( وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم يا أيها الذين [ ص: 28 ] آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين )
( أشياء ) مذهب سيبويه والخليل أنها لفعاء مقلوبة من فعلاء ، والأصل شيئا من مادة شيء ، وهو اسم جمع كطرفاء وحلفاء . ومذهب غيرهما أنها جمع . واختلفوا فقال الكسائي وأبو حاتم : هو جمع شيء ، كبيت وأبيات . وقال : لم تنصرف أشياء ، لشبه آخرها بآخر حمراء ، ولكثرة استعمالها . والعرب تقول أشياوان كما تقول حمراوان . ذهب الكسائي الفراء والأخفش إلى أنها جمع على وزن أفعلاء . قال الفراء شي مخفف من شيء ، كما قالوا هونا في جمع هين ، المخفف من هين . وقال الأخفش : ليس مخففا من شيء ، بل هو فعل جمع على أفعلاء ، فاجتمع في هذين القولين همزتان ، لام الكلمة ، وهمزة التأنيث ، فقلبت الهمزة التي هي لام الكلمة ياء; لانكسار ما قبلها ، ثم حذفت الياء التي هي عين الكلمة; استخفافا . وذهب قوم إلى أن وزن شيء في الأصل شييء ، كصديق وأصدقاء ، ثم حذفت الهمزة الأولى ، وفتحت ياء المد; لكون ما بعدها ألفا . قال ووزنها في هذا القول إلى أفياء ، وفي القول الذي قبله أفلاء . وتقرير هذه المذاهب صحة وإبطالا ، مذكور في علم التصريف .
البحيرة فعيلة بمعنى مفعولة كالنطيحة بمعنى المنطوحة . قال أبو عبيدة : هي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن ، في آخرها ذكر ، شقوا أذنها ، وخلوا سبيلها ، لا تركب ، ولا تحلب ، ولا تطرد عن ماء ولا مرعى وروي نحوه عن إلا أنه لم يذكر عنه آخرها ذكر . وقال ابن عباس قتادة ، وينظر في الخامس ، فإذا كان ذكرا ، ذبحوه وأكلوه ، وإن كانت أنثى شقوا أذن الأنثى ، وقالوا هي بحيرة فلم تركب ، ولم تطرد عن [ ص: 29 ] ماء ولا مرعى ، وإذا لقيها ألمعي ، لم يركبها تحرجا وتخورا منه; روي عن عكرمة ، وزاد حرم على النساء لحمها ولبنها ، فإذا ماتت حلت للنساء . وقال : البحيرة هي التي خليت بلا راع . وقال ابن سيده مجاهد : البحيرة ما نتجت السائبة من أنثى ، شق أذنها ، وخلى سبيلها مع أمها في الفلا ، لم تركب ، ولم تحلب ، كما فعل بأمها . وقال : هي التي تمنع درها للطواغيت ، فلا يحلبها . وقيل : هي الناقة إذا ولدت خمسا أو سبعا شقوا أذنها . وقال ابن المسيب ابن عطية : إذا نتجت الناقة عشرة أبطن; شقوا أذنها نصفين طولا ، فهي مبحورة ، وتركت ترعى ، وترد الماء ، ولا ينتفع منها بشيء ، ويحرم لحمها إذا ماتت على النساء ، ويحل للرجال . وقيل : البحيرة السقب إذا ولد ، يحزوا أذنه ، وقالوا اللهم إن عاش ، فعفي ، وإن مات فذكي ، فإذا مات أكل ، ويظهر من اختلاف هذه النقول أن العرب كانت تختلف طرائقها في البحيرة فصار لكل منها في ذلك طريقة وهي كلها ضلال .
