فلو يلاقي الذي لاقيته حضن لظلت الشم منه وهي تنصار
أي : تتقطع . وقال قتادة : فصلهن ، وعنه : مزقهن وفرقهن . وقال : اضممهن إليك . وقال عطاء بن أبي رباح ابن زيد : اجمعهن . وقال أيضا ، أوثقهن . وقال ابن عباس الضحاك : شققهن ، بالنبطية . وقال : أملهن . وإذا كان : ( فصرهن ) بمعنى الإمالة فتتعلق ( إليك ) به ، وإذا كان بمعنى التقطيع تعلق بـ ( خذ ) . الكسائي
وقرأ حمزة ، ويزيد ، وخلف ، ورويس ، بكسر الصاد ، وباقي السبعة بالضم ، وهما لغتان ، كما تقدم : صار يصور ويصير ، بمعنى أمال . وقرأ وقوم : ( فصرهن ) بتشديد الراء وضم الصاد وكسرها من صره يصره ويصره ، إذا جمعه ، نحو : ضره يضره ويضره ، وكونه مضاعفا متعديا جاء على يفعل بكسر العين قليل ، وعنه : ( فصرهن ) بفتح الصاد وتشديد الراء وكسرها من التصرية ، ورويت هذه القراءة عن ابن عباس عكرمة ، وعنه أيضا : ( فصرهن إليك ) بضم الصاد وتشديد الراء . وإذا تؤول ( فصرهن ) بمعنى القطع فلا حذف ، أو بمعنى الإمالة فالحذف ، وتقديره : وقطعهن واجعلهن أجزاء ، وعلى تفسير ( فصرهن ) بمعنى أملهن وضمهن إلى نفسك ، فإنما كان ذلك ليتأمل أشكالها وهيئاتها وحلاها ؛ لئلا يلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك .
( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ) العموم في كل جبل مخصص بوصف محذوف أي : يليك ، أو بحضرتك ، دون مراعاة عدد ، قاله مجاهد . وروي عن أنه أمر أن يجعل على كل ربع من أرباع الدنيا ، وهو بعيد ، وخصصت الجبال بعدد الأجزاء ، فقيل : أربعة ، قاله ابن عباس قتادة ، والربيع ، وقيل : سبعة ، قاله ، السدي ، وقيل : عشرة ، قاله وابن جريج أبو عبد الله الوزير المغربي ، وقال عنه في رجل أوصى بجزء من ماله : إنه العشر ، إذ كانت أشلاء الطيور عشرة .
والظاهر أنه أمر أن يجعل على كل جبل ثلاثة مما يشاهده بصره ، بحيث يرى الأجزاء ، وكيف تلتئم إذا دعا الطيور ، وقرأ الجمهور : ( جزءا ) بإسكان الزاي وبالهمز ، وضم أبو بكر : الزاي ، وقرأ أبو جعفر : ( جزا ) بحذف الهمزة وتشديد الزاي ، ووجهه أنه حين حذف ضعف الزاي ، كما يفعل في الوقف ، كقولك : هذا فرج ، ثم أجرى مجرى الوقف ، و ( اجعل ) ، هنا يحتمل أن تكون بمعنى : ألق ، فيتعدى لواحد ، ويتعلق على كل جبل باجعل ، ويحتمل أن يكون بمعنى : صير ، فيتعدى إلى اثنين ، ويكون الثاني على كل جبل ، فيتعلق بمحذوف .
( ثم ادعهن يأتينك سعيا ) أمره بدعائهن وهن أموات ، ليكون أعظم له في الآية ، ولتكون حياتها متسببة عن دعائه ، ولذلك رتب على دعائه إياهن إتيانهن إليه ، والسعي هو الإسراع في الشيء .
وقال الخليل : لا يقال : سعى الطائر ، يعني على سبيل المجاز ، فيقال : وترشيحه هنا هو أنه لما دعاهن فأتينه تنزلن منزلة العاقل الذي يوصف بالسعي ، وكان إتيانهن مسرعات في المشي أبلغ في الآية ، إذ إتيانهن إليه من الجبال يمشين مسرعات هو على خلاف المعهود لهن من الطيران ، وليظهر بذلك عظم الآية ، إذ أخبره أنهن يأتين على خلاف عادتهن من الطيران ، فكان كذلك ، وجعل سيرهن إليه سعيا ؛ إذ هو مشية المجد الراغب فيما يمشي إليه ؛ لإظهار جدها في قصد إبراهيم ، وإجابة دعوته .
وانتصاب ( سعيا ) على أنه مصدر في موضع الحال من ضمير الطيور ، أي : ساعيات ، وروي عن الخليل : أن المعنى يأتينك وأنت تسعى سعيا ، فعلى هذا يكون مصدر الفعل محذوفا ، هو في موضع الحال من الكاف ، وكان المعنى : يأتينك وأنت ساع إليهن ، أي : يكون منهن إتيان إليك ، ومنك سعي إليهن ، فتلتقي بهن . والوجه الأول أظهر ، وقيل : انتصب [ ص: 301 ] ( سعيا ) على أنه مصدر مؤكد ؛ لأن السعي والإتيان متقاربان . وروي في قصص الآية أن إبراهيم أخذ هذه الطيور وذكاها وقطعها قطعا صغارا ، وجمع ذلك مع الدم والريش ، وجعل من ذلك المجموع المختلط جزءا على كل جبل ، ووقف هو من حيث يرى الأجزاء ، وأمسك رءوس الطير في يده ثم قال : تعالين بإذن الله فتطايرت تلك الأجزاء ، وصار الدم إلى الدم ، والريش إلى الريش ، حتى التأمت كما كانت أولا ، بقيت بلا رءوس ، ثم كرر النداء فجاءته سعيا حتى وضعت أجسادها في رءوسها ، وطارت بإذن الله .
وزاد النحاس : أن إبراهيم كان إذا أشار إلى واحد منها بغير رأسه تباعد الطائر ، وإذا أشار إليه برأسه قرب منه حتى لقي كل طائر رأسه . وقال أبو عبد الله : ذبحهن ونحز أجزاءهن في المنحاز - يعني الهاون - إلا رءوسهن ، وجعل ذلك المختلط عشرة أجزاء على عشرة جبال ، ثم جعل مناقيرهن بين أصابعه ، ثم دعاهن فأتين سعيا يتطاير اللحم إلى اللحم ، والريش إلى الريش ، والجلد إلى الجلد ، بقدرة الله تعالى .
وأجمع أهل التفسير أن إبراهيم قطع أعضاءها ولحومها وريشها وخلط بعضها ببعض مع دمائها ، وأنكر ذلك أبو مسلم ، وقال : لما طلب إبراهيم إحياء الميت من الله ، أراه مثالا قرب به الأمر عليه ، والمراد بـ ( فصرهن إليك ) أملهن ، ومر بهن على الإجـابة بحيث يصرن إذا دعوتهن أجبنك ، فإذا صرن كذلك فاجعل على كل جبل منهن واحدا منها حال حياته ، ثم ادعهن يأتينك سعيا ، والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة ، وأنكر القول بالتقطيع ، قال : لأن المشهور في اللغة في ( فصرهن ) أملهن وأما التقطيع والذبح ، فليس في اللفظ ما يدل عليه ، وبأنه لو كان المعنى : قطعهن ، لم يقل : إليك ، وتعليقه بخذ خلاف الظاهر ، وبأن الضمير في ( ثم ادعهن ) وفي يأتينك عائد إليها لا إلى الأجزاء وعوده على الأجزاء المتفرقة خلاف الظاهر ، ولا دليل فيما ذكر ، واحتج الأول بإجماع المفسرين الذين كانوا قبل أبي مسلم على التقطيع ، وبأن ما ذكره غير مختص بإبراهيم ، فلا مزية له ، وبأنه سأله أن يريه كيف يحيي الموتى ، ولا إراءة فيما ذكره أبو مسلم .
واحتج للقول الأول بإجماع المفسرين الذين كانوا قبل ذلك ، والظاهر أنه أجيب بأن ظاهر : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ) يدل على أن تلك الطيور جعلت جزءا جزءا ؛ لأن الواحد منها سمي جزءا ، وجعل كل واحد على جبل .
( واعلم أن الله عزيز حكيم ) ( عزيز ) لا يمتنع عليه ما يريد ، ( حكيم ) فيما يريد ويمثل ، والعزة تتضمن القدرة ؛ لأن الغلبة تكون عن العزة ، وقيل : ( عزيز ) منتقم ممن ينكر بعث الأموات ، حكيم في نشر العظام الرفات .
وقد تضمنت هذه القصص الثلاث ، من فصيح المحاورة بذكر ( قال ) سؤالا وجوابا ، وغير ذلك من غير عطف ؛ إذ لا يحتاج إلى التشريك بالحرف إلا إذا كان الكلام بحيث لو لم يشرك لم يستقل ، فيؤتى بحرف التشريك ليدل على معناه ، أما إذا كان المعنى يدل على ذلك ، فالأحسن ترك الحرف إذا كان أخذ بعضه بعنق بعض ، ومرتب بعضه من حيث المعنى على بعض ، وقد أشرنا إلى شيء من هذا في قوله : ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) ومما جاء ذلك فيه كثيرا محاورة موسى وفرعون في سورة الشعراء وسيأتي تفسير ذلك إن شاء الله تعالى .