( أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة ) قال الكلبي : نزلت في بني مدلج ، وكانوا ينزلون في أسياف البحر ، سألوا عما نضب عنه الماء من السمك ، فنزلت . والبحر هنا الماء الكثير الواسع ، وسواء في ذلك النهر والوادي والبركة والعين ، لا يختلف [ ص: 23 ] الحكم في ذلك . وقيل : المراد بالبحر هنا البحر الكبير ، وعليه يدل سبب النزول ، وما عداه محمول عليه . وأما طعامه فروي عن أبي بكر وعمر أنه ما قذفه البحر ، وطفا عليه . وقال وابن عمر وجماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وهذا ينظر إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - ، " ابن عباس " . وقال الحل ميتته قتادة وابن جبير والنخعي وابن المسيب ومجاهد والسدي : صيده طريه ، وطعامه المملوح منه ، وروي هذا عن ابن عباس . قال وزيد بن ثابت أبو عبد الله : وهذا ضعيف; لأن الذي صار مالحا قد كان طريا وصيدا في أول الأمر ، فيلزم التكرار . وقال قوم : طعامه الملح الذي ينعقد من مائه وسائر ما فيه من نبات ونحوه ، وقال الحسن : طعامه صوب ساحله ، وقيل : طعامه كل ما سقاه الماء فأنبت لأنه نبت من ماء البحر وقيل : صيد البحر ما صيد لأكل وغيره كالصدف لأجل اللؤلؤ وبعض الحيوانات لأجل عظامها وأسنانها وطعامه المأكول منه خاصة عطف خاص على عام وعدم تقييد الحل يدل على التحليل للمحرم والحلال والصيد المصيد ، وأضيف إلى المقر الذي يكون فيه . والظاهر أنه يحل أكل كل ما صيد من أنواع مخلوقاته حتى الذي يسمى خنزير الماء وكلب الماء وحية الماء والسرطان والضفدع ، وهو قول ابن أبي ليلى ومالك . وقال والأوزاعي الليث : لا يؤكل خنزير الماء ولا إنسان الماء ، وتؤكل ميتته وكلبه وفرسه . وقال أبو حنيفة فيما روى عنه والثوري : لا يؤكل من حيوان الماء إلا السمك ولا يؤكل طافيه ولا الضفدع ولا كلبه ولا خنزيره ، وقال : هذه من الخبائث . قال أبو إسحاق الفزاري الرازي : ما صيد من البحر حيتان وجميع أنواعها حلال ، وضفادع وجميع أنواعها حرام ، واختلفوا فيما سوى هذين . وقال : صيد البحر مصيدات البحر مما يؤكل ، ومما لا يؤكل ، وطعامه وما يطعم من صيده . والمعنى أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر وأحل لكم أكل المأكول منه ، وهو السمك وحده عند الزمخشري أبي حنيفة . وعند جميع ما يصاد منه ، على أن تفسير الآية عنده أحل لكم صيد حيوان البحر ، وأن تطعموه انتهى . وتفسير ( وطعامه ) بقوله وأن تطعموه ، خلاف الظاهر ، ويكون على قول ابن أبي ليلى الضمير عائدا على صيد البحر . والظاهر عوده على البحر ، وأنه يراد به المطعوم لا الإطعام ، ويدل على ذلك ظاهر لفظ ( وطعامه ) وقراءة ابن أبي ليلى ابن عباس وعبد الله بن الحرث . وطعمه بضم الطاء وسكون العين وانتصب ( متاعا ) قال ابن عطية : على المصدر ، والمعنى متعكم به متاعا تنتفعون به وتأتدمون; وقال : متاعا لكم مفعول له; أي أحل لكم تمتيعا لكم ، وهو في المفعول له بمنزلة قوله تعالى : ( الزمخشري ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة ) في باب الحال; لأن قوله ( متاعا لكم ) مفعول له مختص بالطعام كما أن ( نافلة ) حال مختصة بيعقوب; يعني أحل لكم طعامه تمتيعا تأكلونه طريا ولسيارتكم يتزودونه قديدا كما تزود موسى عليه السلام في مسيره إلى الخضر انتهى . وتخصيصه المفعول له بقوله : ( وطعامه ) جار على مذهبه . مذهب أبي حنيفة بأن صيد البحر منه ما يؤكل وما لا يؤكل ، وأن قوله : ( وطعامه هو المأكول منه ، وأنه لا يقع التمتيع إلا بالمأكول منه طريا وقديدا ) ، وعلى مذهب غيره يجوز أن يكون مفعولا له باعتبار صيد البحر وطعامه والخطاب في لكم لحاضري البحر ومدنه والسيارة المسافرون ، وقال مجاهد : الخطاب لأهل القرى والسيارة أهل الأمصار ، وهذا الاختلاف في أنه يستوي فيه المقيم والمسافر والبادي والحاضر والطري والمملوح .
( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) حرم [ ص: 24 ] الله تعالى الصيد على المحرم بقوله ( غير محلي الصيد وأنتم حرم ) ( وإذا حللتم فاصطادوا ) وبقوله ( لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) بهذه الآية ، وكرر ذلك تغليظا لحكمه . والظاهر تحريم صيد البر على المحرم من جميع الجهات صيد ، ولكل من صيد من أجله ، أو من غير أجله . وروي ذلك عن علي وابن عباس وابن عمر وطاوس وابن جبير وأبي الشعثاء والثوري وإسحاق . وعن أبي هريرة وعطاء أنهم أجازوا للمحرم أكل ما صاده الحلال لنفسه ، أو لحلال مثله . وقال آخرون يحرم على المحرم أن يصيد ، فأما إن اشتراه من مالك له فذبحه وأكله ، فلا يحرم ، وفعل ذلك وابن جبير . وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن مالك وأصحابهما والشافعي وأحمد : يأكل ما صاده الحلال ، إن لم يصده لأجله ، فإن صيد من أجله فلا يأكل ، فإن أكل فقال مالك : عليه الجزاء ، وبه قال الأوزاعي . وقال والحسن بن صالح : لا جزاء عليه . وقال الشافعي أبو حنيفة وأصحابه : أكل المحرم الصيد جائز إذا اصطاده الحلال ، ولم يأمر المحرم بصيده ، ولا دل عليه . وقال : فإن قلت : ما يصنع الزمخشري أبو حنيفة بعموم قوله ( صيد البر ) قلت : قد أخذ أبو حنيفة بالمفهوم من قوله ( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) لأن ظاهره أنه صيد المحرمين دون صيد غيرهم ، فكأنه قيل : وحرم عليكم ما صدتم في البحر ، فيخرج منه مصيد غيرهم ومصيدهم حين كانوا غير محرمين ، ويدل عليه قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) انتهى . وهذه مكابرة من في الظاهر ، بل الظاهر في قوله ( صيد البر ) العموم سواء صاده المحرم أم الحلال . وقرأ الزمخشري ، و ( حرم ) مبنيا للفاعل ، و ( صيد ) بالنصب ( ابن عباس ما دمتم حرما ) بفتح الحاء ، والراء . وقرأ يحيى ( ما دمتم ) بكسر الدال ، وهي لغة يقال : دمت تدام . ولا خلاف في أن ما لا زوال له من البحر أنه صيد بحر ، ومن البر أنه صيد بر . . واختلف فيما يكون في أحدهما ، وقد يحيا في الآخر ، فقال عطاء وابن جبير وأبو مجلز ومالك وغيرهم : هو من صيد البر ، إن قتله المحرم فداه . وذكر أبو مجلز من ذلك الضفدع والسلحفاة والسرطان . وروي عن عطاء أنه يراعى أكثر عيشه . وسئل عن ابن الماء أصيد بر أم بحر ، فقال : حيث يكون أكثر فهو منه ، وحيث يفرخ منه ، وهو قول أبي حنيفة . والصواب في ابن ماء; أنه صيد طائر يرعى ويأكل الحب . وقال : الصحيح المنع من الحيوان الذي يكون في البر والبحر; لأنه تعارض فيه دليل تحريم ، ودليل تحليل ، فيغلب دليل التحريم احتياطا . الحافظ أبو بكر بن العربي
( واتقوا الله الذي إليه تحشرون ) هذا فيه تنبيه وتهديد جاء عقيب تحليل وتحريم ، وذكر الحشر إذ فيه يظهر من أطاع وعصى .