( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ) الكاف للتشبيه في موضع نصب ، والإشارة بذلك إلى فتون سابق ، وقد تقدم ذكر أمم رسل وإرسالهم مبشرين ومنذرين ، وتقسيم أممهم إلى مؤمن ومكذب ، فدل ذلك على أن أتباع الرسل مختلفون وواقع فيهم الفتون لا محالة ، كما وقع في هذه الأمة ، فشبه تعالى ابتلاء هذه الأمة واختبارها بابتلاء الأمم السالفة ، أي حال هذه الأمة حال الأمم السابقة في فتون بعضهم ببعض ، والفتون بالغنى والفقر ، أو بالشرف والوضاعة ، والقوة والضعف . قال : ومثل ذلك الفتن العظيم فتن بعض الناس ببعض ، أي ابتليناهم به وذلك أن المشركين كانوا يقولون للمسلمين ( الزمخشري أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ) أي أنعم عليهم بالتوفيق لإصابة الحق ولما يسعدهم عنده من دوننا ونحن المقدمون والرؤساء وهم العبيد والفقراء ، إنكارا لأن يكون أمثالهم على الحق وممنونا عليهم من بيننا بالخير ، نحو : ( أؤلقي الذكر عليه من بيننا ) ، ( لو كان خيرا ما سبقونا إليه ) ، ومعنى فتناهم ليقولوا ذلك : خذلانهم فافتتنوا حتى كان افتتانهم سببا لهذا القول لأنه لا يقول مثل قولهم هذا إلا مخذول متقول ، انتهى . وآخر كلامه على طريقة المعتزلة من تأويل الفتنة التي نسبها [ ص: 139 ] تعالى إليه بالخذلان جريا على عادته . قال ابن عطية : ابتلاء المؤمنين بالمشركين هو ما يلقون منهم من الأذى ، وابتلاء المشركين بالمؤمنين هو أن يرى الرجل الشريف من المشركين قوما لا شرف لهم قد عظمهم هذا الدين وجعل لهم عند نبيهم قدرا ومنزلة ، والإشارة بذلك إلى ما ذكر من ظلمهم أن تطرد الضعفة . انتهى . ولا ينتظم هذا التشبيه إذ يصير التقدير : ومثل ذلك أي طلب الطرد فتنا بعضهم ببعض ، والذي يتبادر إليه الذهن إنك إذا قلت : ضربت مثل ذلك ، إنما يفهم منه مثل ذلك الضرب لا أنه تقع المماثلة في غيره ، واللام في ( ليقولوا ) الظاهر أنها لام كي ، أي هذا الابتلاء لكي يقولوا هذه المقالة على سبيل الاستفهام لأنفسهم والمناجاة لها ، ويصير المعنى : ابتلينا أشراف الكفار بضعفاء المؤمنين ليتعجبوا في نفوسهم من ذلك ويكون سببا للنظر لمن هدي ، ومن أثبت أن اللام تكون للصيرورة جوز هنا أن تكون للصيرورة ويكون قولهم على سبيل الاستحقاق ، و ( هؤلاء ) إشارة إلى المؤمنين ، و ( من الله عليهم ) أي بزعمهم أن دينهم منه تعالى .
( أليس الله بأعلم بالشاكرين ) هذا استفهام معناه التقرير والرد على أولئك القائلين ، أي الله أعلم بمن يشكر فيضع فيه هدايته دون من يكفر فلا يهديه ، وجاء لفظ الشكر هنا في غاية من الحسن إذ تقدم من قولهم : ( أهؤلاء من الله عليهم ) أي أنعم عليهم ، فناسب ذكر الإنعام لفظ الشكر ، والمعنى : أنه تعالى عالم بهؤلاء المنعم عليهم الشاكرين لنعمائه ، وتضمن العلم معنى الثواب والجزاء لهم على شكرهم فليسوا موضع استخفافكم ولا استعجابكم . وقيل : بالشاكرين من من عليهم بالإيمان دون الرؤساء الذين علم منهم الكفر . وقيل : من يشكر على الإسلام إذا هديته . وقيل : بمن يوفق للإيمان كبلال ومن دونه . وقال : أي الله أعلم بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوفقه للإيمان وبمن يصمم على كفره فيخذله ويمنعه التوفيق . انتهى . وهو على طريقة الاعتزال . الزمخشري