( فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ) ( لولا ) هنا حرف تحضيض ، يليها الفعل ظاهرا ، أو مضمرا ، أو يفصل بينهما بمعمول الفعل من مفعول به وظرف كهذه الآية فصل بين ( لولا ) ، و ( تضرعوا ) بإذ ، وهي معمولة لتضرعوا ، والتحضيض يدل على أنه لم يقع تضرعهم حين جاء البأس ، فمعناه إظهار معاتبة مذنب غائب ، وإظهار سوء فعله; ليتحسر عليه المخاطب ، وإسناد المجيء إلى البأس ، مجاز عن وصوله إليهم ، والمراد أوائل البأس وعلاماته .
( ولكن قست قلوبهم ) أي صلبت وصبرت على ملاقاة العذاب; لما أراد الله من كفرهم ، ووقوع ( لكن ) هنا حسن; لأن المعنى انتفاء التذلل عند مجيء البأس ، ووجود القسوة الدالة على العتو والتعزز ، فوقعت ( لكن ) بين ضدين ، وهما اللين والقسوة ، وكذا إن كانت القسوة عبارة عن الكفر ، فعبر بالسبب عن المسبب ، والضراعة عبارة عن الإيمان ، فعبر بالسبب عن المسبب ، كانت أيضا واقعة بين ضدين ، تقول : قسا قلبه فكفر ، وآمن فتضرع .
( وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ) يحتمل أن تكون الجملة داخلة تحت الاستدراك ، ويحتمل أن تكون استئناف إخبار . والظاهر الأول ، فيكون الحامل على ترك التضرع قسوة قلوبهم ، وإعجابهم بأعمالهم التي كان الشيطان سببا في تحسينها لهم .
( فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ) أي فلما تركوا الاتعاظ والازدجار بما ذكروا به من البأس ، استدرجناهم بتيسير مطالبهم الدنيوية ، وعبر عن ذلك بقوله : ( فتحنا عليهم أبواب كل شيء ) ، إذ يقتضي شمول الخيرات ، وبلوغ الطلبات .
( حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة ) معنى هذه الجمل ، معنى قوله : ( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ) . وفي الحديث الصحيح عن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : " عقبة بن عامر فلما نسوا ما ذكروا به ) الآية . والأبواب استعارة عن الأسباب التي هيأها الله لهم ، المقتضية لبسط الرزق عليهم ، والإبهام في هذا العموم; لتهويل ما فتح عليهم وتعظيمه ، وغيا الفتح بفرحهم بما أوتوا ، وترتب على فرحهم أخذهم بغتة; أي إهلاكهم فجأة ، وهو أشد الإهلاك ، إذ لم يتقدم شعور به ، فتتوطن النفس على لقائه ، ابتلاهم أولا بالبأساء والضراء ، فلم يتعظوا ، ثم نقلهم إلى ما أوجب سرورهم من إسباغ النعم عليهم ، فلم يجد ذلك [ ص: 131 ] عندهم ولا قصدوا الشكر ولا أصغوا إلى إنابة بل لم يحصلوا إلا على فرح بما أسبغ عليهم . قال إذا رأيتم الله تعالى يعطي العباد ما يشاءون على معاصيهم ، فإنما ذلك استدراج منه لهم ، ثم تلا ( : أمهل هؤلاء القوم عشرين سنة . محمد بن النضر الحارثي
( فإذا هم مبلسون ) أي باهتون بائسون لا يحيرون جوابا . وقرأ ابن عامر ( فتحنا ) بتشديد التاء ، والتشديد لتكثير الفعل ، " وإذا " هي الفجائية وهي حرف على مذهب الكوفيين وظرف مكان ، ونسب إلى ، وظرف زمان وهو مذهب سيبويه ، والعامل فيها - إذا قلنا بظرفيتها - هو خبر المبتدأ أي ففي ذلك المكان هم مبلسون ، أي مكان إقامتهم وذلك الزمان هم مبلسون ، وأصل الإبلاس الإطراق لحلول نقمة أو زوال نعمة . قال الرياشي الحسن : مكتئبون . وقال : هالكون . وقال السدي ابن كيسان وقطرب : خاشعون . وقال : متحيرون . وقال ابن عباس : متحسرون . وقال الزجاج : الساكت عند انقطاع الحجة . ابن جرير
( فقطع دابر القوم الذين ظلموا ) عبارة عن استئصالهم بالهلاك ، والمعنى : فقطع دابرهم ، ونبه على سبب الاستئصال بذكر الوصف الذي هو الظلم ، وهو هنا الكفر ، والدابر : التابع للشيء من خلفه ، يقال : دبر الوالد الولد يدبره ، وفلان دبر القوم دبورا ودبرا : إذا كان آخرهم . وقال : أمية بن أبي الصلت
فاستؤصلوا بعذاب خص دابرهم فما استطاعوا له صرفا ولا انتصروا
قال أبو عبيدة : دابر القوم آخرهم الذي يدبرهم . وقال : الدابر : الأصل ، يقال : قطع الله دابره أي أذهب أصله ، وقرأ الأصمعي عكرمة : ( فقطع دابر ) بفتح القاف والطاء والراء ، أي فقطع الله ، وهو التفات إذ فيه الخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب .
( والحمد لله رب العالمين ) قال : إيذان بوجوب الحمد لله عند هلاك الظلمة وأنه من أجل النعم وأجزل القسم . انتهى . والذي يظهر أنه تعالى لما أرسل الرسل إلى هؤلاء الأمم كذبوهم وآذوهم فابتلاهم الله تارة بالبلاء ، وتارة بالرخاء فلم يؤمنوا فأهلكهم واستراح الرسل من شرهم وتكذيبهم ، وصار ذلك نعمة في حق الرسل إذ أنجز الله وعده على لسانهم بهلاك المكذبين فناسب هذا الفعل كله الختم بالحمد له . الزمخشري