( قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ) تقدم تفسير هذا في البقرة .
( قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون ) . هذا كالتفسير لقوله : ( ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ) ، أي : بالحياة إلى حين الموت ، ولذلك جاء قال بغير واو العطف إذ الأكثر في لسان العرب إذا لم تكن الجملة تفسيرية ، أو كالتفسيرية أن تعطف على الجملة قبلها ، فتقول قال فلان كذا ، وقال كذا ، وتقول : زيد قائم وعمرو قاعد ، ويقل في كلامهم قال فلان كذا قال كذا ، وكذلك يقل زيد قائم ، عمرو قاعد ، وهنا جاء ( قال اهبطوا ) الآية ( قال فيها تحيون ) لما كانت كالتفسير لما قبلها ، وتمم هنا المقصود بالتنبيه على البعث والنشور بقوله : ( ومنها تخرجون ) ، أي : إلى المجازاة بالثواب والعقاب ، وهذا كقوله : ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ) . وقرأ الأخوان ، وابن ذكوان تخرجون مبنيا للفاعل هنا ، وعن ابن ذكوان في أول [ ص: 282 ] الروم خلاف ، وقرأ باقي السبعة مبنيا للمفعول .
( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون ) مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر قصة آدم ، وفيها ستر السوءات وجعل له في الأرض مستقرا ومتاعا ، ذكر ما امتن به على بنيه وما أنعم به عليهم من اللباس الذي يواري السوءات والرياش الذي يمكن به استقرارهم في الأرض واستمتاعهم بما خولهم ، وقال مجاهد : نزلت هذه الآية والثلاث بعدها فيمن كان من العرب يتعرى في طوافه بالبيت وذكر النقاش أنها كانت عادة ثقيف وخزاعة وبني عامر بن صعصعة وبني مدلج والحارث وعامر ابني عبد مناة نسائهم ورجالهم . وأنزلنا قيل على حقيقته من الانحطاط من علو إلى سفل فأنزل مع آدم وحواء شيئا من اللباس مثالا لغيره ، ثم توسع بنوهما في الصنعة استنباطا من ذلك المثال ، أو أنزل من السماء أصل كل شيء عند إهباطهما ، أو أنزل معه الحديد فاتخذ منه آلات الصنائع ، أو أنزل الملك فعلم آدم النسج ، أربعة أقوال ، وقيل : الإنزال مجاز من إطلاق السبب على مسببه ، فأنزل المطر وهو سبب ما يتهيأ منه اللباس ، أو بمعنى خلق كقوله : ( وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ) ، أو بمعنى الهم ، وقال جعل ما في الأرض منزلا من السماء ؛ لأنه قضي ثم وكتب ، ومنه : الزمخشري وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ، وقال ابن عطية : أنزلنا يحتمل أن يريد بالتدريج ، أي : لما أنزل المطر فكان عنه جميع ما يلبس قال عن اللباس ( أنزلنا ) ، وهذا نحو قول الشاعر يصف مطرا :
أقبل في المسين من سحابه أسنمة الآبال في ربابه
أي : بالمال ، ويحتمل أن يريد خلقنا فجاءت العبارة بأنزلنا كقوله : ( وأنزلنا الحديد ) وقوله : ( وأنزل لكم من الأنعام ) وأيضا ، فخلق الله وأفعاله إنما هي من علو في القدر والمنزلة . انتهى . واللباس يعم جميع ما يلبس ويستر ، والريش عبارة عن سعة الرزق ورفاهية العيش ووجود اللبس والتمتع . وأكثر أهل اللغة على أن الريش ما يستر من لباس ، أو معيشة ، وقال قوم : الإناث ، وقال ، ابن عباس والسدي ، ومجاهد : المال ، وقال ابن زيد : الجمال ، وقال : لباس الزينة استعير من ريش الطائر ؛ لأنه لباسه وزينته ، أي : أنزلنا عليكم لباسين لباسا يواري سوءاتكم ولباسا يزينكم ؛ لأن الزينة غرض صحيح كما قال تعالى : ( الزمخشري لتركبوها وزينة ، ولكم فيها جمال ) . انتهى . وعطف ( الريش ) على ( لباسا ) يقتضي المغايرة ، وأنه قسيم للباس لا قسم منه ، وقرأ عثمان ، ، وابن عباس والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والسلمي ، وعلي بن الحسين ، وابنه زيد ، وأبو رجاء ، وزر بن حبيش ، وعاصم في رواية ، وأبو عمرو في رواية ، ورياشا ، فقيل : هما مصدران بمعنى واحد ، راشه الله يريشه ريشا ورياشا أنعم عليه ، وقال : جمع ريش كشعب