السائبة فاعلة من ساب إذا جرى على وجه الأرض . يقال ساب الماء وسابت الحية . وقيل : هي السيبة اسم الفاعل بمعنى المفعول ، نحو قولهم ( عيشة راضية ) أي مرضية . قال أبو عبيدة : كان الرجل إذا قدم من سفر أو نذر نذرا أو شكر نعمة ، سيب بعيرا ، فكان بمنزلة البحيرة في جميع ما حلوا لها . وقال الفراء : إذا ولدت الناقة عشرة أبطن إناث سيبت ، فلم تركب ، ولم تحلب ، ولم يجز لها وبر ، ولم يشرب لها لبن ، إلا ولد أو ضيف . وقال : السائبة هي التي تسيب للأصنام; أي تعتق . وكان الرجل يسيب من ماله شيئا ، فيجيء به إلى السدنة ، وهم خدم آلهتهم ، فيطعمون من لبنها للسبيل . وقال ابن عباس : كانوا ينذرون تسييب الناقة ليحج حجة عليها . وقيل : السائبة العبد يعتق على أن لا يكون عليه ولاء ، ولا عقل ، ولا ميراث . الشافعي
الوصيلة هي الغنم ، على قول الأكثرين . روى أبو صالح عن : أنها الشاة تنتج سبعة أبطن ، فإن كان السابع أنثى لم تنتفع النساء منها بشيء ، إلا أن تموت فيأكلها الرجال والنساء ، وإن كان ذكرا ونحوه ، أكلوه جميعا . فإذا كان ذكرا وأنثى قالوا : وصلت أخاها ، فتترك مع أخيها فلا تذبح ، ومنافعها للرجال دون النساء ، فإذا ماتت اشترك الرجال والنساء فيها . وقال ابن عباس ابن قتيبة : إن كان السابع ذكرا ذبح فأكل منه الرجال دون النساء . وقالوا : خالصة لذكورنا ، ومحرم على أزواجنا ، وإن كانت أنثى تركت في الغنم ، وإن كانت ذكرا وأنثى فكما في قول . وقال ابن عباس : هي الشاة تنتج عشرة أبطن متواليات في خمسة أبطن وما ولدت بعد ذلك فللذكور دون الإناث . وقال ابن إسحاق الفراء : هي الشاة تنتج سبعة أبطن عناقين عناقين فإذا ولدت في سابعها عناقا وجديا ، قيل : وصلت أخاها فجرت مجرى السائبة . وقال : هي الشاة التي تلد أنثى فلهم ، أو ذكرا فلآلهتهم . وقال الزجاج أبو عبيدة : نحوه ، وزاد إذا ولدت ذكرا وأنثى معا ، قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوه لمكانها . وروى عن الزهري أنها الناقة البكر تبتكر في أول النتاج بالأنثى ، ثم تثني بالأنثى ، فيستقونها لطواغيتهم ، ويقولون : وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر . وقيل : هي الشاة تلد ثلاثة أبطن أو خمسة ، فإن كان آخرها جديا ذبحوه لآلهتهم أو عناقا استحيوها ، وقالوا : هذه العناق وصلت أخاها ، فمنعته من الذبح . ابن المسيب
الحامي اسم فاعل من حمى ، وهو الفحل من الإبل . قال ابن مسعود ، واختاره وابن عباس أبو عبيدة ، : هو الفحل ينتج من صلبه عشرة أبطن ، فيقولون قد حمى ظهره ، فيسيبونه لأصنامهم فلا يحمل عليه شيء . وروى والزجاج عن ابن أبي طلحة ، واختاره ابن عباس الفراء ، أنه الفحل يولد لولد ولده ، وقال عطاء : هو الفحل ينتج من صلبه عشرة أبطن ، فيظهر من بين أولاده عشرة إناث من بناته ، وبنات بناته . وقال ابن زيد : هو الذي ينتج له سبع إناث متواليات . وذكر الماوردي عن أنه يضرب في إبل الرجل عشر [ ص: 30 ] سنين . الحبس المنع من التصرف . يقال حبست أحبس ، واحتبست فرسا في سبيل الله ، فهو محبس . وحبيس وقفته للغزو . الشافعي
وعثر على الرجل; اطلع عليه ، مشتق من العثرة التي هي الوقوع ، وذلك أن العاثر إنما يعثر بشيء كان لا يراه ، فلما عثر به اطلع عليه ، ونظر ما هو ، فلذلك قيل : لكل من اطلع على أمر كان خفيا عليه : قد عثر عليه ، ويقال قد عثر عليه ، وقد أعثر عليه إذا أطلعه عليه ، ومنه ( وكذلك أعثرنا عليهم ) أي أطلعنا . وقال الليث : عثر يعثر عثورا هجم على أمر لم يهجم عليه غيره ، وعثر عثرة; وقع على شيء .
