَا عَلِمَ مَا لِلْمُحَاسَبِ وَمَا عَلَيْهِ قَبْلَ حِسَابِهِ ، قَالَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزَّجَّاجُ . أَوْ لِكَوْنِ حِسَابِ الْعَالَمِ كَحِسَابِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، وَلِقُرْبِ مَجِيءِ الْحِسَابِ ، قَالَهُ
مُقَاتِلٌ . وَقِيلَ : كُنِّيَ
[ ص: 107 ] بِالْحِسَابِ عَنِ الْمُجَازَاةِ عَلَى الْأَعْمَالِ إِذْ كَانَتْ نَاشِئَةً عَنْهَا كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=26وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ) ، يَعْنِي مَا جَزَائِي ، وَقِيلَ : كُنِّيَ بِالْحِسَابِ عَنِ الْعِلْمِ بِمَجَارِي الْأُمُورِ : لِأَنَّ الْحِسَابَ يُفْضِي إِلَى الْعِلْمِ ، قَالَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزَّجَّاجُ أَيْضًا . وَقِيلَ : عَبَّرَ بِالْحِسَابِ عَنِ الْقَبُولِ لِدُعَاءِ عِبَادِهِ ، وَقِيلَ : عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْقُدْرَةِ وَالْوَفَاءِ ، أَيْ : لَا يُؤَخِّرُ ثَوَابَ مُحْسِنٍ وَلَا عِقَابَ مُسِيءٍ . وَقِيلَ : هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ ، أَيْ : سَرِيعُ مَجِيءِ يَوْمِ الْحِسَابِ . فَالْمَقْصُودُ بِالْآيَةِ الْإِنْذَارُ بِسُرْعَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ . وَقِيلَ : سُرْعَةِ الْحِسَابِ ، تَعَالَى رَحْمَتُهُ وَكَثْرَتُهَا ، فَهِيَ لَا تُغَبُّ وَلَا تَنْقَطِعُ . وَرُوِيَ مَا يُقَارِبُهُ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَظَاهِرُ سِيَاقِ هَذَا الْكَلَامِ عُمُومُ الْحِسَابِ لِلْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ إِذْ جَاءَ بَعْدَ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لِلطَّائِعِينَ ، وَيَكُونُ حِسَابُ الْكُفَّارِ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا : لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَسَنَةٌ فِي الْآخِرَةِ يُجْزَى بِهَا ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=26وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ) ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ : الْكُفَّارُ لَا يُحَاسَبُونَ ، قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=105فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=23وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ) ، وَظَاهِرُ ثِقَلِ الْمَوَازِينِ وَخِفَّتِهَا ، وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا فِي الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ شُمُولُ الْحَسَنَاتِ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ ، وَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ . وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الشَّرِيفَةُ : أَنَّ الْحَجَّ لَهُ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ، وَجَمَعَهَا عَلَى أَشْهُرٍ لِقِلَّتِهَا ، وَهِيَ : شَوَّالٌ ، وَذُو الْقَعْدَةِ ، وَذُو الْحَجَّةِ ، بِكَمَالِهَا ، عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْجَمْعِ ، وَوَصَفَهَا بِمَعْلُومَاتٍ : لِعِلْمِهِمْ بِهَا . وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْحَجَّ فِيهَا فَلَا يَرْفُثُ وَلَا يَفْسُقُ وَلَا يُجَادِلُ ، فَنَهَاهُ عَنْ مُفْسِدِ الْحَجِّ مِمَّا كَانَ جَائِزًا قَبْلَهُ ، وَمَا كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ مُطْلَقًا لِيُسَوِّيَ بَيْنَ التَّحْرِيمَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُؤَقَّتًا ، وَالْآخَرُ لَيْسَ بِمُؤَقَّتٍ . ثُمَّ لَمَّا نَهَى عَنْ هَذِهِ الْمُفْسِدَاتِ ، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي فَرْضُ الْحَجِّ مِنْهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ، فَهُوَ تَعَالَى يُثِيبُ عَلَيْهِ . ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى بِالتَّزَوُّدِ لِلدَّارِ الْآخِرَةِ بِأَعْمَالِ الطَّاعَاتِ ، وَدَخَلَ فِيهَا مَا هُمْ مُلْتَبِسُونَ بِهِ مِنَ الْحَجِّ ، وَأَخْبَرَ أَنَّ خَيْرَ الزَّادِ هُوَ مَا كَانَ وِقَايَةً بَيْنِكَ وَبَيْنَ النَّارِ ، ثُمَّ نَادَى ذَوِي الْعُقُولِ ، الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْخِطَابِ ، وَأَمَرَهُمْ بِاتِّقَاءِ عِقَابِهِ : لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمَنَاهِي ، فَنَاسَبَ أَنْ يَنْتَهُوا عَلَى اتِّقَاءِ عَذَابِ اللَّهِ بِالْمُخَالَفَةِ فِيمَا نَهَى عَنْهُ ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْحَاجُّ مَشْغُولًا بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ الشَّاقَّةِ ، مُلْتَبِسًا بِأَقْوَالِهَا وَأَفْعَالِهَا ، كَانَ مِمَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّهَا لَا يُمْزَجُ وَقْتُهَا بِشَيْءٍ غَيْرِ أَفْعَالِهَا ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَى مَنِ ابْتَغَى فِيهَا فَضْلًا بِتِجَارَةٍ ، أَوْ إِجَارَةٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُعِينَةِ عَلَى كُلَفِ الدُّنْيَا ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ تَعَالَى بِذِكْرِهِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ إِذَا أَفَاضُوا مِنْ
عَرَفَاتٍ ، لِيُرْجِعَهُمْ بِذِكْرِهِ إِلَى الِاشْتِغَالِ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ ، لِئَلَّا يَسْتَغْرِقَهُمُ التَّعَلُّقُ بِالتِّجَارَاتِ وَالْمَكَاسِبِ ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالذِّكْرِ عَلَى هِدَايَتِهِ الَّتِي مَنَحَهَا إِيَّاهُمْ ، وَقَدْ كَانُوا قَبْلُ فِي ضَلَالٍ ، فَاصْطَفَاهُمْ لِلْهِدَايَةِ ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يُفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ، وَهِيَ الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ بِأَنْ يُفِيضُوا مِنْهَا ، وَذَلِكَ الْمَكَانُ هُوَ
عَرَفَةُ ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أُمِرُوا أَنْ يَكُونُوا تِلْكَ الْإِفَاضَةَ السَّابِقَةَ مِنْ
عَرَفَةَ لَا مِنْ غَيْرِهَا ، كَمَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ . وَأَتَى " بِثُمَّ " لَا لِتَرْتِيبٍ فِي الزَّمَانِ ، بَلْ لِلتَّرْتِيبِ فِي الذِّكْرِ ، لَا فِي الْوُقُوعِ . ثُمَّ أَمَرَ بِالِاسْتِغْفَارِ ، ثُمَّ أَمَرَ بَعْدَ أَدَاءِ الْمَنَاسِكِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ كَثِيرًا مَا يَذْكُرُ أَبَاهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا أَسْلَفَهُ مِنْ كَرِيمِ الْمَآثِرِ ، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمُ الْغَايَةَ فِي الذِّكْرِ ، مَثَّلَ ذِكْرَ اللَّهِ بِذَلِكَ الذِّكْرِ ، ثُمَّ أَكَّدَ مَطْلُوبِيَّةَ الْمُبَالَغَةِ فِي الذِّكْرِ بِقَوْلِهِ : " أَوْ أَشَدَّ " لِيُفْهَمَ أَنَّ مَا مَثَّلَ بِهِ أَوَّلًا لَيْسَ إِلَّا عَلَى طَرِيقِ ضَرْبِ الْمَثَلِ لَهُمْ . وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا يَغْفُلُوا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى طَرْفَةَ عَيْنٍ . ثُمَّ قَسَّمَ مَقْصِدَ الْحَاجِّ إِلَى دُنْيَوِيٍّ صِرْفٍ ، وَإِلَى دُنْيَوِيٍّ وَأُخْرَوِيٍّ ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي سُؤَالِهِ إِيَّاهُ ، وَذَكَرَ أَنَّ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى دُنْيَاهُ ، فَإِنَّهُ لَا حَظَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى مَجْمُوعِ الصِّنْفَيْنِ بِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَهُ مِمَّا كَسَبَ مِنْ أَعْمَالٍ حَظٌّ ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ ، وَأَنَّهُ تَعَالَى حِسَابُهُ سَرِيعٌ ، فَيُجَازِي الْعَبْدَ بِمَا كَسَبَ .