( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ) . قال : [ ص: 119 ] وموضع الاحتجاج من هذه الآية; أن الله ركب في المشركين عقولا ، وجعل لهم أفهاما ألزمهم بها أن يتدبروا أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، كما جعل للدواب والطير أفهاما ، يعرف بها بعضها إشارة بعض ، وهدى الذكر منها لإتيان الأنثى ، وفي ذلك دليل على نفاذ قدرة المركب ذلك فيها . وقال ابن الأنباري ابن عطية : المعنى في هذه الآية; التنبيه على آيات الله الموجودة في أنواع مخلوقاته . وقال : فإن قلت : فما الغرض في ذكر ذلك ؟ قلت : الدلالة على عظم قدرته ، ولطف علمه ، وسعة سلطانه ، وتدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس المتكاثرة الأصناف ، وهو لما لها ، وما عليها مهيمن على أحوالها ، لا يشغله شأن عن شأن ، وأن المكلفين ليسوا مخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان . انتهى . الزمخشري
والذي يظهر أنه تعالى لما حكى عن هؤلاء قولهم ( لولا نزل عليه آية من ربه ) ، ولم يعتبروا ما نزل من الآيات ، وأجيبوا بأن القدرة صالحة لإنزال آية ، وهي التي اقترحتموها ، ونبهوا على جهلهم حيث فرقوا بين آية وآية ، أخبروا أنهم أنفسهم ، وجميع الحيوان غيرهم متماثلون في تعلق القدرة الإلهية بالجميع ، فلا فرق بين خلق من كلف ، وما لم يكلف في تعلق القدرة بهما ، وإبرازهما من صرف العدم إلى صرف الوجود ، فكأنه قيل : القدرة تعلقت بالآيات كلها مقترحها وغير مقترحها ، كما تعلقت بخلقكم ، وخلق سائر الحيوان ، فالإمكان هو الجامع بين كل ذلك; ولذلك قال تعالى : ( إلا أمم أمثالكم ) يعني في تعلق القدرة بإيجادها ، كتعلقها بإيجادكم ، وكذلك الآيات . وفي ذلك إشارة إلى أن الآيات الواردة على أيدي الأنبياء ، عليهم السلام ، قد تكون باختراع أعيان ، كالماء الذي نبع من بين الأصابع ، والطعام الذي تكثر من قليل ، كما أن المخلوقات هي أعيان مخترعة لله تعالى ، وكأن النسبة بمماثلة الحيوان للإنسان دون ذكر الجماد ودون ذكر ما يعمها من حيث قوة المماثلة في الشعور بالأشياء ، والاهتداء إلى كثير من المصالح ، بخلاف الجماد ، وإن كانت القدرة متعلقة بجميع المخلوقات . ودابة تقدم شرحها ، وهي هنا في سياق النفي مصحوبة بـ ( من ) التي تفيد استغراق الجنس ، فهي عامة تشمل كل ما يدب ، فيندرج فيها الطائر ، فذكر الطائر بعد ذكر الدابة تخصيص بعد تعميم ، وذكر بعض من كل ، وصار من باب التجريد ، كقوله : ( وجبريل وميكال ) ، بعد ذكر الملائكة . وإنما جرد الطائر; لأن تصرفه في الوجود دون غيره من الحيوان ، أبلغ في القدرة ، وأدل على عظمها من تصرف غيره من الحيوان في الأرض ، إذ الأرض جسم كثيف يمكن تصرف الأجرام عليها ، والهواء جسم لطيف ، لا يمكن عادة تصرف الأجرام الكثيفة فيها ، إلا بباهر القدرة الإلهية; ولذلك قال تعالى : ( ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله ) . وجاء قوله في الأرض إشارة إلى تعميم جميع الأماكن . لما كان لفظ من دابة ، وهو المتصرف أتى بالمتصرف فيه عاما ، وهو الأرض ، وتشمل الأرض البر والبحر . ويطير بجناحيه تأكيد لقوله : ( ولا طائر ) لأنه لا طائر إلا يطير بجناحيه; وليرفع المجاز الذي كان يحتمله قوله : ( ولا طائر ) ، لو اقتصر عليه ، ألا ترى إلى استعارة الطائر للعمل في قوله : ( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ) ؟ وقولهم : طار لفلان كذا في القسمة; أي سهمه . وطائر السعد والنحس . وفيه تنبيه على تصور هيئته على حالة الطيران ، واستحضار لمشاهدة هذا الفعل الغريب . وجاء الوصف بلفظ يطير; لأنه مشعر بالديمومة والغلبة; لأن أكثر أحوال الطائر كونه يطير ، وقل ما يسكن ، حتى أن المحبوس منها يكثر ولوعه بالطيران في المكان الذي حبس فيه من قفص وغيره . وقرأ ، ولا طائر ، بالرفع عطفا على موضع دابة . وجوزوا أن يكون ، في الأرض ، في موضع رفع صفة على موضع دابة ، وكذلك يقتضي أن يكون يطير ، ويتعين ذلك في قراءة ابن أبي عبلة . والباء في بجناحيه للاستعانة ، كقوله : كتبت بالقلم . و ( إلا أمم ) ، هو خبر المبتدأ [ ص: 120 ] الذي هو من دابة ولا طائر وجمع الخبر وإن كان المبتدأ مفردا حملا على المعنى; لأن المفرد هنا للاستغراق . والمثلية هنا ، قال ابن أبي عبلة : أمثالكم مكتوبة أرزاقها ، وآجالها ، وأعمالها ، كما كتبت ، أرزاقكم ، وآجالكم ، وأعمالكم انتهى . وقال الزمخشري ابن عطية : مماثلة للناس في الخلق والرزق والحياة والموت والحشر . وقال وغيره ، وهو مروي عن الطبري ، واختيار أبي هريرة المماثلة في أنها تجازى بأعمالها ، وتحاسب ، ويقتص لبعضها من بعض على ما روي في الأحاديث . وقال مكي : في أنها تعرف الله تعالى ، وتعبده . وهذا قول الزجاج أبي عبيدة ، قال : معناه إلا أجناس يعرفون الله ويعبدونه . ونقله الواحدي عن ; أن المماثلة حصلت من حيث أنهم يعرفون الله ، ويوحدونه ، ويحمدونه ، ويسبحونه . وإليه ذهبت طائفة من المفسرين ، محتجين بقوله : ( ابن عباس وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) ، وبقوله في صفة الحيوان : ( كل قد علم صلاته وتسبيحه ) وبما به خاطب النمل ، وخاطب الهدهد . قال ابن عطية في قول مكي : وهذا قول خلف . انتهى . وقال ابن عطية : ويحتمل أن تكون المماثلة في كونها أمما لا غير . كما تريد بقولك : مررت برجل مثلك; أي في أنه رجل . ويصح في غير ذلك من الأوصاف ، إلا أن الفائدة في هذه أن تكون المماثلة في أوصاف غير كونها أمما . قال مجاهد : إلا أصناف مصنفة . وقال أبو صالح عن : المماثلة وقعت بينها ، وبين بني آدم من قبل أن بعضهم يفقه عن بعض . وقال ابن عباس ابن عيسى : أمثالكم في الحاجة إلى مدبر يدبرهم فيما يحتاجون إليه من قوت يقوتهم ، وإلى لباس يسترهم ، وإلى سكن يواريهم . وروي عن أنه قال : أبهمت عقول البهم عن كل شيء ، إلا عن أربعة أشياء : الإله سبحانه وتعالى ، وطلب الرزق ، ومعرفة الذكر والأنثى ، وتهيؤ كل واحد منهما لصاحبه . وقيل : المماثلة في كونها جماعات مخلوقة يشبه بعضها بعضا ، ويأنس بعضها ببعض ، وتتوالد كالإنس . وروى أبي الدرداء عن أبو سليمان الخطابي ; أنه قرأ هذه الآية ، وقال : ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من بعض البهائم ، فمنهم من يقدم إقدام الأسد ، ومنهم من يعدو عدو الذئب ، ومنهم من ينبح نباح الكلاب ، ومنهم من يتطوس كفعل الطاووس ، ومنهم من يشره شره الخنزير . وفي رواية; منهم من يشبه الخنزير ، إذا ألقي إليه الطعام الطيب ، تركه ، وإذا قام الرجل من رجيعه ، ولغ فيه . وكذلك تجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمة ، لم يحفظ منها واحدة . فإن أخطأت واحدة حفظها ، ولم يجلس مجلسا رواها عنك . ( سفيان بن عيينة ما فرطنا في الكتاب من شيء ) أي ما تركنا وما أغفلنا ، والكتاب : اللوح المحفوظ . والمعنى; وما أغفلنا فيه من شيء لم نكتبه ، ولم نثبت ما وجب أن يثبت ، قاله ، ولم يذكر غيره ، أو القرآن ، وهو الذي يقتضيه سياق الآية والمعنى . وبدأ به عن الزمخشري ابن عطية ، وذكر اللوح المحفوظ ، فعلى هذا يكون قوله : من شيء على عمومه ، وعلى القول الأول يكون من العام الذي يراد به الخاص ، فالمعنى من شيء يدعو إلى معرفة الله وتكاليفه . وكثيرا ما يستدل بعض الظاهرية بقوله : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) يشير إلى أن الكتاب تضمن الأحكام التكليفية كلها . والتفريط التقصير ، فحقه أن يتعدى بـ ( في ) ، كقوله : ( على ما [ ص: 121 ] فرطت في جنب الله ) ، وإذا كان كذلك ، فيكون قد ضمن ما أغفلنا ، وما تركنا ، ويكون ( من شيء ) في موضع