المائدة : الخوان الذي عليه طعام ، فإذا لم يكن عليه طعام ، فليس بمائدة . قال أبو عبد الله : هي فاعلة بمعنى مفعولة ، وهي من العطاء . والممتاد المطلوب منه العطاء ، ماده أعطاه ، وامتاده استعطاه .
وقال : هي فاعلة من ماد يميد; تحرك ، فكأنها تميد بما عليها . وقال ابن قتيبة : المائدة; الطعام ، من ماده يميده أعطاه ، كأنها تميد الآكلين; أي تطعمهم ، وتكون فاعلة بمعنى مفعول بها أي ميد بها الآكلون . وقيل : من الميد ، وهو الميل ، وهذا قريب من قول الزجاج . الزجاج
( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) روى البخاري ومسلم ، واللفظ عن للبخاري أنس قال : قال رجل : يا رسول الله من أبي ؟ قال : " أبوك فلان " ، ونزلت الآية . وفي حديث أنس أيضا . وإن السائل من أبي ، هو أن رجلا قال : أين مدخلي يا رسول الله ؟ قال : " النار " . وفي غير حديث عبد الله بن حذافة أنس سالم مولى شيبة " . وقيل : نزلت بسبب سؤالهم عن الحج ، فقام آخر فقال : من أبي ؟ فقال : " أبوك " . روي هذا عن أفي كل عام ؟ فسكت فقال : أفي كل عام ؟ قال : " لا ، ولو قلت نعم لوجبت علي وأبي هريرة وأبي أمامة . وقيل : السائل وابن عباس سراقة بن مالك . وقيل : . وقيل : عكاشة بن محصن الأسدي محصن . وقيل : رجل من بني أسد . وقيل : الأقرع بن حابس . وقال الحسن : سألوا عن أمور الجاهلية التي عفا الله عنها ، ولا وجه للسؤال عما عفا الله عنه . وقال ابن جبير ، ورواه مجاهد عن : سألوا عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، ولذلك جاء ذكرها بعدها . وروي عن ابن عباس عكرمة أنهم سألوا الآيات والمعجزات . وذكر أبو سليمان الدمشقي أنها نزلت في تسهيم الفرائض . وروي أنه تعالى لما بين أمر الكعبة والهدي والقلائد ، وأعلم أن حرمتها هو تعالى الذي شرعها ، إذ هي أمور قديمة من لدن إبراهيم ، عليه السلام ، ذهب ناس من العرب إلى السؤال عن سائر أحكام الجاهلية ، هل تلحق بذلك أم لا ؟ إذ كانوا قد اعتقدوا الجميع سنة ، لا يفرقون بين ما هو من عند الله ، وما هو من تلقاء الشيطان . والظاهر من الروايات أن الأعراب ألحوا عليه بأنواع من السؤالات ، فزجروا عن ذلك بهذه الآية . وقيل : نزلت في حجاج اليمامة حين أراد المسلمون أن يوقعوا بهم فنهوا عن الإيقاع بهم ، وإن كانوا مشركين . ومناسبة هذه الآية لما قبلها; هو أنه لما قال : ( ما على الرسول إلا البلاغ ) صار كأنه قيل : ما بلغه الرسول فخذوه ، وكونوا منقادين له ، وما لم يبلغه فلا تسألوا عنه ، ولا تخوضوا فيه ، فربما جاءكم بسبب الخوض الفاسد تكاليف تشق عليكم ، قاله أبو عبد الله الرازي ، وفيه بعض تلخيص . وقال أيضا هذا متصل بقوله ( والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ) فاتركوا الأمور على ظواهرها ، ولا تسألوا عن أحوال مختلفة . والجملة الشرطية وما عطف عليها من الشرط في موضع الصفة لأشياء ، والمعنى لا تكثروا مسألة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تسألوه عن تكاليف شاقة عليكم ، إن أفتى لكم بها وكلفكم إياها ؛ تغمكم وتشق عليكم وتندموا على السؤال عنها ، قاله ، وبناه على ما نقل في سبب النزول; أنه سئل عن الحج . وقرأ الجمهور ( الزمخشري إن تبد لكم ) بالتاء مبنيا للمفعول . وقرأ ابن عباس ومجاهد مبنيا للفاعل . وقرأ بالياء مفتوحة من أسفل ، وضم الدال ( يسؤكم ) بالياء فيهما مضمومة في الأول ، ومفتوحة في الثاني . وقال الشعبي ابن عطية : والتحرير أن يبدها الله [ ص: 31 ] تعالى . ( وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم ) قال : معناه لا تسألوا عن أشياء في ضمن الإخبار عنها مساءة لكم ، إما لتكليف شرعي يلزمكم ، وإما لخبر يسوءكم ، مثل الذي قال من أبي ؟ ولكن إذا نزل القرآن بشيء ، وابتدأكم ربكم بأمر ، فحينئذ إن سألتم عن بيانه ، بين لكم وأبدى . انتهى . قال ابن عباس ابن عطية : فالضمير في قوله ( عنها ) عائد على نوعها ، لا على الأول التي نهى عن السؤال عنها . قال : ويحتمل أن يكون في معنى الوعيد ، كأنه قال لا تسألوا ، وإن سألتم ، لقيتم غب ذلك ، وصعوبته; لأنكم تكلفون ، وتستعجلون ما يسوءكم ، كالذي قيل له : إنه في النار انتهى . وقال : ( الزمخشري وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن ) أي عن هذه التكاليف الصعبة في زمان الوحي ، وهو ما دام الرسول بين أظهركم يوحى إليه ( تبد لكم ) تلك التكاليف ( التي تسوءكم ) وتؤمروا بتحملها فتعرضوا أنفسكم لغضب الله بالتفريط فيها . انتهى . وعلى هذا يكون الضمير في ( عنها ) عائدا على أشياء نفسها ، لا على نوعها . والذي يظهر أنهم نهوا عن السؤال عن أشياء وصفت بوصفين : أحدهما; أنها إن سألوا عنها ، أبديت لهم وقت نزول القرآن ، فيكون ( حين ) ظرفا لقوله ( تبد لكم ) ، لا لقوله ( وإن تسألوا عنها ) ، والوصف الثاني أنها إن أبديت لهم ساءتهم . وهذا الوصف وإن تقدم مرتب على الوصف المتأخر ، وإنما تقدم لأنه أردع لهم عن المسألة عن تلك الأشياء أن يسألوا عنها; لأنهم إذا أخبروا أنهم تسوءهم تلك المسألة إذا أبديت ، كانت أنفر عن أن يسألوا بعد . فلما كان هذا الوصف أزجر عن السؤال ، قدم وتأخر الوصف في الذكر الذي ليس فيه زجر ولا ردع ، واتكل في ذلك على فهم المعنى ، مع أن عطف الوصف الثاني بالواو ، يقتضي التشريك فقط دون الترتيب . ولا يدل قوله وإن تسألوا عنها على جواز السؤال ، كما زعم بعضهم فقال : الضمير عائد على أشياء ، فكيف يفعل أشياء بأعيانها أن يكون السؤال عنها ممنوعا وجائزا معا ؟ وأجاب بوجهين : أحدهما; أن يكون ممنوعا قبل نزول القرآن ، مأمورا به بعد نزوله ، الثاني أنهما ، وإن كانا غير مختلفين إلا أنهما في كون كل واحد منهما مسئولا عنه شيء واحد ، فلهذا الوجه حسن اتحاد الضمير انتهى . وهذا ليس بجواب ثان; لأنه فرض أن تلك الأشياء بأعيانها السؤال عنها ممنوع وجائز ، وإذا كانا نوعين مختلفين ، فليست الأشياء بأعيانها . وجملة الشرط كما ذكرناه ، لا تدل على الجواز ، ألا ترى أنك تقول لا تزن ؟ وإن زنيت حددت ؟ فقوله : وإن زنيت حددت ، لا يدل ذلك على الجواز ، بل جملة الشرط لا تدل على الوقوع ، بل لا تدل على الإمكان ، إذ قد يقع التعليق بين المستحيلين ، كقوله : ( لئن أشركت ليحبطن عملك ) .
( عفا الله عنها ) ظاهره أنه استئناف إخبار من الله تعالى . وذهب بعضهم إلى أنها في موضع جر صفة لأشياء ، كأنه قيل : لا تسألوا عن أشياء معفو عنها ، ويكون معنى عفا; أي ترك لكم التكليف فيها والمشقة عليكم بها; لقوله إن الله قد عفا لكم عن صدقة الخيل ، وهو القول الأول ، وهو الاستئناف يحتمل أن يكون المعنى هذا; أي تركها الله ، ولم يعرفكم بها ، ويحتمل أن يكون المعنى أنه تجاوز عن ارتكابكم تلك السؤالات ، ولم يؤاخذكم بها ، ويدل على هذا المعنى قوله : ( والله غفور حليم ) ولذلك قال : عفا الله عنكم ما سلف عن [ ص: 32 ] مسألتكم ، فلا تعودوا إلى مثلها . الزمخشري
( والله غفور رحيم ) لا يؤاخذكم بما يفرط منكم بعقوبته . خرج عن الدارقطني قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أبي ثعلبة الخشني " . وروى إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحرم حرمات فلا تنتهكوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها أبو سلمة عن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : " أبي هريرة " . إن أعظم الناس جرما ; من سأل عن مسألة لم تكن حراما ، فحرمت من أجل مسألته
( قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ) الظاهر أن الضمير في ( سألها ) عائد على أشياء . وقال الحوفي : ولا يتجه حمله على الظاهر ، لا من جهة اللفظ العربي ، ولا من جهة المعنى . أما من جهة اللفظ ، فكان يعدى بعن فكان قد سأل عنها ، كما قال ( لا تسألوا عن أشياء ) فعدي بعن ، وأما من جهة المعنى; فلأن المسئول عنه مختلف قطعا فيهما; لأن المنهي عنه الذي هو مثل سؤال من سأل أين مدخلي ؟ ومن أبي ؟ ومن سأل عن الحج ، وأين ناقتي ؟ وما في بطن ناقتي ؟ غير سؤال القوم الذين تقدموا ، فقال : الضمير في ( سألها ) ليس براجع إلى أشياء حتى يجب تعديته بعن ، وإنما هو راجع إلى المسألة التي دل عليها ( الزمخشري لا تسألوا ) ، يعني قد سأل هذه المسألة قوم من الأولين ، ثم أصبحوا; أي بمرجوعها كافرين . وذلك أن بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم عن أشياء ، فإذا أمروا بها تركوها ، فهلكوا انتهى . وقال ابن عطية : نحوا من قول قال : ومعنى هذه الآية; أن هذه السؤالات التي هي تعنتات وطلب شطط واقتراحات ومباحثات ، قد سألها قبلكم الأمم ثم كفروا بها انتهى . ولا يستقيم ما قالاه إلا على حذف مضاف ، وقد صرح به بعض المفسرين ، فقال قد سأل أمثالها; أي أمثال هذه المسألة ، أو أمثال هذه السؤالات . وقرأ الجمهور سألها ، بفتح السين والهمزة ، وقرأ الزمخشري النخعي ، بكسر السين من غير همز ، يعني بالكسر والإمالة ، وجعل الفعل من مادة سين وواو ولام ، لا من مادة سين وهمزة ولام ، وهما لغتان ذكرهما . ومن كلام العرب; هما يتساولان ، بالواو وإمالة . سيبويه النخعي ( سأل ) مثل إمالة حمزة خاف والقوم قال : هم قوم ابن عباس عيسى ، سألوا المائدة ، ثم كفروا بها بعد أن شرط عليهم العذاب الذي لا يعذبه أحدا من العالمين . وقال ابن زيد أيضا : هم قوم موسى ، سألوا في ذبح البقرة وشأنها . وقال ابن زيد أيضا : هم الذين قالوا لنبي لهم ( ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ) . وقيل : قوم موسى ، سألوا أن يريهم الله جهرة ، فصار ذلك وبالا عليهم . وقيل : قوم صالح ، سألوا الناقة ، ثم عقروها بعد أن دخلوا على الاشتراط في قوله تعالى : ( لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ) وبعد اشتراط العذاب عليهم إن مسوها بسوء . وقال مقاتل : كان بنو إسرائيل يسألون أنبياءهم عن أشياء ، فإذا أخبروهم بها ، تركوا قولهم ولم يصدقوهم ، فأصبحوا بتلك الأشياء كافرين . وقال : السدي كقريش في سؤالهم أن يجعل الله لهم الصفا ذهبا . قال ابن عطية : إنما يتجه في قريش مثال سؤالهم آية ، فلما شق القمر كفروا . انتهى . وقال بعض المتأخرين : القوم قريش ، سألوا أمورا ممتنعة كما أخبر تعالى ( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ) ، وهذا لا يستقيم إلا إن أريد بمن قبلهم آباؤهم الذين ماتوا في ابتداء التنزيل . قال ( أبو البقاء العكبري من قبلكم ) متعلق سألها ، ولا يجوز أن يكون صفة لقوم ، ولا حالا; لأن ظرف الزمان لا يكون صفة للجنة ، ولا حالا منها ، ولا خبرا عنها . انتهى . وهذا الذي ذكره صحيح في ظرف الزمان المجرد من الوصف ، أما إذا وصف ، فذكروا أنه يكون خبرا ، تقول : نحن في يوم طيب . وأما قبل وبعد ، فالحقيقة أنهما وصفان في الأصل ، فإذا قلت : جاء زيد قبل عمرو ، فالمعنى جاء زيد زمانا; أي في زمان متقدم على زمان مجيء عمرو ، ولذلك صح أن يقع صلة للموصول ، ولم يلحظ فيه الوصف وإن كان ظرف زمان مجردا ، لم يجز أن يقع صلة [ ص: 33 ] قال تعالى : ( والذين من قبلكم ) ولا يجوز والذين اليوم ، وقد تكلمنا على هذا في أول البقرة ، ومعنى ( ثم أصبحوا ) ثم صاروا ، ولا يراد أن كفرهم مقيد بالصباح .
( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ) . مناسبة هذه لما قبلها; أنه تعالى لما نهى عن سؤال ما لم يأذن فيه ولا كلفهم إياه ، منع من التزام أمور ليست مشروعة من الله تعالى ، ولما سأل قوم عن هذه الأحكام التي كانت في الجاهلية ، هل تلحق بأحكام الكعبة ؟ بين تعالى أنه لم يشرع شيئا منها ، أو لما ذكر المحللات والمحرمات في الشرع ، عاد إلى الكلام في المحللات والمحرمات من غير شرع . وفي حديث روي عن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبي هريرة إسماعيل عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف ، نصب الأوثان ، وسيب السائبة ، وبحر البحيرة ، وحمى الحامي " . ورآه رسول الله يجر قصبه في النار . وروي أنه كان ملك " أن أول من غير دين مكة . وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " زيد بن أسلم قد عرفت أول من بحر البحيرة; هو رجل من مدلج ، كانت له ناقتان ، فجدع آذانهما ، وحرم ألبانهما وركوب ظهورهما ، قال : فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه " . قال : يعني ( الزمخشري ما جعل الله ) ما شرع ذلك ، ولا أمر بالتبحير والتسييب ، وغير ذلك . وقال ابن عطية : ( وجعل ) في هذه الآية لا يتجه أن تكون بمعنى خلق الله; لأن الله تعالى خلق هذه الأشياء كلها ، ولا هي بمعنى صير; لعدم المفعول الثاني ، وإنما هي بمعنى ما سن ، ولا شرع . ولم يذكر النحويون في معاني جعل شرع ، بل ذكروا أنها تأتي بمعنى خلق ، وبمعنى ألقى ، وبمعنى صير ، وبمعنى الأخذ في الفعل ، فتكون من أفعال المقاربة . وذكر بعضهم بمعنى سمى ، وقد جاء حذف أحد مفعولي ظن وأخواتها ، إلا أنه قليل ، والحمل على ما سمع أولى من إثبات معنى لم يثبت في لسان العرب ، فيحتمل أن يكون المفعول الثاني محذوفا; أي ما صير الله بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حاميا مشروعة ، بل هي من شرع غير الله ( والأنعام خلقها لكم ) خلقها الله تعالى رفقا لعباده ، ونعمة [ ص: 34 ] عددها عليهم ، ومنفعة بالغة . وأهل الجاهلية قطعوا طريق الانتفاع بها ، وإذهاب نعمة الله بها ، قال ابن عطية وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا تجوز الأحباس والأوقاف ، وقاسوا على البحيرة والسائبة ، والفرق بين . ولو عمد رجل إلى ضيعة له فقال : هذه تكون حبسا ، لا تجتنى ثمرتها ، ولا تزرع أرضها ، ولا ينتفع منها بنفع ، لجاز أن يشبه هذا بالبحيرة والسائبة . وأما الحبس المتعين طريقه واستمرار الانتفاع به ، فليس من هذا ، وحسبك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في مال له : " اجعله حبسا لا يباع أصله . وحبس أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى . لعمر بن الخطاب
( ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب ) قال : بتحريم ما حرموا . الزمخشري
( وأكثرهم لا يعقلون ) فلا ينسبوا التحريم حتى يفتروا ، ولكنهم يقلدون في تحريمها كبارهم انتهى . نص وغيره; أن المفترين هم المبتدعون ، وأن الذين لا يعقلون هم الأتباع . وقال الشعبي : ( ابن عباس الذين كفروا ) يريد عمرو بن لحي وأصحابه . وقيل : في ( لا يعقلون ) أي الحلال من الحرام . وقال قتادة : ( لا يعقلون ) أن هذا التحريم من الشيطان ، لا من الله . وقال محمد بن موسى : ( الذين كفروا ) هنا هم أهل الكتاب . والذين ( لا يعقلون ) هم أهل الأوثان . قال ابن عطية : وهذا تفسير من انتزاع آخر الآية عما تقدمها ، وارتبط بها من المعنى ، وعما أخبر أيضا من قوله ( وإذا قيل لهم ) انتهى . وقال : ذكر أهل الكتاب هنا ، لا معنى له ، إذ ليس في هذا صنع ولا شبه ، وإنما ذكر ذلك عن مشركي العرب ، فهم الذين عنوا بذلك . مكي