لعمري لأنت البيت أكرم أهله
فأكرم عندهم صلة للبيت لا موضع له من الإعراب ، كذلك : " من بني إسرائيل " العامل فيه لا موضع له من الإعراب . ( من بعد موسى ) متعلق بما تعلق به ( من بني إسرائيل ) [ ص: 254 ] وهو كائنين ، وتعدى إلى حرفي جر من لفظ واحد لاختلاف المعنى ؛ فـ " من " الأولى تبعيضية و " من " الثانية لابتداء الغاية ؛ إذ العامل في هذا الظرف ، قالوا " تر " ، وقالوا : هو بدل من " بعد " ؛ لأنهما زمانان لبني إسرائيل ، وكلاهما لا يصح . أما الأول : فإن " ألم تر " تقرير ، والمعنى : قد انتهى علمك إلى الملأ من بني إسرائيل ، وقد نظرت إلى بني إسرائيل إذ قالوا ، وليس انتهاء علمه إليهم ، ولا نظره إليهم كان في وقت قولهم لنبي لهم : ( ابعث لنا ملكا ) ، وإذا لم يكن ظرفا للانتهاء ، ولا للنظر ، فكيف يكون معمولا لهما ، أو لأحدهما ؟ هذا ما لا يصح . وأما الثاني : فبعيد جدا ؛ لأنه لو كان بدلا من " بعد " لكان على تقدير العامل ، وهو لا يصح دخوله عليه ، أعني " من " الداخلة على " بعد " لا تدخل على " إذ " ، لا تقول : من إذ ، ولو كان من الظروف التي يدخل عليها " من " كوقت وحين ، لم يصح المعنى أيضا ؛ لأن " من بعد موسى " حال كما قررناه ؛ إذ العامل فيه : كائنين ، ولو قلت : كائنين من حين قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا ؛ لما صح هذا المعنى ، وإذا بطل هذان الوجهان ، فينظر ما يعمل فيه مما يصح به المعنى ، وقد وجدناه ، وهو : أن يكون ثم محذوف به يصح المعنى ، وهو العامل ، وذلك المحذوف تقديره : ألم تر إلى قصة الملأ ، أو حديث الملأ ، وما في معناه ؛ لأن الذوات لا يتعجب منها ، وإنما يتعجب مما جرى لهم ، فصار المعنى : ألم تر إلى ما جرى للملأ من بني إسرائيل من بعد موسى ، إذ قالوا ؟ فالعامل في " إذ " هو ذلك المحذوف ، والمعنى على تقديره ، وتعلق قوله " لنبي " بـ قالوا ، واللام فيه كما تقدم للتبليغ ، واسم هذا النبي : شمويل بن بالي ، قاله ، ابن عباس ، أو ووهب بن منبه شمعون ، قاله ، أو السدي يوشع بن نون . وقال اسمه المحاسبي عيسى ، وضعف قول من قال : إنه يوشع ، بأن يوشع هو فتى موسى - عليه السلام - وبينه وبين داود قرون كثيرة ، وقد طول المفسرون في هذه ، ونحن نلخصها فنقول : لما مات موسى - عليه السلام - خلف من بعده في بني إسرائيل يوشع يقيم فيهم التوراة ، ثم قبض فخلف حزقيل ، ثم قبض ففشت فيهم الأحداث ، حتى عبدوا الأوثان فبعث إليهم إلياس ، ثم من بعده اليسع ، ثم قبض ، فعظمت فيهم الأحداث ، وظهر لهم عدوهم العمالقة قوم جالوت ، كانوا سكان ساحل بحر الروم ، بين مصر وفلسطين ، وظهروا عليهم وغلبوا على كثير من بلادهم ، وأسروا من أبناء ملوكهم كثيرا ، وضربوا عليهم الجزية ، وأخذوا توراتهم ، ولم يكن لهم من يدبر أمرهم ، وسألوا الله أن يبعث لهم نبيا يقاتلون معه ، وكان سبط النبوة هلكوا إلا امرأة حبلى دعت الله أن يرزقها غلاما ؛ فرزقها شمويل ، فتعلم التوراة في بيت المقدس ، وكفله شيخ من علمائهم وتبناه ، فلما بلغ النبوة أتاه جبريل وهو نائم إلى جنب الشيخ ، وكان لا يأمن عليه ، فدعاه بلحن الشيخ : يا شمويل ، فقام فزعا ، وقال : يا أبت دعوتني ، فكره أن يقول له : لا ؛ فيفزع ؛ فقال : يا بني نم ، فجرى بذلك له مرتين ، فقال له : إن دعوتك الثالثة فلا تجبني ، فظهر له جبريل ، فقال له اذهب فبلغ قومك رسالة ربك ، قد بعثك نبيا . فأتاهم فكذبوه ، وقالوا : إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله آية من نبوتك ، وكان قوام بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك ، وكان الملك يسير بالجموع ، والنبي يسدده ويرشده . وقال [ ص: 255 ] وهب : بعث شمويل نبيا فلبثوا أربعين سنة بأحسن حال ، وكان الله أسقط عنهم الجهاد إلا من قاتلهم ، فلما كتب عليهم القتال تولوا ، ثم كان من أمر جالوت والعمالقة ما كان . ومعنى " ابعث لنا ملكا " : أنهض لنا من نصدر عنه في تدبير الحرب ، وننتهي إلى أمره ، وانجزم " نقاتل " على جواب الأمر . وقرأ الجمهور بالنون والجزم . والضحاك ، بالياء ورفع اللام على الصفة للملك . وقرئ بالنون ورفع اللام على الحال من المجرور . وقرئ بالياء والجزم على جواب الأمر . وابن أبي عبلة
( قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ) لما طلبوا من نبيهم أن ينهض لهم ملكا ، ورتبوا على بعثه أن يقاتلوا ، وكانوا قد ذلوا ، وسبي ملوكهم ؛ فأخذتهم الأنفة ، ورغبوا في الجهاد - أراد أن يستثبت ما طلبوه من الجهاد ، وأن يتعرف ما انطوت عليه بواطنهم ، فاستفهم عن مقاربتهم ترك القتال إن كتب عليهم ، فأنكروا أن يكون لهم داع إلى ترك القتال ؛ فقالوا : ( وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ) ، أي : هذه حال من يبادر إلى القتال ؛ لأنه طالب ثأر ، ومترج أن يكون له الظفر من الله تعالى ؛ لأنهم علموا أن ما أصابهم إنما كان بذنوبهم ، فلما أقلعوا وتابوا ، ورجعوا لطوع الأنبياء ؛ قويت آمالهم بالنصر والظفر . قيل : وكان النبي قد ظن منهم الجبن والفشل في القتال ؛ فلذلك استفهم ؛ وليبين أن ما ظنه وتوقعه من ذلك يكون منهم ، وكان كما توقع . وقرأ نافع : " عسيتم " بكسر السين هنا وفي سورة القتال . وقرأ الباقون بفتحها . وقد تقدم الكلام على " عسى " . قال أبو علي : الأكثر فتح السين ، وهو المشهور ، ووجه الكسر قول العرب : هو عس بذلك ، مثل : حر وشج ، فإن أسند الفعل إلى ظاهر فقياس عسيتم أن يقال : عسي زيد ، مثل رضي ، فإن قيل : فهو القياس ، وإن لم يقل فسائغ أن تأخذ باللغتين وتستعمل إحداهما في موضع الأخرى ، كما فعل ذلك بغيره . انتهى . والمحفوظ عن العرب أنه لا تكسر السين إلا مع تاء المتكلم والمخاطب ونون الإناث ، نحو : عسيت وعسيت ، وعسين ، وذلك على سبيل الجواز لا الوجوب ، ويفتح فيما سوى ذلك على سبيل الوجوب ، ولا يسوغ الكسر نحو : عسى زيد ، والزيدان عسيا ، والزيدون عسوا ، والهندان عسيا ، وعساك ، وعاساني ، وعساه . وقاله أبو بكر الأدفوي وغيره : إن أهل الحجاز يكسرون السين من عسى مع المضمر خاصة ، وإذا قيل : عسى زيد فليس إلا الفتح ، وينبغي أن يقيد المضمر بما ذكرناه . وقال أبو عبيد : لو كان عسيتم بكسر السين لقرئ : عسي ربكم ، وهذا جهل من أبي عبيد بهذه اللغة ، ودخول " هل " على " عسيتم " دليل على أن عسى فعل خبري لا إنشائي ، والمشهور أن عسى إنشاء لأنه ترج ، فهي نظيرة لعل ؛ ولذلك لا يجوز أن يقع صلة للموصول ، لا يجوز أن تقول : جاءني الذي عسى أن يحسن إلي ، وقد خالف في هذه المسألة هشام ؛ فأجاز وصل الموصول بها ، ووقوعها خبرا لأن دليل على أنها فعل خبري ، وهو جائز ، قال الراجز :
[ ص: 256 ]
لا تلحني إني عسيت صائما
إلا إن قيل : إن ذلك على إضمار القول ، كما قيل في قوله :
إن الذين قتلتم أمس سيدهم لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما
لأن " إن وأخواتها " لا يجوز أن تقع خبرا لها من الجمل ، إلا الجمل الخبرية ، وهي التي تحتمل الصدق والكذب ، هذا على الصحيح ، وفي ذلك خلاف ضعيف . وجواب الشرط الذي هو " إن كتب عليكم القتال " محذوف للدلالة عليه ، وتوسط الشرط بين أجزاء الدليل على حذفه ، كما توسط في قوله : ( وإنا إن شاء الله لمهتدون ) ، وخبر " عسيتم " : " أن لا تقاتلوا " ، هذا على المشهور أنها تدخل على المبتدأ والخبر ، فيكون " أن " زيدت في الخبر ؛ إذ " عسى " للتراخي ، ومن ذهب إلى أن " عسى " يتعدى إلى مفعول ، جعل " أن لا تقاتلوا " هو المفعول ، و " أن " مصدرية ، والواو في " وما لنا " لربط هذا الكلام بما قبله ، ولو حذف لجاز أن يكون منقطعا عنه ، وهو استفهام في اللفظ ، وإنكار في المعنى ، و " أن لا نقاتل " ، أي : في ترك القتال ، حذف الجر المتعلق بما تعلق به " لنا " الواقع خبرا لما الاستفهامية ؛ إذ هي مبتدأ ، و " أن لا نقاتل " في موضع نصب ، أو في موضع جر على الخلاف الذي بين سيبويه والخليل ، وذهب أبو الحسن إلى أن " أن " زائدة ، وعملت النصب كما عمل باء الجر الزائد الجر ، والجملة حال ، أي : وما لنا غير مقاتلين ؛ فيكون مثل قوله تعالى : ( ما لك لا تأمنا على يوسف ) ، ( ما لكم لا ترجون لله وقارا ) ، ( وما لكم لا تؤمنون بالله ) ، وكقول العرب : ما لك قائما ؟ وقال تعالى : ( فما لهم عن التذكرة معرضين ، وذهب قوم منهم إلى حذف الواو من " أن لا نقاتل " ، والتقدير : وما لنا ولأن لا نقاتل ؟ قال : كما تقول : إياك أن تتكلم ، بمعنى إياك وأن تتكلم ، وهذا ومذهب ابن جرير أبي الحسن ليسا بشيء ؛ لأن الزيادة والحذف على خلاف الأصل ، ولا نذهب إليهما إلا لضرورة ، ولا ضرورة تدعو هنا إلى ذلك مع صحة المعنى في عدم الزيادة والحذف ، وأما : إياك أن تتكلم ، فليس على حذف حرف العطف ، بل إياك مضمن معنى احذر ؛ فأن تتكلم في موضع نصب كأنه قيل : احذر التكلم ، ( وقد أخرجنا ) جملة حالية : أنكروا ترك القتال ، وقد التبسوا بهذه الحال من إخراجهم من ديارهم وأبنائهم ، والقائل هذا لم يخرج ، لكنه أخرج مثله ؛ فكان ذلك إخراجا له ، ويمكن حمله على الظاهر ؛ لأن كثيرا منهم استولي على بلادهم ، وأسر أبناؤهم ؛ فارتحلوا إلى غير بلادهم التي كان منشؤهم بها ، كما مر في قصتهم . وقرأ : " وقد أخرجنا " ، أي : العدو ، والمعنى في : " وأبنائنا " ، أي : من بين أبنائنا ، وقيل : هو على القلب ، أي : وأخرج منا أبناؤنا ، ويحتمل أن يكون الفاعل بـ " أخرجنا " على قراءة عبيد المذكور ضميرا يعود على الله ، أي : وقد أخرجنا الله بعصياننا وذنوبنا ؛ فنحن نتوب ونقاتل في سبيله ليردنا إلى أوطاننا ، ويجمع بيننا وبين أبنائنا ، كما تقول : ما لي لا أطيع الله وقد عاقبني على معصيته ؟ فينبغي أن أطيعه حتى لا يعاقبني ، قال القشيري : أظهروا التجلد والتصلب في القتال ذبا عن أموالهم ومنازلهم ؛ حيث ( عبيد بن عمير قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ) ؛ فلذلك لم يتم قصدهم ؛ لأنه لم يخلص لحق الله عزمهم ، ولو أنهم قالوا : وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله لأنه قد أمرنا ، وأوجب علينا ؛ لعلهم وفقوا لإتمام ما قصدوا . ( فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم ) ، هذا شأن المترف المنعم ، متى كان متلبسا بالنعمة قوي عزمه وأنف ، فإذا ابتلي بشيء من الخطوب كع ، وذل التولي حقيقة هو عند المباشرة للحرب ، ومعناه هنا : صرف عزائمهم عن ما سألوه من القتال ، وانتصب " قليلا " على الاستثناء المتصل ، ولا يجوز أن يكون المستثنى منهما ، لو قلت : ضربت القوم إلا رجالا ؛ لم يصح ، وصح هذا لاختصاصه بأنه في نفسه صفة لموصوف ، ولتقييده بقوله " منهم " ، ولم يبين هنا عدة هذا القليل ، وبينته السنة ؛ صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن عدة من كان معه يوم بدر قال : ( ثلاثمائة وثلاثة عشر على عدة قوم [ ص: 257 ] طالوت ) ، وهؤلاء القليل ثبتوا على نياتهم السابقة ، واستمرت عزائمهم على قتال أعدائهم . وقرأ أبي : " تولوا إلا أن يكون قليل منهم " ، وهو استثناء منقطع ؛ لأن الكون معنى من المعاني ، والمستثنى منهم جثث . وتقول العرب : قام القوم إلا أن يكون زيد ، وزيدا ، بالرفع والنصب ؛ فالرفع على أن يكون تامة ، والنصب على أنها ناقصة ، واسمهما ضمير مستكن فيها يعود على البعض المفهوم مما قبله ، التقدير : إلا أن يكون هو ، أي : بعضهم زيدا ، والمعنى : قام القوم إلا كون زيد في القائمين ، ويلزم من انتفاء كونه في القائمين أنه ليس قائما ، فلا فرق من حيث المعنى بين قام القوم إلا زيدا ، وبين قام القوم إلا أن يكون زيد أو زيدا . ( والله عليم بالظالمين ) ، فيه وعيد وتهديد لمن تقاعد عن القتال بعد أن فرض عليه بسؤاله ورغبته ، وأن الإعراض عما أوجب الله على العبد ظلم ؛ إذ الظلم وضع الشيء في غير موضعه .