المفعول به ، و ( من ) زائدة ، والمعنى : ما تركنا وما أغفلنا في الكتاب شيئا يحتاج إليه من دلائل الإلهية والتكاليف . ويبعد جعل ( من ) هنا تبعيضية ، وأن يكون التقدير ما فرطنا في الكتاب بعض شيء يحتاج إليه المكلف ، وإن قاله بعضهم . وجعل أبو البقاء هنا من شيء واقعا موقع المصدر; أي تفريطا ، قال : وعلى هذا التأويل ، لا يبقى في الآية حجة لمن ظن أن الكتاب يحتوي على ذكر كل شيء تصريحا ، ونظير ذلك ( لا يضركم كيدهم شيئا ) أي ضررا انتهى . وما ذكره من أنه لا يبقى على هذا التأويل حجة لمن ذكر ، ليس كما ذكر; لأنه إذا تسلط النفي على المصدر كان المصدر منفيا على جهة العموم ، ويلزم من نفي هذا العموم ، نفي أنواع المصدر ، ونوع مشخصاته ، ونظير ذلك لا قيام ، فهذا نفي عام ، فينتفي منه جميع أنواع القيام ، ومشخاصته كقيام زيد وقيام عمرو ، وما أشبه ذلك ، فإذا نفي التفريط على طريقة العموم ، كان ذلك نفيا لجميع أنواع التفريط ومشخصاته ومتعلقاته ، فيلزم من ذلك أن الكتاب يحتوي على ذكر كل شيء . وقرأ الأعرج وعلقمة ( ما فرطنا ) بتحفيف الراء ، والمعنى واحد . وقال النقاش : معنى ( فرطنا ) مخففة أخرنا ، كما قالوا : فرط الله عنك المرض أي أزاله .
( ثم إلى ربهم يحشرون ) الظاهر في الضمير أنه عائد على ما تقدم ، وهو الأمم كلها من الطير والدواب . وقال قوم : هو عائد على الكفار ، لا على أمم ، وما تخلل بينهما كلام معترض وإقامة وحجج ، ويرجح هذا القول ، كونه جاء بهم ، وبالواو التي هي للعقلاء ، ولو كان عائدا على أمم الطير والدواب ، لكان التركيب ، ثم إلى ربها تحشر . ويجاب عن هذا; بأنها لما كانت ممتثلة لما أراد الله منها ، أجريت مجرى العقلاء . وأصل الحشر الجمع ، ومنه فحشر فنادى . والظاهر أنه يراد به البعث يوم القيامة ، وهو قول الجمهور ، فتحشر البهائم والدواب والطير ، وفي ذلك حديث يرويه عن يزيد بن الأصم قال : يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شيء ، فيبلغ من عدل الله عز وجل يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء ، ثم يقول : كوني ترابا ، فذلك قوله تعالى : ( أبي هريرة ويقول الكافر ياليتني كنت ترابا ) . وقال ابن عباس والحسن في آخرين : حشر الدواب موتها; لأن الدواب لا تكليف عليها ، ولا ترجو ثوابا ، ولا تخاف عقابا ، ولا تفهم خطابا انتهى . ومن ذهب هذا المذهب ، تأول حديث على معنى التمثيل في الحساب والقصاص ، حتى يفهم كل مكلف أنه لا بد له منه ، ولا محيص ، وأنه العدل المحض . قال أبي هريرة ابن عطية : والقول في الأحاديث المتضمنة أن الله يقتص للجماء من القرناء ، أنها كناية عن العدل ، وليست بحقيقة قول مرذول ينحو إلى القول بالرموز ونحوها انتهى . وقال : القول بحشرها مع بني آدم أظهر انتهى . وعلى القول بحشر البهائم مع الناس ، اختلفوا في المعنى الذي تحشر لأجله ، فذهب أهل السنة أنها لإظهار القدرة على الإعادة ، وفي ذلك تخجيل لمن أنكر ذلك ، فقال : من يحيي العظام وهي رميم ؟ وقالت ابن فورك المعتزلة : يحشر الله البهائم والطير; لإيصال الأعواض إليها ، وكذلك قال : فيعوضهما وينصف بعضها من بعض ، كما روي أنه يأخذ للجماء من القرناء انتهى . وطول الزمخشري المعتزلة في إيصال التعويض عن آلام البهائم وضررها ، وأن ذلك واجب على الله تعالى ، وفرعوا فروعا ، واختلفوا في العوض ، أهو منقطع ، أم دائم ؟ فذهب القاضي وأكثر معتزلة البصرة إلى أنه منقطع ، فبعد توفية العوض ، يجعلها ترابا ، وقال أبو القاسم البلخي : يجب كون العوض دائما . وقيل : تدخل البهائم الجنة وتعوض عن ما نالها من الآلام . وكل ما قالته المعتزلة مبناه على أن الله تعالى يجب عليه إيصال الأعواض إلى البهائم عن الآلام التي حصلت لها في الدنيا . ومذهب أهل السنة أن الإيجاب على الله تعالى محال .