قوم إذا عاقدوا عقدا لجارهم
فجعله بمعنى المجرد ، وهو الظاهر كما ذكرناه .قال أبو علي : والآخر أن يراد به فاعلت التي تقتضي فاعلين ، كأن المعنى بما عاقدتم عليه الأيمان ، عداه بعلى لما كان بمعنى عاهد . قال : ( بما عاهد عليه الله ) كما عدى ( ناديتم إلى الصلاة ) ، ( بإلى ) ، وبابها أن تقول : ناديت زيدا ( وناديناه من جانب الطور الأيمن ) لما كانت بمعنى دعوت إلى كذا . قال ( ممن دعا إلى الله ) ، ثم اتسع فحذف الجار ، ونقل الفعل إلى المفعول ، ثم المضمر العائد من الصلة إلى الموصول ، إذ صار بما عاقدتموه الأيمان ، كما حذف من قوله ( فاصدع بما تؤمر ) انتهى . وجعل عاقد لاقتسام الفاعلية والمفعولية لفظا ، والاشتراك فيهما معنى بعيد ، إذ يصير المعنى : أن اليمين عاقدته كما عاقدها إذ نسب ذلك إليه ، وهو عقدها; هو على سبيل الحقيقة ، ونسبة ذلك إلى اليمين; هو على سبيل المجاز; لأنها لم تعقده ، بل هو الذي عقدها . وأما تقديره : بما عاقدتم عليه وحذف حرف الجر ، ثم الضمير على التدريج الذي ذكره; فهو أيضا بعيد ، وليس تنظيره ذلك بقوله ( فاصدع بما تؤمر ) بسديد; لأن أمر يتعدى بحرف الجر تارة ، وبنفسه تارة إلى المفعول الثاني ، وإن كان أصله الحذف تقول : أمرت زيدا الخير ، وأمرته بالخير; ولأنه لا يتعين في ( فاصدع بما [ ص: 10 ] تؤمر ) أن تكون ما موصولة بمعنى الذي ، بل يظهر أنها مصدرية ، فلا يحتاج إلى عائد ، وكذلك هنا ، الأولى أن تكون ما مصدرية ، ويقوي ذلك ويحسنه المقابلة بعقد اليمين للمصدر الذي هو ( باللغو في أيمانكم ) لأن اللغو مصدر ، فالأولى مقابلته بالمصدر لا بالموصول . وقال : والمعنى : ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم ، فحذف وقت المؤاخذة; لأنه كان معلوما عندهم ، أو بنكث ما عقدتم ، فحذف المضاف انتهى . واليمين المنعقدة بالله ، أو بأسمائه ، أو صفاته . الزمخشري
وقال الإمام أحمد : إذا حلف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - انعقدت يمينه; لأنه حلف بما لم يتم الإيمان إلا به ، وفي بعض الصفات تفصيل . وخلاف ذكر في الفقه . ( فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم ) . الكفارة الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة; أي تسترها ، والضمير في ( فكفارته ) عائد على ما إن كانت موصولة اسمية ، وهو على حذف مضاف ، كما تقدم ، وإن كانت مصدرية عاد الضمير على ما يفهم من المعنى ، وهو إثم الحنث ، وإن لم يجر له ذكر صريح ، لكن يقتضيه المعنى . ومساكين أعم من أن يكونوا ذكورا أو إناثا أو من الصنفين . والظاهر تعدد الأشخاص . فلو أطعم مسكينا واحدا لكفارة عشرة أيام لم يجزه ، وبه قال مالك . وقال والشافعي أبو حنيفة : يجزئ . وتعرضت الآية لجنس ما يطعم منه ، وهو من أوسط ما تطعمون ، ولم تتعرض لمقدار ما يطعم كل واحد ، هذا الظاهر . وقد رأى مالك وجماعة; أن هذا التوسط هو في القدر ، وبه قال عمر وعلي وابن عباس ومجاهد ، ورأى جماعة أنه في الصنف ، وبه قال ابن عمر والأسود وعبيدة والحسن . وقال وابن سيرين ابن عطية : الوجه أن يطعم بلفظ الوسط القدر والصنف . انتهى .
