( وليكون من الموقنين ) أي : أريناه الملكوت ، وقيل : ثم علة محذوفة عطفت هذه عليها وقدرت ليقيم الحجة على قومه ، وقال قوم : ليستدل بها على الصانع ، وقيل : الواو زائدة ، ومتعلق الموقنين قيل : بوحدانية الله وقدرته ، وقيل : بنبوته وبرسالته . وقيل : عيانا كما أيقن بيانا انتقل من علم اليقين إلى عين اليقين ، كما سأل في قوله : ( أرني كيف تحي الموتى ) ، والإتقان تقدم تفسيره أول البقرة ، وقال أبو عبد الله الرازي : اليقين عبارة عن علم يحصل بعد زوال الشبهة بسبب التأمل ، ولهذا لا يوصف علم الله بكونه يقينا لأن علمه غير مسبوق بالشبهة وغير مستفاد من الفكر والتأمل ، وإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت صارت سببا لحصول اليقين ، إذ يحصل [ ص: 166 ] بكل واحد منها نوع تأثير وقوة فتتزايد حتى يجزم .
( فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي ) . هذه الجملة معطوفة على قوله : ( وإذ قال إبراهيم ) ، على قول من جعل ( وكذلك نري ) اعتراضا ، وهو قول . وقال الزمخشري ابن عطية : الفاء في قوله ( فلما ) رابطة جملة ما بعدها بما قبلها ، وهي ترجح أن المراد بالملكوت هو هذا التفصيل الذي في هذه الآية ، وقال : كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب ، فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال ، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤد إلى أن شيئا منها لا يصح أن يكون إلها لقيام دليل الحدوث فيها ، وأن وراءها محدثا أحدثها وصانعا صنعها ومدبرا دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها ، والكوكب الزهرة ، قاله الزمخشري ابن عباس وقتادة ، أو المشتري ، قاله مجاهد والسدي ، وهو رباعي والواو فيه أصل وتكررت فيه الفاء فوزنه فعفل نحو قوقل ، وهو تركيب قليل ، والظاهر أن جواب لما ( رأى كوكبا ) ، وعلى هذا جوزوا في ( قال هذا ربي ) أن يكون نعتا للكوكب - وهو مشكل - أو مستأنفا ، وهو الظاهر ، ويجوز أن يكون الجواب ( قال هذا ربي ) ، و ( رأى كوكبا ) حال ، أي : جن عليه الليل رائيا كوكبا ، و " هذا ربي " الظاهر أنها جملة خبرية ، وقيل : هي استفهامية على جهة الإنكار حذف منها الهمزة ، كقوله :
بسبع رمين الجمر أم بثمان
قال : وهذا شاذ لأنه لا يجوز أن يحذف الحرف إلا إذا كان ثم فارق بين الإخبار والاستخبار ، وإذا كانت خبرية فيستحيل عليه أن يكون هذا الإخبار على سبيل الاعتقاد والتصميم لعصمة الأنبياء من المعاصي ، فضلا عن الشرك بالله ، وما روي عن ابن الأنباري أن ذلك وقع له في حال صباه وقبل بلوغه ، وأنه عبده حتى غاب ، وعبد القمر حتى غاب ، وعبد الشمس حتى غابت ، فلعله لا يصح ، وما حكي عن قوم أن ذلك بعد البلوغ والتكليف ليس بشيء ، وما حكوا من أن أمه أخفته في غار وقت ولادته خوفا من ابن عباس نمروذ أنه أخبره المنجمون أنه يولد ولد في سنة كذا يخرب ملكه على يديه ، وأنه تقدم إلى أنه من ولد من أنثى تركت ، ومن ذكر ذبحه ، إلى أن صار ابن عشرة أعوام ، وقيل : خمسة عشر ، وأنه نظر أول ما عقل من الغار فرأى الكوكب ، فحكاية يدفعها مساق الآية ، وقوله : ( إني بريء مما تشركون ) ، وقوله : ( تلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ) ، وتأول بعضهم ذلك على إضمار القول ، وكثيرا ما يضمر ، تقديره : قال : يقولون هذا ربي ، على حكاية قولهم ، وتوضيح فساده مما يظهر عليه من سمات الحدوث ، ولا يحتاج هذا إلى الإضمار ، بل يصح أن يكون هذا كقوله تعالى : ( أين شركائي ) ، أي : على زعمكم ، وقال : ( هذا ربي ) قول من ينصف خصمه مع علمه أنه مبطل ، فيحكي قوله كما هو غير متعصب لمذهبه ; لأن ذلك أدعى إلى الحق وأنجى من الشغب ، ثم يكر عليه بعد حكايته فيبطله بالحجة . انتهى . فيكون هذا القول منه استدراجا لإظهار الحجة وتوسلا إليها كما توسل إلى كسر الأصنام بقوله : ( الزمخشري فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم ) ، فوافقهم ظاهرا على النظر في النجوم ، وأوهمهم أن قوله إني سقيم ناشئ عن نظره فيها .
