يا حكم بن المنذر بن الجارود أنت الجواد بن الجواد بن الجود
قال التبريزي : الأظهر عندي أن موضع ( عيسى ) نصب; لأنك تجعل الاسم مع نعته إذا أضفته إلى العلم ، كالشيء الواحد المضاف انتهى . والذي ذكره النحويون في نحو ، يا زيد بن بكر إذا فتحت آخر المنادى; أنها حركة إتباع لحركة نون ابن ، ولم يعتد بسكون باء ابن; لأن الساكن حاجز غير حصين ، قالوا : ويحتمل أن يراد بالذكر هنا; الإقرار ، وأن يراد به الإعلام ، وفائدة هذا الذكر إسماع الأمم ما خصه به تعالى من الكرامة ، وتأكيد حجته على جاحده . وقيل : أمر بالذكر تنبيها لغيره على معرفة حق النعمة ، ووجوب شكر المنعم . قال الحسن : ذكر النعمة شكرها . والنعمة هنا جنس ، ويدل على ذلك ما عدده بعد هذا التوحيد اللفظي من النعم ، وإضافتها إليه; تنبيها على عظمها ، ونعمه عليه قد عددها هنا ، وفي البقرة وآل عمران ومريم ، وفي مواضع من القرآن ، ونعمته على أمه; براءتها مما نسب إليها ، وتكفيلها لزكريا ، وتقبلها بقبول حسن ، وما ذكر في سورة التحريم ( ومريم ابنة عمران ) إلى آخره ، وغير ذلك . وأمر بذكر نعمة أمه; لأنها نعمة صائرة إليه .( إذ أيدتك بروح القدس ) قرأ [ ص: 51 ] الجمهور بتشديد الياء ، وقرأ مجاهد وابن محيصن ( أيدتك ) على ( أفعلتك ) . وقال ابن عطية : على وزن فاعلتك ، ثم قال : ويظهر أن الأصل في القراءتين أيدتك ، على وزن أفعلتك ، ثم اختلف الإعلال ، والمعنى فيهما ( أيدتك ) من الأيد; وقال عبد المطلب :
الحمد لله الأعز الأكرم أيدنا يوم زحوف الأشرم
( تكلم الناس في المهد وكهلا ) ( وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني ) .
تقدم تفسير نظير هذه الجمل والقراءات التي فيها ، والإعراب ، وما لم يتقدم ذكره ، نذكره فنقول : جاء هناك ( كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون ) . وقرأ فتنفخها فتكون . وقرأ الجمهور ( فتكون ) بالتاء من فوق . وقرأ ابن عباس عيسى بن عمر ( فيها فيكون ) ، بالياء من تحت ، والضمير في ( فيها ) . قال ابن عطية : اضطرب المفسرون فيه . قال مكي : هو في آل عمران عائد على الطائر ، وفي المائدة عائد على الهيئة ، قال : ويصح عكس هذا . وقال غيره : الضمير المذكور عائد على ( الطين ) . قال ابن عطية : ولا يصح عود هذا الضمير ، لا على الطين ، ولا على الهيئة; لأن الطير ، أو الطائر الذي يجيء الطير على هيئته ، لا نفخ فيه البتة ، وكذلك لا نفخ في هيئته الخاصة به ، وكذلك الطين ، إنما هو الطين العام ، ولا نفخ في ذلك انتهى . وقال : ولا يرجع بعض الضمير إلى الهيئة المضاف إليها; لأنها ليست من خلقه ، ولا نفخه في شيء ، وكذلك الضمير في يكون انتهى . والذي ينبغي أن يحمل عليه كلام مكي; أنه لا يريد به ما فهم عنه ، بل يكون قوله عائدا [ ص: 52 ] على الطائر ، لا يريد به الطائر المضاف إليه الهيئة ، بل الطائر الذي صوره الزمخشري عيسى ، ويكون التقدير ، وإذ يخلق من الطين طائرا صورة مثل صورة الطائر الحقيقي ، فينفخ فيه ، فيكون طائرا حقيقة ، بإذن الله . ويكون قوله عائدا على الهيئة ، لا يريد به الهيئة المضافة إلى الطائر ، بل الهيئة التي تكون الكاف صفة لها ، ويكون التقدير; وإذ تخلق من الطين هيئة مثل هيئة الطير ، فتنفخ فيها; أي في الهيئة الموصوفة بالكاف ، المنسوب خلقها إلى عيسى . وأما قول ، ويصح عكس هذا; وهو أن يكون الضمير المذكر عائدا على الهيئة ، والضمير المؤنث عائدا على الطائر ، فيمكن تخريجه على أنه ذكر الضمير ، وإن كان عائدا على مؤنث; لأنه لحظ فيها معنى الشكل ، كأنه قدر هيئة كهيئة الطير بقوله شكلا كهيئة الطير . وأنه أنث الضمير ، وإن كان عائدا على مذكر; لأنه لحظ فيه معنى الهيئة . قال مكي ابن عطية : والوجه عود ضمير المؤنث على ما تقتضيه الآية ضرورة; أي صورا ، أو أشكالا ، أو أجساما ، وعود الضمير المذكر على المخلوق الذي يقتضيه ( تخلق ) ، ثم قال : ولك أن تعيده على ما تدل عليه الكاف في معنى المثل; لأن المعنى وإذ تخلق من الطين مثل هيئة ، ولك أن تعيد الضمير على الكاف نفسه ، فيكون اسما في غير الشعر ، فهو قول أبي الحسن وحده من البصريين ، وكذا قال : إن الضمير في فيها ، للكاف ، قال : لأنها صفة الهيئة التي كان يخلقها الزمخشري عيسى ، وينفخ فيها . وجاء في آل عمران ( بإذن الله ) مرتين ، وجاء هنا ( بإذني ) أربع مرات عقيب أربع جمل; لأن هذا موضع ذكر النعمة والامتنان بها ، فناسب الإسهاب ، وهناك موضع إخبار لبني إسرائيل ، فناسب الإيجاز . والتقدير في وإذ تخرج الموتى; تحيي الموتى ، فعبر بالإخراج عن الإحياء ، كقوله تعالى : ( كذلك الخروج ) بعد قوله : ( وأحيينا به بلدة ميتا ) ، أو يكون التقدير; وإذ تخرج الموتى من قبورهم أحياء .
( وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات ) أي منعتهم من قتلك حين هموا بك ، وأحاطوا بالبيت الذي أنت فيه . وقال : لما قال الله عبيد بن عمير لعيسى : ( اذكر نعمتي عليك ) كان يلبس الشعر ، ويأكل الشجر ، ولا يؤخر شيئا لغدو ، يقول مع كل يوم رزقه ، لم يكن له بيت فيخرب ، ولا ولد فيموت ، أين ما أمسى بات . وهذا القول يظهر منه أن عيسى خوطب بذلك قبل الرفع . والبينات هنا; هي المعجزات التي تقدم ذكرها ، وظهرت على يديه ، ولما فصل تعالى نعمته ذكر ذلك منسوبا لعيسى دون أمه; لأن من هذه النعم نعمة النبوة ، وظهور هذه الخوارق ، فنعمته عليه أعظم منها على أمه ، إذ ولدت مثل هذا النبي الكريم; وقال الشاعر فيما يشبه هذا :
شهد العوالم أنها لنفيسة بدليل ما ولدت من النجباء
( وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي ) أي أوحيت إليهم على ألسنة الرسل . وقال ابن عطية : إما أن يكون وحي إلهام ، أو وحي أمر . والرسول هنا; هو عيسى ، وهذا الإيحاء إلى الحواريين; هو من نعم الله على عيسى بأن جعل له أتباعا يصدقونه ، ويعملون بما جاء به . ويحتمل أن تكون تفسيرية; لأنه تقدمها جملة في معنى القول ، وأن تكون مصدرية .
( قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون ) تقدم تفسير نظير هذه الجملة في آل عمران ، إلا أن هناك ( آمنا بالله ) لأنه تقدم ذكر الله فقط في قوله : ( من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله ) ، وهنا جاء ( قالوا آمنا ) فلم يتقيد بلفظ الجلالة ، إذ قد تقدم [ ص: 53 ] أن آمنوا بي وبرسولي ، وجاء هناك ( واشهد بأنا ) ، وهنا ( واشهد بأننا ) . وهذا هو الأصل ، إذ ( أن ) محذوف منه النون; لاجتماع الأمثال .
( قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ) . قال ابن عطية : ( إذ قال الحواريون ) اعتراض لما وصف حال قوم الله لعيسى يوم القيامة ، وتضمن الاعتراض إخبار محمد وأمته بنازلة الحواريين في المائدة ، إذ هي مثال نافع لكل أمة مع نبيها انتهى . والذي يقتضيه ظاهر اللفظ أن قوله تعالى : ( إذ قال الله ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك ) إلى آخر قصة المائدة ، كان ذلك في الدنيا ذكر عيسى بنعمه ، وبما أجراه على يديه من المعجزات ، وباختلاف بني إسرائيل عليه ، وانقسامهم إلى كافر ومؤمن ، وهم الحواريون ، ثم استطرد إلى قصة المائدة ، ثم إلى سؤاله تعالى لعيسى ( أأنت قلت للناس ) ، وإنما حمل بعضهم على أن ذلك في الآخرة كونه اعتقد أن ( إذ ) بدل من ( يوم يجمع الله الرسل ) ، وأن في آخر الآيات ( هذا يوم ينفع الصادقين ) . ولا يتعين هذا المحمل على ما نبينه ، إن شاء الله تعالى ، في قوله : ( هذا يوم ينفع ) ، بل الظاهر ما ذكرناه . وقرأ الجمهور ( هل يستطيع ربك ) ، بالياء وضم الباء . وهذا اللفظ يقتضي ظاهره الشك في قدرة الله تعالى ، على أن ينزل مائدة من السماء ، وذلك هو الذي حمل على أن الحواريين لم يكونوا مؤمنين ، قال : فإن قلت : كيف قالوا هل يستطيع ربك بعد إيمانهم وإخلاصهم ؟ قلت : ما وصفهم الله بالإيمان والإخلاص ، وإنما حكى ادعاءهم لهما ، ثم أتبعه قوله : ( إذ قالوا ) فآذن أن دعواهم كانت باطلة ، وأنهم كانوا شاكين . وقوله : ( الزمخشري هل يستطيع ربك ) كلام لا يرد مثله عن مؤمنين معظمين لربهم ، ولذلك قول عيسى لهم معناه; اتقوا الله ، ولا تشكوا في اقتداره واستطاعته ، ولا تقترحوا عليه ، ولا تحكموا ما تشتهون من الآيات ، فتهلكوا إذا عصيتموه بعدها . ( إن كنتم مؤمنين ) إن كانت دعواكم للإيمان صحيحة انتهى . وأما غير من أهل التفسير ، فأطبقوا على أن الحواريين كانوا مؤمنين حتى قال الزمخشري ابن عطية : لا خلاف أحفظه في أن الحواريين كانوا مؤمنين . وقال قوم : قال الحواريون هذه المقالة في صدر الأمر قبل علمهم بأنه يبرئ الأكمه والأبرص ، ويحيي الموتى . قال المفسرون : والحواريون هم خواص عيسى ، وكانوا مؤمنين ، ولم يشكوا في قدرة الله تعالى على ذلك . قال : لا يجوز لأحد أن يتوهم أن ابن الأنباري الحواريين شكوا في قدرة الله ، وإنما هذا كما يقول الإنسان لصاحبه : هل تستطيع أن تقوم معي ؟ وهو يعلم أنه مستطيع له ، ولكنه يريد هل يسهل عليك انتهى . وقال الفارسي : معناه هل يفعل ذلك بمسألتك إياه . وقال الحسن : لم يشكوا في قدرة الله ، وإنما سألوه سؤال مستخبر ، هل ينزل أم لا ؟ فإن كان ينزل فاسأله لنا . قال ابن عطية : هل يفعل تعالى هذا ؟ وهل يقع منه إجابة إليه ؟ كما قال لعبد الله بن زيد : هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يتوضأ ؟ فالمعنى هل يحب ذلك ، وهل يفعله انتهى . وقيل : المراد من هذا الكلام استفهام أن ذلك جائز ، أم لا ؟ وذلك لأن أفعاله موقوفة على وجوه الحكمة ، فإن لم يحصل شيء من وجوه الحكمة ، كان الفعل ممتنعا ، فإن المنافي من وجوه الحكمة ، كالمنافي من وجوه القدرة . قال أبو عبد الله الرازي : هذا الجواب يمشي على قول المعتزلة ، وأما على مذهبنا ، فهو محمول على أنه تعالى ، هل قضى بذلك ؟ وهل علم وقوعه ؟ فإنه إن لم يقض به ويعلم وقوعه ، كان ذلك محالا غير مقدور; لأن خلاف [ ص: 54 ] المعلوم غير مقدور ، وقال أيضا ليس المقصود من هذا الكلام كونهم شاكين فيه ، بل المقصود تقرير أن ذلك في غاية الظهور ، كمن يأخذ بيد ضعيف ، ويقول : هل يقدر السلطان على إشباع هذا ؟ ويكون غرضه منه أن ذلك أمر واضح ، لا يجوز للعاقل أن يشك فيه ، وأبعد من قال : هل ينزل ربك مائدة من السماء ؟ ( ويستطيع ) صلة ، ومن قال : الرب هنا جبريل ; لأنه كان يربي عيسى ، ويخصه بأنواع الإعانة ، ولذلك قال في أول الآية ( إذ أيدتك بروح القدس ) . وروي أن الذي نحا بهم هذا المنحى من الاقتراح; هو أن عيسى قال لهم مرة : هل لكم في صيام ثلاثين يوما لله تعالى ، ثم إن سألتموه حاجة ، قضاها ، فلما صاموها ، قالوا : يا معلم الخير ! إن حق من عمل عملا أن يطعم ، فهل يستطيع ربك ؟ فأرادوا أن تكون المائدة عيد ذلك الصوم . وقرأ ( هل تستطيع ربك ) ، بالتاء من فوق ( ربك ) بنصب الباء ، وهي قراءة الكسائي علي ومعاذ وابن عباس وعائشة . قالت وابن جبير عائشة : كان الحواريون أعرف بالله من أن يقولوا ( هل يستطيع ربك ) نزهتهم عن بشاعة اللفظ ، وعن مرادهم ظاهره . وقد ذكرنا تأويلات ذلك ، ومعنى هذه القراءة; هل تستطيع سؤال ربك ؟ و ( أن ينزل ) معمول لسؤال المحذوف إذ هو حذف لا يتم المعنى إلا به . وقال أبو علي : وقد يمكن أن يستغنى عن تقدير سؤال ، على أن يكون المعنى; هل تستطيع أن ينزل ربك بدعائك ؟ فيئول المعنى ، ولا بد إلى مقدر يدل عليه ما ذكر من اللفظ انتهى . ولا يظهر ما قال أبو علي ; لأن فعل الله تعالى ، وإن كان سببه الدعاء ، لا يكون مقدورا لعيسى . وأدغم لام ( هل ) في ياء ( يستطيع ) وعلى هذه القراءة يكون قول الكسائي عيسى ( اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ) لم ينكر عليهم الاقتراح للآيات ، وهو على كلتا القراءتين يكون قوله : ( إن كنتم مؤمنين ) تقريرا للإيمان ، كما تقول افعل كذا ، وكذا إن كنت رجلا . وقال مقاتل وجماعة : اتقوه أن تسألوه البلاء; لأنها إن نزلت ، وكذبتم عذبتم . وقال أبو عبيد وجماعة : أن تسألوه ما لم تسأله الأمم قبلكم . وقيل : أن تشكوا في قدرته على إنزال المائدة . وقيل : اتقوا الله في الشك فيه ، وفي رسله وآياتهم . وقيل : اتقوا معاصي الله . وقيل : أمرهم بالتقوى ليكون سببا لحصول هذا المطلوب ، كما قال تعالى : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ) . وقال : هنا ( الزمخشري عيسى ) في محل النصب على اتباع حركته حركة الابن ، كقولك يا زيد بن عمرو ! وهي اللغة الفاشية ، ويجوز أن يكون مضموما ، كقولك يا زيد بن عمرو ! والدليل عليه قوله : أحار ابن عمر كأني خمر لأن الترخيم لا يكون إلا في المضموم انتهى . فقوله : عيسى في محل النصب على هذا التقدير ، وعلى تقدير ضمه ، فهو لا اختصاص له بكونه في محل النصب على تقدير الإتباع ، فإصلاحه عيسى مقدر فيه الفتحة على إتباع الحركة ، وقوله : ويجوز أن يكون مضموما; هذا مذهب الفراء ، وهو تقدير الفتح والضم ، ونحوه مما لا تظهر فيه الضمة قياسا على الصحيح ، ولم يبدأ أولا بالضم الذي هو مجمع على تقديره : فليس بشرط ، ألا ترى إلى جواز ترخيم رجل اسمه مثنى ؟ فتقول : يا مثن أقبل ، وإلى ترخيم بعلبك ، وهو مبني على الفتح ، لكنه في تقدير الاسم المضموم ، وإن عنى ضمة مقدرة ، فإن عنى ضمة ظاهرة ، فليس بشرط ، ألا ترى إلى جواز ترخيم رجل اسمه مثنى ؟ فتقول : يا مثن ، فإن مثل يا جعفر بن زيد مما فتح فيه آخر المنادى لأجل الإتباع ، مقدر فيه الضمة لشغل الحرف بحركة الإتباع ، كما قدر الأعرابي في قراءة من قرأ ( الحمد لله ) ، بكسر الدال ، لأجل إتباع حركة ( لله ) ، فقولك : يا حار ! هو [ ص: 55 ] مضموم تقديرا ، وإن كانت الثاء المحذوفة مشغولة في الأصل بحركة الإتباع ، وهي الفتحة ، فلا تنافي بين الترخيم ، وبين ما فتح إتباعا ، وقدرت فيه الضمة . وكان ينبغي أن يتكلم على هذه المسألة قبل هذا في قوله تعالى : ( للزمخشري إذ قال الله ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك ) حيث تكلم الناس عليها .
( قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين ) لما أمرهم عيسى بتقوى الله منكرا عليهم ما تقدم من كلامهم ، صرحوا بسبب طلب المائدة ، وأنهم يريدون الأكل منها ، وذلك للشرف لا للشبع ، واطمئنان قلوبهم بسكون الفكر ، إذا عاينوا هذا المعجز العظيم النازل من السماء ، وعلم الضرورة والمشاهدة بصدقه ، فلا تعترض الشبه اللاحقة في علم الاستدلال وكينونتهم من المشاهدين بهذه الآية ، الناقلين لها إلى غيرهم ، القائمين بهذا الشرع ، أو من الشاهدين لله بالوحدانية ولك بالنبوة ، وقد طول بعض المفسرين في تفسير متعلق إرادتهم بهذه الأشياء ، وملخصها أنهم أرادوا الأكل للحاجة وشدة الجوع . قال : وكان إذا خرج اتبعه خمسة آلاف أو أكثر من صاحب له ، وذي علة يطلب البرء ، ومستهزئ فوقعوا يوما في مفازة ولا زاد ، فجاعوا وسألوا من ابن عباس الحواريين أن يسألوا عيسى نزول مائدة من السماء ، فذكر شمعون لعيسى ذلك ، فقال : قل لهم اتقوا الله ، وأرادوا الأكل ليزدادوا إيمانا . قال : أو التشريف بالمائدة ذكره ابن الأنباري الماوردي والاطمئنان : إما بأن الله قد بعثك إلينا ، أو اختارنا أعوانا لك ، أو قد أجابك ، أو العلم بالصدق في أنا إذا صمنا لله تعالى ثلاثين يوما . لم نسأل الله شيئا إلا أعطانا ، أو في أنك رسول حقا ، إذ المعجز دليل الصدق ، وكانوا قبل ذلك لم يروا الآيات ، أو يراد بالعلم الضروري والمشاهدة انتهى . وأتت هذه المعاطيف مرتبة ترتيبا لطيفا ، وذلك أنهم لا يأكلون منها إلا بعد معاينة نزولها ، فيجتمع على العلم بها حاسة الرؤية ، وحاسة الذوق ، فبذلك يزول عن القلب قلق الاضطراب ، ويسكن إلى ما عاينه الإنسان وذاقه ، وباطمئنان القلب