وروي عن زيد بن ثابت وابن عباس والحسن وعطاء : مد لكل مسكين بمد الرسول ، وبه قال وابن المسيب مالك ، وروي عن والشافعي عمر وعلي وعائشة : نصف صاع من بر ، أو صاع من تمر ، وبه قال أبو حنيفة . والظاهر أنه لا يجزئ إلا الإطعام بما فيه كفاية وقتا واحدا يسد به الجوعة ، فإن غداهم وعشاهم أجزأه ، وبه قال علي ومحمد بن كعب والقاسم وسالم والشعبي وإبراهيم وقتادة والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالك . وقال ابن جبير والحكم : من شرط صحة الكفارة : تمليك الطعام للفقراء ، فإن غداهم وعشاهم لم يجزه . والظاهر أنه لا يشترط الإدام . وقال والشافعي : أوسط ما يطعم الخبز والتمر ، والخبز والزبيب ، وخير ما نطعم أهلينا : الخبز واللحم ، وعن غيره الخبز والسمن ، وأحسنه التمر مع الخبز ، وروي عن ابن عمر مثله . وقال ابن مسعود ابن حبيب : لا يجزئ الخبز قفارا ، ولكن بإدام زيت أو لبن أو لحم ونحوه . والظاهر أن المراعى ما يطعم أهليه الذين يختصون به; أي من أوسط ما يطعم كل شخص شخص أهله . وقيل : المراعى عيش البلد ، فالمعنى من أوسط ما تطعمون أيها الناس أهليكم في الجملة ، من مدينة أو صقع ، و ( من أوسط ) في موضع مفعول ثان لإطعام ، والأول هو ( عشرة مساكين ) أي طعاما من أوسط ، والعائد على ما من تطعمون في موضع محذوف; أي ( تطعمونه ) ، وقرأ الجمهور ( أهليكم ) ، وجمع أهل ، بالواو والنون ، شاذ في القياس . قرأ ( أهاليكم ) جمع [ ص: 11 ] تكسير ، وبسكون الياء . قال جعفر الصادق : أهال بمنزلة ليال ، واحدها أهلة وليلة ، والعرب تقول : أهل وأهلة ، ومنه قوله : ابن جني
وأهلة ود قد سريت بودهم
وقال : والأهالي : اسم جمع لأهل كالليالي في جمع ليلة ، والأراضي في جمع أرض ، وأما تسكين الياء في أهاليكم ، فهو كثير في الضرورة ، وقيل : في السعة; كما قال الزمخشري زهير :يطيع العوالي ركبت كل لهذم
شبهت الياء بالألف ، فقدرت فيها جميع الحركات . ( أو كسوتهم ) هذا معطوف على قوله ( إطعام ) . والظاهر أن كسوة هي مصدر ، وإن كان يستعمل للثوب الذي يستر ، ولما لم يذكر مقدار ما يطعم ، لم يذكر مقدار الكسوة ، وظاهر مطلق الكسوة ، وأجمعوا على أن القلنسوة بانفرادها لا تجزئ . وقال بعضهم : الكسوة في الكفارة إزار وقميص ورداء ، وروي عن أو ثوبان لكل مسكين ، قاله ابن عمر أبو موسى الأشعري وابن سيرين والحسن . وراعى قوم الزي والكسوة المتعارفة فقال بعضهم : لا يجزئ الثوب الواحد إلا إذا كان جامعا لما قد يتزين به كالكساء والملحفة . وقال النخعي : ليس القميص والدرع والخمار ثوبا جامعا . وقال الحسن والحكم : تجزئ عمامة يلف بها رأسه . وقال مجاهد : يجزئ كل شيء إلا التبان . وقال عطاء وابن عباس وأبو جعفر ومنصور : الكسوة ثوب قميص أو رداء أو إزار وقال : تجزئ العباءة أو الشملة . وقال ابن عباس طاوس والحسن : ثوب لكل مسكين ، وعن : إزار وقميص ، أو كساء ، وهل يجزئ إعطاء كساوي عشرة أنفس لشخص واحد في عشرة أيام ؟ فيه خلاف كالإطعام . وقرأ ابن عمر النخعي وابن المسيب وابن عبد الرحمن ( كسوتهم ) بضم الكاف ، وقرأ ابن جبير وابن السميقع ( أو كأسوتهم ) بكاف الجر على أسوة . قال : المعنى : أو مثل ما تطعمون أهليكم إسرافا كان ، أو تقتيرا لا تنقصونهم عن مقدار نفقتهم ، ولكن تساوون بينهم وبينهم ، فإن قلت ما محل الكاف قلت الرفع ، قيل : إن قوله : ( الزمخشري أو كسوتهم ) عطف على محل ( من أوسط ) فدل على أنه ليس قوله : ( من أوسط ) في موضع مفعول ثان بالمصدر ، بل انقضى عنده الكلام في قوله : ( إطعام عشرة مساكين ) ثم أضمر مبتدأ أخبر عنه بالجار والمجرور ، يبينه ما قبله ، تقديره : طعامهم من أوسط . وعلى ما ذكرناه من أن ( من أوسط ) في موضع نصب ، تكون الكاف في ( كأسوتهم ) في موضع نصب; لأنه معطوف على محل ( من أوسط ) وهو عندنا منصوب ، وإذا فسرت ( كأسوتهم ) في الطعام بقيت الآية عارية من ذكر الكسوة . وأجمع العلماء على أن الحانث مخير بين الإطعام والكسوة والعتق ، وهي مخالفة لسواد المصحف وقال بعضهم : ( أو كأسوتهم ) في الكسوة . والظاهر أنه لا يجزئ إخراج قيمة الطعام والكسوة ، به قال . وقال الشافعي أبو حنيفة يجزئ . والظاهر أنه لم يقيد المساكين بوصف ، فيجوز صرف ذلك إلى الذمي والعبد ، وبه قال أبو حنيفة . وقال غيره لا يجزئ . واتفقوا على أنه لا يجزئ دفع ذلك إلى المرتد .( أو تحرير رقبة ) تسمية الإنسان رقبة تسمية الكل بالجزء ، وخص بذلك لأن الرقبة غالبا محل للتوثق والاستمساك ، فهو موضع الملك ، وكذلك أطلق عليه رأس ، والتحرير يكون بالإخراج عن الرق وعن الأسر وعن المشقة وعن التعب; وقال : الفرزدق
أبني غدانة إنني حررتكم فوهبتكم لعطية بن جعال