( فلما أفل قال لا أحب الآفلين ) أي : لا أحب عبادة الآفلين المتغيرين عن حال إلى حال ، المنتقلين من مكان إلى مكان ، [ ص: 167 ] المحتجبين بستر ، فإن ذلك من صفات الأجرام ، وإنما احتج بالأفول دون البزوغ ، وكلاهما انتقال من حال إلى حال ; لأن الاحتجاج بالأفول أظهر لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب ، وجاء بلفظ الآفلين ليدل على أن ثم آفلين كثيرين ، ساواهم هذا الكوكب في الأفول ، فلا مزية له عليهم في أن يعبد للاشتراك في الصفة الدالة على الحدوث .
( فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي ) لم يأت في الكواكب رأى كوكبا بازغا لأنه أولا ما ارتقب حتى بزغ الكوكب ; لأنه بإظلام الليل تظهر الكواكب بخلاف حاله مع القمر والشمس ، فإنه لما أوضح لهم أن هذا النير وهو الكوكب الذي رآه لا يصلح أن يكون ربا ارتقب ما هو أنور منه وأضوأ على سبيل إلحاقه بالكوكب ، والاستدلال على أنه لا يصلح للعبادة ، فرآه أول طلوعه وهو البزوغ ، ثم عمل كذلك في الشمس ، ارتقبها إذ كانت أنور من القمر وأضوأ وأكبر جرما وأعم نفعا ، ومنها يستمد القمر على ما قيل ، فقال ذلك على سبيل الاحتجاج عليهم ، وبين أنها مساوية للقمر والكواكب في صفة الحدوث .
( فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ) القوم الضالون هنا عبدة المخلوقات كالأصنام وغيرها ، واستدل بهذا من زعم أن قوله : ( هذا ربي ) على ظاهره ، وأن النازلة كانت في حال الصغر ، وقال : ( الزمخشري لئن لم يهدني ربي ) تنبيه لقومه على أن من اتخذ القمر إلها ، وهو نظير الكوكب في الأفول ، فهو ضال ، فإن الهداية إلى الحق بتوفيق الله ولطفه .
( فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر ) المشهور في الشمس أنها مؤنثة . وقيل : تذكر وتؤنث ، فأنثت أولا على المشهور ، وذكرت في الإشارة على اللغة القليلة مراعاة ومناسبة للخبر ، فرجحت لغة التذكير التي هي أقل على لغة التأنيث ، وأما من لم ير فيها إلا التأنيث ، فقال ابن عطية : ذكر أي هذا المرئي أو النير ، وقدره الأخفش : هذا الطالع ، وقيل : الشمس بمعنى الضياء ، قال تعالى : ( جعل الشمس ضياء ) ، فأشار إلى الضياء ، والضياء مذكر ، وقال : جعل المبتدأ مثل الخبر لكونهما عبارة عن شيء واحد ، كقولهم : ما جاءت حاجتك ، " وما كانت أمك " ، و " لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا " ، وكان اختيار هذه الطريقة واجبا لصيانة الرب عن شبهة التأنيث ، ألا تراهم قالوا في صفة الله : علام ، ولم يقولوا : علامة ، وإن كان علامة أبلغ احترازا من علامة التأنيث . انتهى . ويمكن أن أكثر لغة الأعاجم لا يفرقون في الضمائر ولا في الإشارة بين المذكر والمؤنث ، ولا علامة عندهم للتأنيث بل ، المذكر والمؤنث سواء في ذلك عندهم ، فلذلك أشار إلى المؤنث عندنا حين حكى كلام الزمخشري إبراهيم بما يشار به إلى المذكر ، بل لو كان المؤنث بفرج لم يكن لهم علامة تدل عليه في كلامهم ، وحين أخبر تعالى عنها بقوله : ( بازغة ) و ( أفلت ) أنث على مقتضى العربية ، إذ ليس ذلك بحكاية .