يحصل العلم الضروري بصدق من كانت المعجزة على يديه ، إذ جاءت طبق ما سأل ، وسألوا هذا المعجز العظيم; لأن تأثيره في العالم العلوي بدعاء من هو في العالم الأرضي ، أقوى وأغرب من تأثير من هو في العالم الأرضي في عالمه الأرضي ، ألا ترى أن من أعظم معجزات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; القرآن ، وانشقاق القمر ، وهما من العالم العلوي . وإذا حصل عندهم العلم الضروري بصدق عيسى ، شهدوا شهادة يقين لا يختلج بها ظن ولا شك ، ولا وهم وبذكرهم هذه الأسباب الحاملة على طلب المائدة ، يترجح قول من قال : كان سؤالهم ذلك قبل علمهم بآيات عيسى ومعجزاته وإن وحي الله إليهم بالإيمان ، كان في صدر الأمر ، وعند ذلك قالوا هذه المقالة ، ثم آمنوا ورأوا الآيات ، واستمروا ، وصبروا . وقرأ ابن جبير : ( ونعلم ) بضم النون مبنيا للمفعول ، وهكذا في كتاب التحرير والتحبير ، وفي كتاب ابن عطية . وقرأ ( ويعلم ) بالياء المضمومة ، والضمير عائد على القلوب ، وفي كتاب سعيد بن جبير ويعلم بالياء على البناء للمفعول . وقرأ الزمخشري ( وتعلم ) بالتاء; أي وتعلمه قلوبنا . وقرأ الجمهور ( ونكون ) بالنون ، وفي كتاب التحرير والتحبير . وقرأ الأعمش سنان وعيسى ( وتكون عليها ) بالتاء ، وفي ; وكانت دعواهم لإرادة ما ذكروا ، كدعواهم للإيمان والإخلاص ، وإنما سأل الزمخشري عيسى ، وأجيب ليلزموا الحجة بكمالها ، ويرسل عليهم العذاب ، إذا خالفوا انتهى . وإنما قال ذلك لأنه ليس عنده الحواريون مؤمنين ، وإذا ولي ( أن ) المخففة من الثقيلة فعل متصرف عن دعاء ، فإن كان ماضيا ، فصل بينهما بـ ( قد ) ، نحو قوله : ونعلم أن قد صدقتنا ، وإن كان مضارعا ، فصل بينهما بحرف تنفيس ، كقوله : ( علم أن سيكون منكم مرضى ) ولا [ ص: 56 ] يقع بغير فصل ، قيل : إلا قليلا . وقيل : إلا ضرورة ، وفيما تتعلق به ( عليها ) التي تقدمت في نحو ( إني لكما لمن الناصحين ) . وقال : عاكفين عليها على أن ( عليها ) في موضع الحال انتهى . وهذا التقدير ليس بجيد; لأن حرف الجر لا يحذف عامله وجوبا ، إلا إذا كان كونا مطلقا لا كونا مقيدا ، والعكوف كون مقيد; ولأن المجرور إذا كان في موضع الحال ، كان العامل فيها ( عاكفين ) المقدر ، وقد ذكرنا أنه ليس بجيد ، ثم إن قول الزمخشري مضطرب; لأن عليها إذا كان ما يتعلق به هو عاكفين ، كانت في موضع نصب على المفعول الذي تعدى إليه العامل بحرف الجر ، وإذا كانت في موضع الحال ، كان العامل فيها كونا مطلقا واجب الحذف ، فظهر التنافي بينهما . ( الزمخشري وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا ) . روي أن عيسى لبس جبة شعر ورداء شعر ، وقام يصلي ويبكي ويدعو . وتقدم الكلام على لفظة ( اللهم ) في آل عمران ، ونادى ربه أولا بالعلم الذي لا شركة فيه ، ثم ثانيا بلفظ ( ربنا ) مطابقا إلى مصلحنا ومربينا ومالكنا . وقرأ الجمهور ( تكون لنا ) على أن الجملة صفة لمائدة . وقرأ عبد الله ( يكن ) بالجزم على جواب الأمر ، والمعنى يكن يوم نزولها عيدا ، وهو يوم