( وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون ) ، " تلك " : مبتدأ ، و " حدود " : خبر ، و " يبينها " : يحتمل أن يكون خبرا بعد خبر ، ويجوز أن يكون في موضع الحال ، أي مبينة ، والعامل فيها اسم الإشارة ، وذو الحال : حدود الله ، كقوله تعالى : ( فتلك بيوتهم خاوية ) . و " لقوم " متعلق بـ " يبينها " ، و " تلك " : إشارة إلى ما تقدم من الأحكام ، وقرئ : " نبينها " بالنون على طريق الالتفات ، وهي قراءة تروى عن عاصم . ومعنى التبين هنا : الإيضاح ، وخص المبين لهم بالعلم تشريفا لهم ؛ لأنهم الذين ينتفعون بما بين الله تعالى من نصب دليل على ذلك من قول أو فعل ، وإن كان التبين بمعنى خلق البيان ، فلا بد من تخصيص المبين لهم الذين يعلمون بالذكر ؛ لأن من طبع على قلبه لا يخلق في قلبه التبيين . وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة نهي الله عباده عن ابتذال اسمه تعالى ، وجعله كثير الترداد ، وعلى ألسنتهم في أقسامهم على بر وتقوى وإصلاح ؛ فدل ذلك على أن مبالغة النهي عن ذلك في أقسامهم على ما ينافي البر والتقوى والصلاح بجهة الأحرى والأولى ؛ لأن الإكثار من اليمين بالله تعالى فيه عدم مبالاة ، واكتراث المقسم به ؛ إذ الأيمان معرضة لحنث الإنسان فيها كثيرا ، وقل أن يرى كثير الحلف إلا كثير الحنث . ثم ختم هذه الآية بأنه تعالى سميع لأقوالهم ، عليم بنياتهم . ولما تقدم النهي عن ما ذكرناه ، سامحهم الله تعالى بأن ما كان يسبق على ألسنتهم على سبيل اللغو ، وعدم القصد لليمين لا يؤاخذون به ، وإنما يؤاخذ بما انطوى عليه الضمير ، وكسبه القلب بالتعهد ، ثم ختم هذه الآية بما يدل على المسامحة في لغو اليمين من صفة الغفران والحلم . ولما تقدم كثير من الأحكام مع النساء ؛ ذكر حكم الإيلاء مع النساء ، وهو : الحلف على الامتناع من وطئهن ؛ فجعل لذلك مدة ، وهو أربعة أشهر أقصى ما تصبر المرأة عن زوجها غالبا ، ثم بعد انتظار هذه المدة وانقضائها إن فاء فإن الله غفور ، لا يؤاخذه بل يسامحه في تلك اليمين ، وإن عزم الطلاق أوقعه . ولما جرى ذكر الطلاق [ ص: 205 ] استطرد إلى ذكر جملة من أحكامه ؛ فذكر عدة المطلقة وأنها ثلاثة قروء ، ودل ذكر القرء على أن المراد بالمطلقات هن النساء اللواتي يحضن ويطهرن ، ولم يطلقن قبل المسيس ولا هن حوامل ، ودل على إرادة هذه المخصصات آيات أخر ، وذكر تعالى أنه لا يحل لهن كتمان ما خلق الله في أرحامهن ، فعم الدم والولد ؛ لأنهن كن يكتمن ذلك لأغراض لهن ، وعلق ذلك على الإيمان بالله وهو الخالق ما في أرحامهن ، وعلى الإيمان بالله واليوم الآخر ، وهو الوقت الذي يقع فيه الحساب ، والثواب والعقاب على ما يرتكبه الإنسان من تحريم ما أحل الله ، وتحليل ما حرم الله ، ومخالفته فيما شرع . ثم ذكر تعالى أن أزواجهن الذين طلقوهن أحق بردهن في مدة العدة ، وشرط في الأحقية إرادة إصلاح الأزواج ؛ فدل على أنه إذا قصد برجعتها الضرر لا يكون أحق بالرد ، ثم ذكر تعالى أن للزوجة حقوقا على الرجل ، مثل ما أن للرجل حقوقا على الزوجة ، فكل منهما مطلوب بإيفاء ما يجب عليه ، ثم ذكر أن للرجل مزيد مزية ودرجة على المرأة ؛ فيكون حق الرجل أكثر وطواعية المرأة له ألزم ، ولم يبين الدرجة ما هي ، ويظهر أنها ما يؤلف من كثرة الطواعية ، والاهتبال بقدره ، والتعظيم له ؛ لأن قبله : " بالمعروف " وهو الشيء الذي عرفه الناس في عوائدهم من كثرة تودد المرأة لزوجها وامتثال ما يأمر به . وختم هذه الآية بوصف العزة : وهي الغلبة والقهر ، والحكمة : وهي وضع الشيء موضع ما يليق به ، وهما الوصفان اللذان يحتاج إليهما التكليف . ثم ذكر تعالى أن الطلاق الذي يستحق فيه الزوج الرجعة في تلك العدة هو مرتان ، طلقة بعد طلقة ، وبعد وقوع الطلقتين إما أن يردها ويمسكها بمعروف ، أو يسرحها بإحسان ، ثم ذكر عقب هذا حكم الخلع ؛ لأن مشروعيته لا تكون إلا قبل وجود الطلقة الثالثة ، وأما بعدها فلا ينبغي خلع ؛ فلذلك جاء بين الطلاق الذي له فيه رجعة ، وبين الطلاق الذي يبت العصمة . وذكر من أحكامه أنه لا يحل أخذ شيء من مال الزوجة إلا بشرط أن يخافا أن لا يقيما حدود الله ، ثم أكد ذلك بذكر الخوف أن لا يقيما حدود الله ؛ فجعل ذلك منهما معا ، فلو خاف أحدهما لم يجز الخلع ، هذا ظاهر الآية . ثم نهى تعالى عن تعدي حدود الله وتجاوزها ، وأخبر أن من تعداها ظالم . قال تعالى ( فإن طلقها ) يعني : ثلاثة ، والمعنى : إن أوقع التسريح المردد فيه في قوله : ( فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) ، فهي لا تحل له إلا بعد نكاح زوج غيره ، فإن طلقها الزوج الثاني ، وأراد الأول أن يراجعها فله ذلك ، لكنه شرط في هذا التراجع ظنهما إقامة حدود الله ، فمتى لم يظنا ذلك لم يجز لهما أن يتراجعا ، هذا ظاهر اللفظ . ثم ذكر تعالى أنه يوضح آياته لقوم متصفين بالعلم ، أما من لا يعلم فهو أعمى لا يبصر شيئا من الآيات ، ولا يتضح له : ( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب ) .