قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم دون النساء ولو باتت بأطهار
فالمعنى أعطوا السائل على كل حال ، ولو على الحالة التي تشعر بالغنى ، وهي مجيئه على فرس . وكذلك يقدر ما ذكرنا من المثل على ما يناسب ، فالواو عاطفة على حال مقدرة ، فمن حيث هذا العطف صح أن يقال : إنها واو الحال . وقد تقدم الكلام على ذلك بأشبع من هذا . فالتقدير في الآية أحسبهم أتباع ما وجدوا عليه آباءهم على كل حال ، ولو في الحالة التي تنفي عن آبائهم العلم والهداية ، فإنها حالة ينبغي أن لا يتبع فيها الآباء; لأن ذلك حال من غلب عليه الجهل المفرط . ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم [ ص: 36 ] لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) . قال أبو أمية الشعباني : سألت عن هذه الآية فقال : لقد سألت عنها خبيرا ، سألت عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : " أبا ثعلبة الخشني " . وهذا أصح ما يقال في تأويل هذه الآية; لأنه عن الرسول ، وعليه الصحابة . بلغ اؤمروا بالمعروف ، وانهوا عن المنكر ، فإذا رأيت دنيا مؤثرة وشحا مطاعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخويصة نفسك وذر عوامهم ، فإن وراءكم أياما أجر العامل فيها كأجر خمسين منكم أن بعض الناس تأول الآية; على أنه لا يلزم الأمر بالمعروف ، ولا النهي عن المنكر ، فصعد المنبر وقال : أيها الناس لا تغتروا بقول الله : عليكم أنفسكم ، فيقول أحدكم : علي نفسي ، فوالله لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، أو ليستعملن عليكم شراركم ، وليسومنكم سوء العذاب . وعن أبا بكر الصديق عمر أن رجلا قال له : إني لأعمل بأعمال البر كلها إلا في خصلتين قال : وما هما ؟ قال لا آمر ، ولا أنهى ، فقال له عمر : لقد طمست سهمين من سهام الإسلام ، إن شاء غفر لك ، وإن شاء عذبك . وعن : ليس هذا زمان هذه الآية ، قولوا الحق ما قبل منكم ، فإذا رد عليكم ، فعليكم أنفسكم . وقيل : ابن مسعود في بعض أوقات الفتن : لو تركت القول في هذه الأيام ، فلم تأمر ، ولم تنه ، فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنا : " لابن عمر " ونحن شهدنا ، فيلزمنا أن نبلغكم ، وسيأتي زمان إذا قيل فيه الحق ، لم يقبل . وقال ليبلغ الشاهد منكم الغائب ابن جبير ( عليكم أنفسكم ) فالزموا شرعكم بما فيه من جهاد ، وأمر بمعروف ، ونهي عن منكر و ( لا يضركم من ضل ) من أهل الكتاب إذا اهتديتم . وقال ابن زيد : المعنى يا أيها الذين آمنوا من أبناء الذين بحروا البحيرة وسيبوا السوائب ( عليكم أنفسكم ) في الاستقامة على الدين ( لا يضركم ) ضلال الأسلاف ( إذا اهتديتم ) . قال وكان الرجل إذا أسلم قال له الكفار : سفهت آباءك وضللتهم وفعلت وفعلت ، فنزلت الآية بسبب ذلك . وقيل : نزلت بسبب ارتداد بعض المؤمنين وافتتانهم ، كابن أبي السرح ، وغيره . وقال المهدوي : قيل : إنها منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وقال ابن عطية : لم يقل أحد فيما علمت أنها آية الموادعة للكفار ، ولا ينبغي أن يعارض بها شيء مما أمر به في غير ما آية من القيام بالقسط والأمر بالمعروف . وقال : كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على العناد والعتو من الكفرة ، ويتمنون دخولهم في الإسلام ، فقيل لهم : عليكم أنفسكم ، وما كلفتم من إصلاحها ، والمشي في طرق الهدى ، ولا يضركم الضلال عن دينكم إذا كنتم مهتدين ، كما قال تعالى لنبيه : ( الزمخشري فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) . وكذلك من يتأسف على ما فيه الفسقة من الفجور والمعاصي ، ولا يزال يذكر معايبهم ومناكيرهم فهو مخاطب به . وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن من تركهما مع القدرة عليهما فليس بمهتد . وإنما هو بعض الضلال الذين فصلت الآية بينهم وبينه . وروى أبو صالح عن أن منافقي ابن عباس مكة قالوا : عجبا لمحمد ! يزعم أن الله بعثه ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا ، وقد قبل من مجوس هجر ، وأهل الكتاب الجزية ، فهلا أكرههم على الإسلام ، وقد ردها على إخواننا من العرب ؟ فشق ذلك على المسلمين ، فنزلت . وقال مقاتل ما يقارب هذا القول ، وذكروا في مناسبة هذه الآية لما قبلها; أنه لما بين أنواع التكاليف ، ثم قيل : ( ما على الرسول إلا البلاغ ) إلى قوله : ( وإذا قيل لهم تعالوا ) الآية . كان المعنى أن هؤلاء الجهال ما تقدم من المبالغة في الإعذار والإنذار والترغيب والترهيب ، لم ينتفعوا بشيء منه ، بل بقوا مصرين على جهلهم ، فلا تبالوا أيها المؤمنون بجهالتهم ، وضلالتهم ، فإن ذلك لا يضركم ، بل كونوا منقادين لتكاليف الله ، مطيعين لأوامره ( وعليكم ) من كلم الإغراء ، وله باب معقود في النحو ، وهو معدود في أسماء الأفعال ، فإن كان الفعل متعديا ، كان اسمه متعديا ، وإن كان لازما ، [ ص: 37 ] كان لازما . ( وعليكم ) اسم لقولك الزم ، فهو متعد ، فلذلك نصب المفعول به ، والتقدير هنا عليكم إصلاح أنفسكم ، أو هداية أنفسكم ، وإذا كان المغرى به مخاطبا ، جاز أن يؤتى بالضمير منفصلا ، فتقول : عليك إياك ، أو يؤتى بالنفس بدل الضمير ، فتقول : عليك نفسك ، كما في هذه الآية . وحكى عن الزمخشري نافع أنه قرأ ( عليكم أنفسكم ) بالرفع ، وهي قراءة شاذة تخرج على وجهين : أحدهما; يرتفع على أنه مبتدأ ، وعليكم في موضع الخبر ، والمعنى على الإغراء ، والوجه الثاني أن يكون توكيدا للضمير المستكن في ( عليكم ) ، ولم تؤكد بمضمر منفصل ، إذ قد جاء ذلك قليلا ويكون مفعول ( عليكم ) محذوفا; لدلالة المعنى عليه . والتقدير عليكم أنفسكم هدايتكم ، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم . وقرأ الجمهور ( لا يضركم ) بضم الضاد والراء وتشديدها . قال : وفيه وجهان : أن يكون خبرا مرفوعا ، وينصره قراءة الزمخشري أبي حيوة ( لا يضركم ) ، وأن يكون جوابا للأمر مجزوما ، وإنما ضمت الراء إتباعا لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة ، والأصل لا يضركم ، ويجوز أن يكون نهيا انتهى . وقرأ الحسن بضم الضاد ، وسكون الراء ، من ضار يضور . وقرأ النخعي بكسر الضاد وسكون الراء ، من ضار يضير ، وهي لغات .
( إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون ) أي مرجع المهتدين والضالين . وغلب الخطاب على الغيبة ، كما تقول : أنت وزيد تقومان ، وهذا فيه تذكير بالحشر ، وتهديد بالمجازاة .