الأحد ، ومن أجل ذلك اتخذه والأعمش النصارى عيدا . وقيل العيد : السرور والفرح ، ولذلك يقال يوم عيد ، فالمعنى يكون لنا سرورا وفرحا ، والعيد المجتمع لليوم المشهود ، وعرفه أن يقال فيما يستدير بالسنة أو بالشهر أو بالجمعة ونحوه . وقيل : العيد لغة ما عاد إليك من شيء في وقت معلوم ، سواء كان فرحا أو ترحا ، وغلبت الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية . وقال الخليل : العيد كل يوم يجمع الناس; لأنهم عادوا إليه . قال : لأولنا لأهل زماننا ، وآخرنا من يجيء بعدنا . وقيل لأولنا المتقدمين منا والرؤساء ، وآخرنا يعني الأتباع . والأولية والآخرية فاحتملتا الأكل والزمان والرتبة ، والظاهر الزمان . وقرأ ابن عباس زيد بن ثابت وابن محيصن والجحدري لأولانا وأخرانا ، أنثوا على معنى الأمة والجماعة ، والمجرور بدل من قوله لنا ، وكرر العامل وهو حرف الجر ، كقوله ( منها من غم ) والبدل من ضمير المتكلم والمخاطب ، إذا كان بدل بعض ، أو بدل اشتمال ، جاز بلا خلاف ، وإن كان بدل شيء من شيء ، وهما لعين واحدة ، فإن أفاد معنى التأكيد جاز لهذا البدل ، إذ المعنى تكون لنا عيدا كلنا ، كقولك : مررت بكم أكابركم وأصاغركم; لأن معنى ذلك; مررت بكم كلكم ، وإن لم تفد توكيدا ، فمسألة خلاف الأخفش يجيز ، وغيره من البصريين يمنع ، ومعنى ( وآية منك ) علامة شاهدة على صدق عبدك . وقيل حجة ، ودلالة على كمال قدرتك . وقرأ اليماني ( وأنه منك ) ، والضمير في ( وأنه ) إما للعيد ، أو الإنزال . ( وارزقنا ) قيل : المائدة ، وقيل : الشكر لنعمتك ( وأنت خير الرازقين ) لأنك الغني الحميد تبتدئ بالرزق . قال أبو عبد الله الرازي : تأمل هذا الترتيب ، فإن الحواريين لما سألوا المائدة ، ذكروا في طلبها أغراضا ، فقدموا ذكر الأكل ، وأخروا الأغراض الدينية الروحانية ، وعيسى طلب المائدة ، وذكر أغراضه ، فقدم الدينية ، وأخر أغراض الأكل ، حيث قال : ( وارزقنا ) وعند هذا يلوح لك مراتب درجات الأرواح في كون بعضها روحانية ، وبعضها [ ص: 57 ] جسمانية ، ثم إن عيسى ، عليه السلام ، لشدة صفاء وقته ، وإشراق روحه ، لما ذكر الرزق بقوله ( وارزقنا ) لم يقف عليه ، بل انتقل من الرزق إلى الرازق ، فقال : ( وأنت خير الرازقين ) ، فقوله : ( ربنا ) ابتداء منه بنداء الحق سبحانه وتعالى ، وقوله : ( أنزل علينا مائدة ) انتقال من الذات إلى الصفات ، وقوله : ( تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا ) إشارة إلى ابتهاج الروح بالنعمة ، لا من حيث إنها نعمة ، بل من حيث إنها صادرة عن المنعم . وقوله : ( وآية منك ) إشارة إلى حصة النفس ، وكل ذلك نزل من حضرة الجلال ، فانظر كيف ابتدأ بالأشرف ، فالأشرف ، نازلا إلى الأدون ، فالأدون . ( وأنت خير الرازقين ) هو عروج مرة أخرى من الأخس إلى الأشرف ، وعند هذا يلوح همه من كيفية عروج الأرواح المشرقة النورانية الإلهية ، ونزولها ، اللهم اجعلنا من أهله ، وهو كلام دائر بين لفظ فلسفي ، ولفظ صوفي ، وكلاهما بعيد عن كلام العرب ومناحيها .