وأعجب شيء إلى عاقل فتو عن المجد مستأخره [ ص: 258 ] إذا سئلوا ما لهم من علا
أشاروا إلى أعظم ناخره
و " أنى " هنا بمعنى كيف ، وهو منصوب على الحال ، و " يكون " الظاهر أنها ناقصة ، و " له " في موضع الخبر ، فيتعلق بمحذوف ، وهو العامل في " أنى " ، و " علينا " متعلق بـ " الملك " على معنى الاستعلاء ، تقول : فلان ملك على بني فلان ، وقيل : " علينا " حال من " الملك " . ويجوز أن تكون تامة و " له " متعلق بـ " يكون " ، أي : كيف يقع أو يحدث له الملك علينا ؟ " ونحن أحق " : جملة حالية اسمية عطف عليها جملة فعلية ، وهي : ( ولم يؤت سعة من المال ) ، والمعطوف على الحال حال ، والمعنى : أن من اجتمع فيه هذان الوصفان : وجود من هو أحق منه ، وفقره ؛ لا يصلح للملك . ويعلق " بالملك " ، و " منه " بـ " أحق " ، وتعلق " من المال " بـ " يؤت " ، وفتحت سين السعة لفتحها في المضارع ؛ إذ هو محمول عليه ، وقياسها الكسر ؛ لأنه كان أصله : يوسع ، كوثق يثق ، وإنما فتح عين المضارع لكون لامه حرف حلق ، فهذه فتحة أصلها الكسر ؛ ولذلك حذفت الواو ، لوقوعها في يسع بين ياء وكسرة ، لكن فتح لما ذكرناه ، ولو كان أصلها الفتح لم يجز حذف الواو ، ألا ترى ثبوتها في يوجل ؟ لأنها لم تقع بين كسرة وياء ، فالمصدر والأمر في الحذف محمولان على المضارع ، كما حملوا : عدة ووعد على يعد . ( قال إن الله اصطفاه عليكم ) ، أي : اختاره صفوة ؛ إذ هو أعلم تعالى بالمصالح ؛ فلا تعترضوا على الله . ( وزاده بسطة في العلم والجسم ) ، قيل : في العلم بالحروب ، والظاهر علم الديانات والشرائع . وقيل : قد أوحي إليه ونبئ ، وأما البسطة في الجسم ؛ فقيل : أريد بذلك : معاني الخير ، والشجاعة ، وقهر الأعداء ، والظاهر أنه : الامتداد ، والسعة في الجسم . قال : كان طالوت يومئذ أعلم رجل في ابن عباس بني إسرائيل ، وأجمله وأتمه ، وقد تقدم قول المفسرين في طوله ، ونبه على استحقاق طالوت للملك باصطفاء الله له على بني إسرائيل ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة ) ، وبما أعطاه من السعة في العلم ، وهو الوصف الذي لا شيء أشرف منه ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) أنا أعلمكم بالله ومن بسطة الجسم ؛ فإن لذلك عظما في النفوس وهيبة وقوة ، وكثيرا ما تمدحت العرب بذلك ، قال الشاعر :
فجاءت به سبط العظام كأنما عمامته بين الرجال لواء
بطل كأن ثيابه في سرحة يحذى نعال السبت ليس بتوأم
تبين لي أن القماءة ذلة وأن أعزاء الرجال طيالها
( والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم ) ، ظاهره أنه من معمول قول النبي لهم ، لما علم بغيتهم في مسائلهم ومجادلتهم في الحجج التي تبديها ؛ أتم كلامه بالأمر القطعي ، وهو أن الله هو الفاعل المختار ، يفعل ما يشاء . ولما قالوا : ( ونحن أحق بالملك منه ) ، فكان في قولهم ادعاء الأحقية في الملك ، حتى كأن الملك هو في ملكهم ؛ أضاف الملك إلى الله في قوله : " ملكا " ، فالملك ملكه يتصرف فيه كما أراد ؛ فلستم بأحق فيه ؛ لأنه ملك الله يؤتيه من يشاء . وقيل : هاتان الجملتان ليستا داخلتين في قول النبي ، بل هي إخبار من الله تعالى لنبيه محمد - صلى [ ص: 259 ] الله عليه وسلم - فهي معترضة في هذه القصة ، جاءت للتشديد والتقوية لمن يؤتيه الله الملك ، أي : فإذا كان الله تعالى هو المتصرف في ملكه فلا اعتراض عليه ( لا يسأل عما يفعل ) . وختم بهاتين الصفتين ؛ إذ تقدم دعواهم أنهم أهل الملك ، وأنهم الأغنياء ، وأن طالوت ليس من بيت الملك ، وأنه فقير ؛ فقال تعالى : إنه واسع ؛ يوسع فضله على الفقير ، عليم بمن هو أحق بالملك ؛ فيضعه فيه ويختاره له . وفي قصة طالوت دلالة على أن الإمامة ليست وراثة ؛ لإنكار الله عليهم ما أنكروه من التمليك عليهم من ليس من أهل النبوة والملك ، وبين أن ذلك مستحق بالعلم والقوة لا بالنسب ؛ ودل أيضا على أنه لا حظ للنسب مع العلم وفضائل النفس ، وأنها مقدمة عليه لاختيار الله طالوت عليهم لعلمه وقدرته ، وإن كانوا أشرف منه نسبا . وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة الإخبار بقصة الخارجين من ديارهم - وهم عالم لا يحصون - فرارا من الموت ، إما بالقتل ؛ إذ فرض عليهم القتال ، وإما بالوباء ؛ فأماتهم الله ثم أحياهم ليعلموا أنه لا مفر مما قدره الله تعالى ، وذلك لئلا نسلك ما سلكوه ؛ فنحجم عن القتال ، فأتت هذه الآية مثبتة لمن جاهد في سبيله . وذكر تعالى أنه ذو فضل على الناس ، وذلك بإحيائهم والإحسان إليهم ، ومع ذلك فأكثرهم لا يؤدي شكر الله . ثم أمر بالقتال في سبيل الله ، وبأن نعلم أنه سميع لأقوالنا ، عليم بنياتنا . ثم ذكر أن من أقرض الله فالله يضاعفه حيث يحتاج إليه . ثم ذكر أن بيده القبض والبسط ، وأن مرجع الكل إليه . ثم أخبر تعالى بقصة الملأ من بني إسرائيل ؛ وذلك لنعتبر بها ونقتدي منها بما كان من أحوالهم حسنا ، ونجتنب ما كان قبيحا ، وهذه الحكمة في قصص الأولين علينا لنعتبر بها ، وأنهم حين استولى عليهم العدو ، فملك بلادهم وأسر أبناءهم ، ولم يكن لهم ملك يسوسهم في أمر الحرب ؛ إذ هي محتاجة إلى من يصدر عن أمره ويجتمع عليه ؛ فسألوا نبيهم أن ينهض لهم ملكا برسم الجهاد في سبيل الله ، فتوقع النبي منهم أنه لو فرض عليهم القتال نكصوا عنه ، فأجابوه : بأنا قد وترنا ، وأخرجنا من ديارنا ، وأبنائنا ، وهذا أصعب شيء على النفوس ، وهو أن يخرج من مسكن ألفه ، ويفرق بينه وبين أبنائه ؛ ولهذا دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ( المدينة كحبنا مكة أو أكثر ) ، وكثيرا ما بكى الشعراء المساكن والمعاهد ، ألا ترى إلى قول اللهم حبب لنا بلال :
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل