قال : وبهذا يعلم أن أشرف العلوم وأعلاها منزلة عند الله علم العدل والتوحيد ، ولا ينفرنك عنه كثرة أعدائه فإن العرانين تلقاها محسدة ، انتهى كلامه . وأهل العدل والتوحيد الذين أشار إليهم هم الزمخشري المعتزلة ، سموا أنفسهم بذلك ، قال بعض شعرائهم من أبيات :
أن أنصر التوحيد والعدل في كل مقام باذلا جهدي
وهذا لغلوه في محبة مذهبه يكاد أن يدخله في كل ما يتكلم به ، وإن لم يكن مكانه . ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أنه فضل بعض الأنبياء على بعض ، وأن منهم من كلمه ، وفسر الزمخشري بموسى ، عليه السلام ، وأنه رفع بعضهم درجات ، وفسر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ونص على عيسى ، عليه السلام [ ص: 277 ] وتفضيل المتبوع يفهم منه تفضيل التابع ، وكانت اليهود والنصارى قد أحدثوا بعد نبيهم بدعا في أديانهم وعقائدهم ، ونسبوا الله تعالى إلى ما لا يجوز عليه ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى الناس كافة ، فكان منهم العرب ، وكانوا قد اتخذوا من دون الله آلهة وأشركوا ، فصار جميع الناس المبعوث إليهم - صلى الله عليه وسلم - على غير استقامة في شرائعهم وعقائدهم ، وذكر تعالى أن الكافرين هم الظالمون ، وهم الواضعون الشيء غير مواضعه ، أتى بهذه الآية العظيمة الدالة على إفراد الله بالوحدانية ، والمتضمنة صفاته العلا من : الحياة ، والاستبداد بالملك ، واستحالة كونه محلا للحوادث ، وملكه لما في السماوات والأرض ، وامتناع الشفاعة عنده إلا بإذنه ، وسعة علمه ، وعدم إحاطة أحد بشيء من علمه إلا بإرادته ، وباهر ما خلق من الكرسي العظيم الاتساع ، ووصفه بالمبالغة في العلو والعظمة ، إلى سائر ما تضمنته من أسمائه الحسنى وصفاته العلا ، نبههم بها على العقيدة الصحيحة التي هي محض التوحيد ، وعلى طرح ما سواها . وتقدم الكلام على لفظة ( الله ) وعلى قوله : ( لا إله إلا هو ) فأغنى عن إعادته .
( الحي ) وصف وفعله حيي ، قيل : وأصله : حيو ، فقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها ، وأدغمت في الياء ، وقيل : أصله فيعل ، فخفف كميت في ميت ، ولين في لين ، وهو وصف لمن قامت به الحياة ، وهو بالنسبة إلى الله تعالى ، من صفات الذات حي بحياة لم تزل ولا تزول ، وفسر هنا بالباقي ، قالوا : كما في قول لبيد :
فإما تريني اليوم أصبحت سالما فلست بأحيا من كلاب وجعفر
أي : فلست بأبقى ، وحكى عن قوم أنه ، يقال : حي كما وصف نفسه ، ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه ، وحكي أيضا عن قوم : أنه حي لا بحياة ، وهو قول الطبري المعتزلة ، ولذلك قال : الحي الباقي الذي لا سبيل للفناء عليه ، وهو على اصطلاح المتكلمين الذي يصح أن يعلم ويقدر ، انتهى كلامه ، وعنى بالمتكلمين متكلمي مذهبه ، والكلام على وصف الله بالحياة مذكور في كتب أصول الدين . وقرأ الجمهور ( القيوم ) على وزن فيعول ، أصله قيووم اجتمعت الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت فيها الياء ، وقرأ الزمخشري ، ابن مسعود ، وابن عمر وعلقمة ، والنخعي ، ( القيام ) وقرأ والأعمش علقمة أيضا ( القيم ) كما تقول : ديور وديار وقال أمية :
لم تخلق السماء والنجوم والشمس معها قمر يعوم
قدرها المهيمن القيوم والحشر والجنة والنعيم
إلا لأمر شأنه عظيم
