( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) قال السخاوي : قال مكحول : وروي عن أبي الدرداء مثل ذلك ، وأجاز وعبادة بن الصامت وإن لم يذكر اسم الله عليها ، وذهب جماعة إلى أن الآية محكمة ولا يجوز لنا أن نأكل من ذبائحهم إلا ما ذكر عليه اسم الله ، وروي ذلك عن ذبائح أهل الكتاب علي وعائشة . انتهى . ولا يسمى هذا نسخا بل هو تخصيص ، ولما أمر بأكل ما سمي الله عليه ، وكان مفهومه أنه لا يأكل مما لم يذكر اسم الله عليه ، أكد هذا المفهوم بالنص عليه ، والظاهر تحريم أكل ما لم يذكر اسم الله عليه عمدا كأن ترك التسمية ، أو نسيانا ، وبه قال وابن عمر ابن عباس وابن عمر وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة وعبد الله بن يزيد الخطيمي وابن سيرين والشعبي ونافع وأبو ثور وداود في رواية ، وقال أبو هريرة أيضا في رواية ، وابن عباس وأبو عياض وأبو رافع وعطاء وابن المسيب والحسن وجابر وعكرمة وطاوس والنخعي وقتادة وابن زيد وعبد الرحمن بن أبي ليلى وربيعة ومالك في رواية ، والشافعي والأصم : يحل عمدا كان الترك أو نسيانا . وقال أكل متروك التسمية مجاهد أيضا ، وطاوس وابن شهاب وابن جبير وعطاء في رواية ، وأبو حنيفة وأصحابه ، والثوري والحسن بن حيي والحسن بن صالح وإسحاق ومالك في رواية ، وأحمد في رواية ، وابن أبي القاسم وعيسى وأصبغ : يؤكل إن كان الترك ناسيا ، وإن كان عمدا لم يؤكل ، واختاره النحاس وقال : لا يسمى فاسقا إذا كان ناسيا ، وروي عن علي جواز أكل ذبيحة الناسي للتسمية ، وقال وابن عباس ابن عطية : وهذا قول الجمهور ، وقال أشهب : تؤكل ذبيحة تارك التسمية عمدا إلا أن يكون مستخفا . وقال والطبري أبو بكر الآيذي : يكره أكل ذبيحة تارك التسمية عمدا . وتحتاج هذه التخصيصات إلى دلائل . والظاهر أن المراد بقوله : ( مما لم يذكر اسم الله عليه ) ظاهره لعموم الآية ، وهو متروك التسمية . وقال في رواية : إنه الميتة ، وعنه أنه الميتة والمنخنقة إلى : وما ذبح على النصب ، وقال ابن عباس عطاء : ذبائح للأوثان كانت العرب تفعل ذلك ، وقال ابن بحر : صيد المشركين لأنهم [ ص: 213 ] لا يسمون عند إرسال السهم ولا هم من أهل التسمية . قال الحسن : الفسق الكفر ، قال الكرماني : يريد مع الاستحلال ، وقال غيره : الفسق المعصية ، والضمير في ( وإنه ) عائد إلى المصدر الدال عليه ( تأكلوا ) ، أي : وإن الأكل ، قاله واقتصر عليه ، وجوز معه الزمخشري الحوفي في أن يعود على " ما " من قوله : ( مما لم يذكر ) ، وجوز معه ابن عطية أن يعود على الذكر الذي تضمنه قوله ( لم يذكر ) . انتهى . ومعنى أنه عائد على المصدر المنفي كأنه قيل : وإن ترك الذكر لفسق ، وهذه الجملة لا موضع لها من الإعراب ، وتضمنت معنى التعليل فكأنه قيل : لفسقه .
( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ) أي : وإن شياطين الجن ، قاله ابن عباس . وقال وعبد الله بن كثير عكرمة : مردة الإنس من مجوس فارس ، وتقدم ذكر كتابتهم إلى قريش ، أي : ليوسوسون إلى كفار قريش بإلهامهم تلك الحجة في أمر الذبائح التي تقدم ذكرها ، أو على ألسنة الكهان في زمانهم ليجادلوكم . قال : بقولهم : ولا تأكلون ما قتله الله ، وبهذا ترجح تأويل من تأول بالميتة . انتهى . والأحسن حمل الآية على عدم التخصيص بما ذكروه ، بل هذا إخبار أن ما صدر من جدال الكفار للمؤمنين ومنازعتهم فإنما هو من الشياطين يوسوسون لهم بذلك ، ولذلك ختم بقوله : ( الزمخشري وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) أي : وإن أطعتم أولياء الشياطين إنكم لمشركون ; لأن طاعتهم طاعة للشياطين ، وذلك إشراك ، ولا يكون مشركا حقيقة حتى يطيعه في الاعتقاد ، وأما إذا أطاعه في الفعل وهو سليم الاعتقاد فهو فاسق ، وهذه الجملة إخبار يتضمن الوعيد ، وأصعب ما على المؤمن أن يشبه المشرك فضلا أن يحكم عليه بالشرك . وحكي عن أن الذين جادلوا بتلك الحجة قوم من ابن عباس اليهود ، وضعف بأن اليهود لا تأكل الميتة ، اللهم إلا أن قالوا ذلك على سبيل المغالطة وإجابتهم عن العرب فيمكن . وجواب الشرط زعم الحوفي أنه ( إنكم لمشركون ) على حذف الفاء ، أي : فإنكم ، وهذا الحذف من الضرائر فلا يكون في القرآن ، وإنما الجواب محذوف ، و ( إنكم لمشركون ) جواب قسم محذوف ، التقدير : والله إن أطعتموهم ، لقوله : " وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن " ، ، وقوله : ( وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن ) ، وأكثر ما يستعمل هذا التركيب بتقدير اللام المؤذنة بالقسم المحذوف على إن الشرطية ، كقوله : ( لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ) ، وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم عليه .
( أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) قال ابن عباس : نزلت في حمزة وأبي جهل ، [ ص: 214 ] رمى الرسول بفرث ، فأخبر بذلك حمزة حين رجع من قنصه وبيده قوس ، وكان لم يسلم ، فغضب فعلا بها أبا جهل وهو يتضرع إليه ويقول : سفه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا ، فقال حمزة : ومن أسفه منكم ، تعبدون الحجارة من دون الله ، وأسلم . وعن أيضا أنها نزلت في ابن عباس عمار وأبي جهل . وقال : في زيد بن أسلم عمر وأبي جهل ، لما تقدم ذكر المؤمنين والكافرين مثل تعالى بأن شبه المؤمن بعد أن كان كافرا بالحي المجعول له نور يتصرف به كيف سلك ، والكافر بالمختلط في الظلمات المستقر فيها دائما ، ليظهر الفرق بين الفريقين ، والموت والحياة والنور والظلمة مجاز ، فالظلمة مجاز عن الكفر ، والنور مجاز عن الإيمان ، والموت مجاز عن الكفر . وقال الماتريدي : الموت مجاز عن كونه في ظلمة البطن ، لا يبصر ولا يعقل شيئا ، ثم أخرج فأبصر وعقل ، نقول : لا يستوي من أخرج من الظلمات ومن ترك فيها ، فكذلك لا يستوي المؤمن الذي يبصر الحق ويعمل به ، والكافر الذي لا يبصر ، ونحو منه قول ابن بحر قال : أومن كان نطفة أو علقة أو مضغة فصورناه ونفخنا فيه الروح . انتهى . وأما النور فهو نور الحكمة أو نور الدين أو القرآن ، أقوال . وقال أبو عبد الله الرازي : الحياة الاستعداد لقبول المعارف ، فتحصل له علوم كلية أولية وهي المسماة بالعقل ، والنور ما توصل إليه تركيب تلك البديهيات من المجهولات النظرية ، ومشيه في الناس كونه صار محضرا للمعارف القدسية والجلايا الروحانية ناظرا إليها ، ويمكن أن يقال الحياة الاستعداد القائم بجوهر الروح ، والنور اتصال نور الوحي والتنزيل به ، فالبصيرة لا بد فيها من أمرين : سلامة حاسة العقل ، وطلوع نور الوحي ، كما أن البصر لا بد فيه من أمرين : سلامة الحاسة وطلوع الشمس ، انتهى ملخصا . وهو بعيد من مناحي كلام العرب ومفهوماتها ، ولما ذكر صفة الإحسان إلى العبد المؤمن نسب ذلك إليه فقال : ( فأحييناه وجعلنا له نورا ) ، وفي صفة الكافر لم ينسبها إلى نفسه بل قال : ( كمن مثله في الظلمات ) ، ولما كانت أنواع الكفر متعددة قال : ( في الظلمات ) ، ولما ذكر جعل النور للميت قال : " يمشي به في الناس " ، أي : يصحبه كيف تقلب ، وقال : في الناس إشارة إلى تنويره على نفسه وعلى غيره من الناس ، فذكر أن منفعة المؤمن ليست مقتصرة على نفسه ، وقابل تصرفه بالنور ، وملازمة النور له باستقرار الكافر ( في الظلمات ) وكونه لا يفارقها ، وأكد ذلك بدخول الباء في خبر ليس ، ويبعد قول من قال : إن النور والظلمة هما يوم القيامة إشارة إلى قوله : ( يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ) ، وإلى ظلمة جهنم ، وتقدم الكلام على مثل في قوله ( كمثل الذي استوقد نارا ) ، وقرأ طلحة : ( أفمن ) ، الفاء بدل الواو .
( كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون ) الإشارة بذلك إلى إحياء المؤمن ، أو إلى كون الكافر في الظلمات ، أي : كما أحيينا المؤمن زين للكافر ، أو ككينونة الكافر في الظلمات زين للكافرين . والفاعل محذوف . قال الحسن : هو الشيطان ، وقال غيره : الله - تعالى - وجوز الوجهين ، وتقدم الكلام في التزيين ، وقيل : المزين الأكابر الأصاغر . الزمخشري