( فلما أفلت قال ياقوم إني بريء مما تشركون ) أي : من الأجرام التي تجعلونها شركاء لخالقها ، ولما أفلت الشمس لم يبق لهم شيء يمثل لهم به ، وظهرت حجته ، وقوي بذلك على منابذتهم تبرأ من إشراكهم ، وقال الماتريدي : الاختيار أن يقال : استدل على [ ص: 168 ] عدم صلاحيتها للإلهية لغلبة نور القمر نور الزهرة ، ونور الشمس لنوره ، وقهر تيك بذاك وهذا بتلك ، والرب لا يقهر ، والظلام غلب نور الشمس وقهره ، انتهى ملخصا . قال ابن أبي الفضل : ما جاء الظلام إلا بعد ذهاب الشمس فلم يجتمع معها حتى يقال قهرها وقهر نورها . انتهى . وقال غيره من المفسرين : إنه استدل بما ظهر عليها من شأن الحدوث والانتقال من حال إلى حال ، وذلك من صفات الأجسام ، فكأنه يقول : إذا بان في هذه النيرات الرفيعة أنها لا تصلح للربوبية فأصنامكم التي من خشب وحجارة أحرى أن يتبين ذلك فيها ، ومثل لهم بهذه النيرات لأنهم كانوا أصحاب نظر في الأفلاك وتعلق بالنجوم ، وأجمع المفسرون على أن رؤية هذه النيرات كانت في ليلة واحدة ، رأى الكوكب الزهرة أو المشتري على الخلاف السابق جانحا للغروب ، فلما أفل بزغ القمر ، فهو أول طلوعه ، فسرى الليل أجمع ، فلما بزغت الشمس زال ضوء القمر قبلها لانتشار الصباح وخفي نوره ودنا أيضا من مغربه ، فسمي ذلك أفولا لقربه من الأفول التام على تجوز في التسمية ، ثم بزغت الشمس على ذلك . قال ابن عطية : وهذا الترتيب يستقيم في الليلة الخامسة عشر من الشهر إلى ليلة عشرين ، وليس يترتب في ليلة واحدة كما أجمع أهل التفسير إلا في هذه الليالي وبذلك التجوز في أفول القمر . انتهى . والظاهر والذي عليه المفسرون أن المراد من الكوكب والقمر والشمس هو ما وضعته له العرب من إطلاقها على هذه النيرات ، وحكي عن بعض العرب : ولعله لا يصح عنه أن الرؤية رؤية قلب ، وعبر بالكوكب عن النفس الحيوانية التي لكل كوكب ، وبالقمر عن النفس الناطقة التي لكل فلك ، وبالشمس عن العقل المجرد الذي لكل فلك ، وكان يفسر الأفول بالإمكان ، فزعم ابن سينا أن المراد بأفولها إمكانها لذاتها ، وكل ممكن فلا بد له من مؤثر ولا بد له من الانتهاء إلى واجب الوجود ، ومن الناس من حمل الكوكب على الحس ، والقمر على الخيال والوهم ، والشمس على العقل ، والمراد أن هذه القوى المدركة الثلاثة قاصرة متناهية القوة ، ومدبر العالم مستول عليها قاهر لها . انتهى . وهذان التفسيران شبيهان بتفسير الباطنية - لعنهم الله - إذ هما لغز ورمز ينزه كتاب الله عنهما ، ولولا أن الغزالي أبا عبد الله الرازي وغيره قد نقلهما في التفسير لأضربت عن نقلهما صفحا ، إذ هما مما نجزم ببطلانه ، ومن تفسير الباطنية الإمامية ونسبوه إلى علي أن الكوكب هو المأذون وهو الداعي ، والقمر اللاحق وهو فوق المأذون بمنزلة الوزير من الإمام ، والشمس الإمام ، وإبراهيم في درجة المستجيب ، فقال للمأذون : هذا ربي ، عنى رب التربية للعلم ، فإنه يربي المستجيب بالعلم ويدعوه إليه ، فلما أفل فني ما عند المأذون من العلم رغب عنه ولزم اللاحق ، فلما فني ما عنده رغب عنه وتوجه إلى التالي ، وهو الصامت الذي يقبل العلم من الرسول الذي يسمى الناطق لأنه ينطق بجميع ما ينطق به الرسول ، فلما فني ما عنده ارتقى إلى الناطق وهو الرسول وهو المصور للشرائع عندهم . انتهى هذا التخليط ، واللغز الذي لا تدل عليه الآية بوجه من وجوه الدلالات والتفسير أن قبل هذا شبيهان بهذا التفسير المستحيل ، وللمنسوبين إلى الصوف في تفسير كتاب الله - تعالى - أنواع من هذه التفاسير . قال القشيري : لما جن عليه الليل أحاط به سجوف الطلب ولم يتجل له بعد صباح الوجود ، فطلع له نجم العقول فشاهد الحق بسره بنور البرهان فقال : هذا ربي ، ثم زيد في ضيائه فطلع قمر العلم وطالعه بسر البيان ، فقال : هذا ربي ، ثم أسفر الصبح ومتع النهار وطلعت شمس العرفان من برج شرفها فلم يبق للطلب مكان ولا للتجويز حكم ولا للتهمة قرار ، فقال : ( إني بريء مما تشركون ) ، إذ ليس بعد البعث ريب ولا بعد الظهور ستر . انتهى . والعجب كل العجب من قوم يزعمون أن هؤلاء المنسوبين إلى الصوف هم خواص الله - تعالى - وكلامهم في [ ص: 169 ] كتاب الله - تعالى - هذا الكلام .