ومعناه : أنه قائم على كل شيء بما يجب له ، بهذا فسره مجاهد ، والربيع ، والضحاك . وقال ابن جبير : الدائم الوجود ، وقال : الذي لا يزول ولا يحول ، وقال ابن عباس قتادة : القائم بتدبير خلقه . وقال الحسن : القائم على كل نفس بما كسبت . وقيل : العالم بالأمور ، من قولهم : فلان يقوم بهذا الكتاب أي : يعلم ما فيه . وقيل : هو مأخوذ من الاستقامة . وقال : الذي لا يبلى . وقال أبو روق : الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه . وهذه الأقوال تقارب بعضها بعضا . وقالوا : فيعول ، من صيغ المبالغة ، وجوزوا رفع الحي على أنه صفة للمبتدأ الذي هو ( الله ) أو على أنه خبر بعد خبر ، أو على أنه بدل من ( هو ) أو من ( الله ) تعالى ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو ، أو على أنه مبتدأ والخبر ( لا تأخذه ) وأجودها الوصف ، ويدل عليه قراءة من قرأ : ( الحي القيوم ) بالنصب ، فقطع على إضمار : أمدح ، فلو لم يكن وصفا ما جاز فيه القطع ، ولا يقال : في هذا الوجه الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر ؛ لأن ذلك جائز حسن ، تقول : زيد قائم العاقل . الزمخشري
( لا تأخذه سنة ولا نوم ) يقال : وسن سنة ووسنا ، والمعنى : أنه ، تعالى ، لا يغفل عن دقيق ولا جليل ، عبر [ ص: 278 ] بذلك عن الغفلة ؛ لأنه سببها ، فأطلق اسم السبب على المسبب ، قال : معناه لا تحله الآفات والعاهات المذهلة عن حفظ المخلوقات ، وأقيم هذا المذكور من الآفات مقام الجميع ، وهذا هو مفهوم الخطاب ، كما قال تعالى : ( ابن جرير فلا تقل لهما أف ) وقيل : نزه نفسه عن السنة والنوم لما فيها من الراحة ، وهو ، تعالى ، لا يجوز عليه التعب والاستراحة . وقيل : المعنى لا يقهره شيء ولا يغلبه ، وفي المثل : النوم سلطان ، قال : وهو تأكيد للقيوم ؛ لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيوما . ومنه حديث الزمخشري موسى أنه سأل الملائكة ، وكان ذلك من قومه كطلب الرؤية : أينام ربنا ؟ فأوحى الله إليهم أن يوقظوه ثلاثا ولا تتركوه ينام ، ثم قال : خذ بيدك قارورتين مملوءتين ، فأخذهما ، وألقى الله عليه النعاس ، فضرب إحداهما على الأخرى فانكسرتا ، ثم أوحى إليه : قل لهؤلاء إني أمسك السماوات والأرض بقدرتي ، فلو أخذني نوم أو نعاس لزالتا ، انتهى . هكذا أورد هذا الخبر ، وفيه أنه سأل الملائكة ، وكان ذلك يعني السؤال من قومه ، كطلب الرؤية ، يعني أن طلب الرؤية هو عنده من باب المستحيل ، كما استحال النوم في حقه تعالى ، وهذا من عادته في نصرة مذهبه ، يذكره حيث لا تكون الآية تتعرض لتلك المسألة . الزمخشري
وأورد غيره هذا الخبر عن ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي عن أبي هريرة موسى ، عليه السلام ، على المنبر ، قال : وقع في نفس موسى : هل ينام الله ؟ وساق الخبر قريبا من معنى ما ذكره . قال بعض معاصرينا : هذا حديث وضعه الزمخشري الحشوية ، ومستحيل أن سأل موسى ذلك عن نفسه أو عن قومه ؛ لأن المؤمن لا يشك في أن الله ينام أو لا ينام ، فكيف الرسل ؟ انتهى كلامه .
وفائدة تكرار ( لا ) في قوله : ( ولا نوم ) انتفاؤهما على كل حال ، إذ لو أسقطت ( لا ) لاحتمل انتفاؤهما بقيد الاجتماع ، تقول : ما قام زيد وعمرو بل أحدهما ، ولا يقال : ما قام زيد ولا عمرو بل أحدهما . وتقدم قول من جعل هذه الجملة خبرا لقوله : ( الحي ) على أن يكون ( الحي ) مبتدأ ، ويجوز أن يكون خبرا عن الله ، فيكون قد أخبره بعده إخبارا ، على مذهب من يجيز ذلك ، وجوز أبو البقاء أن تكون الجملة في موضع الحال من الضمير المستكن في القيوم ، أي : قيوم بأمر الخلق غير غافل .