( قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) أي بكفركم بالعذاب والباء سببية فقيل متعلق الكفر البعث أي بكفركم بالبعث ، وقيل : متعلقه العذاب أي بكفركم بالعذاب ، والذوق في العذاب استعارة بليغة والمعنى باشروه مباشرة الذائق إذ هي أشد المباشرات .
( قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا ياحسرتنا على ما فرطنا فيها ) هذا استئناف إخبار من الله تعالى عن أحوال منكري البعث وخسرانهم أنهم استعاضوا الكفر عن الإيمان فصار ذلك شبيها بحالة البائع الذي أخذ وأعطى وكان ما أخذ من الكفر سببا لهلاكه وما أعطاه من الإيمان سببا لنجاته فأشبه الخاسر في صفقته العادم الربح ورأس ماله ومعنى ( بلقاء الله ) بلوغ الآخرة وما يكون فيها من الجزاء ورجوعهم إلى أحكام الله فيها وحتى غاية لتكذيبهم لا لخسرانهم لأن الخسران لا غاية له والتكذيب مغيا بالحسرة لأنه لا يزال بهم التكذيب إلى قولهم يا حسرتنا وقت مجيء الساعة وتقدم الكلام على ( حتى إذا ) في قوله : ( حتى إذا جاءوك يجادلونك ) ومعنى ( بلقاء الله ) بلقاء جزائه والإضافة تفخيم وتعظيم لشأن الجزاء وهو نظير ( لقي الله وهو عليه غضبان ) أي لقي جزاءه ومن أثبت أن الله تعالى في جهة استدل بهذا وقال : اللقاء حقيقة ، و ( الساعة ) يوم القيامة سمي ساعة لسرعة انقضاء الحساب فيها للجزاء لقوله : ( أسرع الحاسبين ) . قال ابن عطية : وأدخل عليها تعريف العهد دون تقدم ذكر لشهرتها واستقرارها في النفوس وذياع ذكرها وأيضا فقد تضمنها قوله : ( بلقاء الله ) انتهى . ثم غلب استعمال الساعة; على يوم القيامة فصارت الألف واللام فيها للغلبة كهي في البيت للكعبة والنجم للثريا .
وقال : فإن قلت : إنما يتحسرون عند موتهم قلت : لما كان الموت وقوعا في أحوال الآخرة ومقدماتها جعل من جنس الساعة وسمي باسمها ولذلك قال رسول الله : " الزمخشري من مات فقد قامت قيامته " . وجعل في مجيء الساعة بعد الموت لسرعته فالواقع بغير فترة انتهى . وإطلاق ( الساعة ) على وقت الموت مجاز ويمكن حمل الساعة على الحقيقة وهو يوم القيامة ولا يلزم من تحسرهم وقت الموت أنهم لا يتحسرون يوم القيامة بل الظاهر ذلك لقوله : ( وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ) إذ هذا حال من قولهم : ( قالوا ياحسرتنا على ما فرطنا فيها ) وهي حال مقارنة وإذا حملنا الساعة على وقت الموت كانت حالا مقدرة ومجيء القدرة بالنسبة إلى المقارنة قليل فيكون التكذيب متصلا بهم مغيا بالحسرة إلى يوم القيامة إذ مكثهم في البرزخ على اعتقاد أمثلهم [ ص: 107 ] طريقة يوم واحد كما قال تعالى : ( إن لبثتم إلا يوما ) فلما جاءتهم الساعة زال التكذيب وشاهدوا ما أخبرتهم به الرسل عيانا فقالوا ( يا حسرتنا ) وجوزوا في انتصاب ( بغتة ) أن يكون مصدرا في موضع الحال من ( الساعة ) أي باغتة أو من مفعول جاءتهم أي مبغوتين أو مصدرا لجاء من غير لفظه كأنه قيل : حتى إذا بغتتهم الساعة بغتة أو مصدرا لفعل محذوف أي تبغتهم بغتة ونادوا الحسرة وإن كانت لا تجيب على طريق التعظيم . قال : وكأن الذي ينادي الحسرة أو العجب أو السرور أو الويل يقول : اقربي أو احضري فهذا أوانك وزمنك وفي ذلك تعظيم للأمر على نفس المتكلم وعلى سامعه كان ثم سامع وهذا التعظيم على النفس والسامع هو المقصود أيضا في نداء الجمادات كقولك يا دار يا ربع وفي نداء ما لا يعقل كقولهم : يا جمل ، و ( فرطنا ) قصرنا والتفريط التقصير مع القدرة على تركه والضمير في ( فيها ) عائد على ( الساعة ) أي في التقدمة لها قاله الحسن أو الصفقة التي تضمنها ذكر الخسارة قاله سيبويه . وقال الطبري : الضمير للحياة الدنيا جيء بضميرها وإن لم يجر لها ذكر لكونها معلومة أو الساعة على معنى قصرنا في شأنها وفي الإيمان بها كما تقول : فرطت في فلان ومنه فرطت في جنب الله انتهى . وكونه عائدا على الدنيا وهو قول الزمخشري ودل العقل على أن موضع التقصير ليس إلا الدنيا فحسن عوده عليها لهذا المعنى وأورد ابن عباس ابن عطية هذا القول احتمالا فقال : يحتمل أن يعود الضمير على الدنيا إذ المعنى يقتضيها وتجيء الظرفية أمكن بمنزلة زيد في الدار انتهى . وعوده على ( الساعة ) قول الحسن والمعنى في إعداد الزاد والأهبة لها ، وقيل : يعود الضمير على ( ما ) وهي موصول وعاد على المعنى أي ( يا حسرتنا ) على الأعمال والطاعات التي فرطنا فيها و ( ما ) في الأوجه التي سبقت مصدرية التقدير على تفريطنا في الدنيا أو في الساعة أو في الصفقة على التقدير الذي تقدم . والظاهر عوده على الساعة وأبعد من ذهب إلى أنه عائد إلى منازلهم في الجنة إذا رأوا منازلهم فيها لو كانوا آمنوا .