( ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم ) أخبر أنه لم يتعد أمر الله في أن أمر بعبادته ، وأقر بربوبيته . وفي قوله : ( ربي وربكم ) براءة مما ادعوه فيه ، وفي الإنجيل قال [ ص: 60 ] يا معاشر بني المعمودية ؟ قوموا بنا إلى أبي وأبيكم ، وإلهي وإلهكم ، ومخلصي ومخلصكم . وقال أبو عبد الله الرازي : كان الأصل أن يقال : ما أمرتهم إلا ما أمرتني به ، إلا أنه وضع القول موضع الأمر; نزولا على موجب الأدب . وقال الحسن : إنما عدل لئلا يجعل نفسه وربه آمرين معا ، ودل على أن الأصل ما ذكر ( أن ) المفسرة انتهى . قال الحوفي وابن عطية : ( وأن ) في ( أن اعبدوا ) مفسرة لا موضع لها من الإعراب ، ويصح أن يكون بدلا من ( ما ) ، وصح أن يكون بدلا من الضمير في به ، زاد ابن عطية أنه يصح أن يكون في محل خفض على تقديره : . ( أن اعبدوا ) ، وأجاز أبو البقاء الجر على البدل من الهاء ، والرفع على إضمار ( هو ) ، والنصب على إضمار ( أعني ) ، أو بدلا من موضع ( به ) . قال : ولا يجوز أن تكون بمعنى ( أن ) المفسرة; لأن القول قد صرح به ، و ( أن ) لا تكون مع التصريح بالقول . وقال : ( أن ) في قوله : ( الزمخشري أن اعبدوا الله ) إن جعلتها مفسرة لم يكن لها بد من مفسر ، والمفسر إما فعل القول ، وإما فعل الأمر ، وكلاهما لا وجه له; أما فعل القول ، فيحكى بعده الكلام من غير أن يوسط بينهما حرف التفسير ، لا تقول : ما قلت لهم إلا [ ص: 61 ] ( أن اعبدوا الله ربي وربكم ) ، ولكن ما قلت لهم إلا اعبدوا الله ، وأما فعل الأمر ، فمسند إلى ضمير الله تعالى ، فلو فسرته باعبدوا الله ربي وربكم ، لم يستقم; لأن الله لا يقول : اعبدوا الله ربي وربكم ، وإن جعلتها موصولة بالفعل ، لم يخل من أن تكون بدلا من ما أمرتني به ، أو من الهاء في به ، وكلاهما غير مستقيم; لأن البدل هو الذي يقوم مقام المبدل منه ، ولا يقال ما قلت لهم إلا أن اعبدوا الله ، بمعنى ما قلت لهم إلا عبادته; لأن العبادة لا تقال ، وكذلك إذا جعلته بدلا من الهاء; لأنك لو أقمت ( أن اعبدوا الله ) لم يصح لبقاء الموصول بغير راجع إليه من صلته . فإن قلت : فكيف تصنع ؟ قلت : يحمل فعل القول على معناه; لأن معنى ( ما قلت لهم إلا ما أمرتني به ) ما أمرتهم إلا بما أمرتني به حتى يستقيم تفسيره بـ ( أن اعبدوا الله ربي وربكم ) ويجوز أن تكون موصولة عطفا على بيان الهاء ، لا بدلا انتهى . وفيه بعض تلخيص . أما قوله : وأما فعل الأمر إلى آخر المنع ، وقوله لأن الله تعالى ، لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم ، فإنما لم يستقم; لأنه جعل الجملة وما بعدها مضمومة إلى فعل الأمر ، ويستقيم أن يكون فعل الأمر مفسرا بقوله : ( اعبدوا الله ) ، ويكون ( ربي وربكم ) من كلام عيسى ، على إضمار أعني; أي أعني ربي وربكم ، لا على الصفة التي فهمها فلم يستقم ذلك عنده . وأما قوله : لأن العبادة لا تقال ، فصحيح ، لكن ذلك يصح على حذف مضاف; أي ما قلت لهم إلا القول الذي أمرتني به ، قول عبادة الله; أي القول المتضمن عبادة الله . وأما قوله لبقاء الموصول بغير راجع إليه من صلته ، فلا يلزم في كل بدل أن يحل محل المبدل منه ، ألا ترى إلى تجويز النحويين : زيد مررت به أبي عبد الله ، ولو قلت : زيد مررت بأبي عبد الله ، لم يجز ذلك عندهم ، إلا على رأي الزمخشري الأخفش . وأما قوله عطفا على بيان الهاء ، فهذا فيه بعد; لأن عطف البيان أكثره بالجوامد الأعلام ، وما اختاره وجوزه غيره من كون ( أن ) مفسرة ، لا يصح لأنها جاءت بعد ( إلا ) ، وكل ما كان بعد ( إلا ) المستثنى بها ، فلا بد أن يكون له موضع من الإعراب ، ( وأن ) التفسيرية لا موضع لها من الإعراب ، وانظر إلى ما تضمنت محاورة الزمخشري عيسى ، وجوابه مع الله تعالى ، لما قرع سمعه ما لا يمكن أن يكون ، نزه الله تعالى ، وبرأه من السوء ، ومن أن يكون معه شريك ، ثم أخبر عن نفسه أنه لا يمكن أن يقول ما ليس له بحق ، فأتى بنفي لفظ عام ، وهو لفظ ( ما ) المندرج تحته كل قول ليس بحق ، حتى هذا القول المعين ، ثم تبرأ تبرءا ثالثا ، وهو إحالة ذلك على علمه تعالى ، وتفويض ذلك إليه ، وعيسى يعلم أنه ما قاله ، ثم لما أحال على العلم ، أثبت علم الله به ، ونفى علمه بما هو لله . وفيه إشارة إلى أنه لا يمكن أن يهجس ذلك في خاطري ، فضلا عن أن أفوه به وأقوله ، فصار مجموع ذلك نفي هذا القول ، ونفي أن يهجس في النفس ، ثم علل ذلك بأنه تعالى مستأثر بعلم الغيب ، ثم لما نزه الله تعالى ، وانتفى عنه قول ذلك ، وأن يخطر ذلك في نفسه ، انتقل إلى ما قاله لهم ، فأتى به محصورا بـ ( إلا ) ، معذوقا بأنه هو الذي أمره الله به أن يبلغهم عنه .
( وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم ) أي رقيبا ، كالشاهد على المشهود عليه أمنعهم من قول ذلك ، وأن يتدينوا به ، وأتى بصيغة فعيل للمبالغة كثير الحفظ عليهم ، والملازمة لهم ، ( وما ) ظرفية ، ( ودام ) تامة أي ما بقيت فيهم; أي شهيدا في الدنيا .
( فلما توفيتني ) قيل : هذا يدل على أنه توفاه وفاة الموت قبل أن يرفعه ، وليس بشيء لأن الأخبار تظافرت برفعه حيا ، وأنه في السماء حي ، وأنه ينزل ويقتل الدجال ، ومعنى ( توفيتني ) قبضتني إليك ، بالرفع . وقال الحسن : الوفاة وفاة الموت ، ووفاة النوم ، ووفاة الرفع . قال : ( الزمخشري كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد ) تمنعهم من القول به بما نصبت لهم من الأدلة ، وأنزلت عليهم من البينات ، وأرسلت إليهم الرسل انتهى . وفيه دسيسة الاعتزال .