وشعاب ، وقال الزمخشري : هما اللباس ، وقال الزجاج الفراء : هما ما يستر من ثياب ومال كما يقال لبس ولباس ، وقال : الرياش المعاش ، وقال معبد الجهني : الريش الأكل والشرب ، والرياش المال المستفاد ، وقيل : الريش ما بطن ، والرياش ما ظهر ، وقرأ الصاحبان ، ابن الأعرابي : ( والكسائي ولباس التقوى ) بالنصب عطفا [ ص: 283 ] على المنصوب قبله ، وقرأ باقي السبعة بالرفع ، فقيل هو على إضمار مبتدأ محذوف ، أي : وهو لباس التقوى . قاله ( الزجاج ذلك خير ) على هذا مبتدأ وخبر ، وأجاز أبو البقاء أن يكون ( ولباس ) مبتدأ وخبره محذوف ، تقديره ولباس التقوى ساتر عوراتكم ، وهذا ليس بشيء ، والظاهر أنه مبتدأ ثان و ( خير ) خبره ، والجملة خبر عن و ( لباس التقوى ) والرابط اسم الإشارة ، وهو أحد الروابط الخمس المتفق عليها في ربط الجملة الواقعة خبرا للمبتدأ إذا لم يكن إياه ، وقيل : ذلك بدل من لباس ، وقيل : عطف بيان ، وقيل : صفة ، وخبر ( ولباس ) هو ( خير ) ، وقال الحوفي : وأنا أرى أن لا يكون ذلك نعتا للباس التقوى ؛ لأن الأسماء المبهمة أعرف مما فيه الألف واللام وما أضيف إلى الألف واللام وسبيل النعت أن يكون مساويا للمنعوت ، أو أقل منه تعريفا ، فإن كان قد تقدم قول أحد به فهو سهو . وأجاز الحوفي أن يكون ذلك فصلا لا موضع له من الإعراب ، ويكون ( خير ) خبرا لقوله : ( ولباس التقوى ) فجعل اسم الإشارة فصلا كالمضمر ولا أعلم أحدا قال بهذا ، وأما قوله : فإن كان قد تقدم قول أحد به فهو سهو ، فقد ذكره ابن عطية وقال : هو أنبل الأقوال ، ذكره أبو علي في الحجة . انتهى ؛ وأجازه أيضا أبو البقاء وما ذكره الحوفي هو الصواب على أشهر الأقوال في ترتيب المعارف ، وقرأ عبد الله ، وأبي : " ولباس التقوى خير " بإسقاط ذلك ، فهو مبتدأ وخبر ، والظاهر حمله على اللباس حقيقة ، فقال ابن زيد : هو ستر العورة ، وهذا فيه تكرار ؛ لأنه قد قال : لباسا يواري سوءاتكم ، وقال : الدرع والمغفر والساعدان ؛ لأنه يتقى بها في الحرب . وقيل : الصوف ولبس الخشن ، وروي : اخشوشنوا وكلوا الطعام الخشن ، وقيل ما يقي من الحر والبرد ، وقال زيد بن علي عثمان بن عطاء : لباس المتقين في الآخرة ، وقيل لباس التقوى مجاز ، وقال : العمل الصالح ، وقال أيضا : العفة ، وقال ابن عباس ، عثمان بن عفان أيضا : السمت الحسن في الوجه ، وقال وابن عباس : الحياء ، وقال معبد الجهني الحسن : الورع والسمت الحسن ، وقال : خشية الله ، وقال عروة بن الزبير : الإيمان ، وقيل ما يظهر من السكينة والإخبات ، وقال ابن جريج يحيى بن يحيى : الخشوع ، والأحسن أن يجعل عاما فكل ما يحصل به الاتقاء المشروع فهو من لباس التقوى ، والإشارة بقوله ذلك من آيات الله إلى ما تقدم من إنزال اللباس والرياش ولباس التقوى ، والمعنى : من آيات الله الدالة على فضله ورحمته على عباده ، وقيل : من موجب آيات الله ، وقيل : الإشارة إلى ( لباس التقوى ) ، أي : هو في العبر آية ، أي : علامة وأمارة من الله أنه قد رضي عنه ورحمه لعلهم يذكرون هذه النعم فيشكرون الله عليها .
يابني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما . أي لا يستهوينكم ويغلب عليكم ، وهو نهي للشيطان ، والمعنى نهيهم أنفسهم عن الإصغاء إليه والطواعية لأمره ، كما قالوا لا أرينك هنا ، ومعناه النهي عن الإقامة بحيث يراه ، وكما في موضع نصب أي فتنة مثل فتنة إخراج أبويكم ، ويجوز أن يكون المعنى لا يخرجنكم عن الدين بفتنته إخراجا مثل إخراجه أبويكم ، وقرأ يحيى وإبراهيم : ( لا يفتننكم ) بضم الياء من أفتن ، وقرأ : لا يفتنكم بغير نون توكيد ، والظاهر أن لباسهما هو الذي كان عليهما في الجنة ، وقال زيد بن علي مجاهد هو لباس التقوى ، ( وسوءاتهما ) هو ما يسوءهما من المعصية ، وينزع حال من الضمير في ( أخرج ) أو من ( أبويكم ) لأن الجملة فيها ضمير الشيطان وضمير الأبوين ، فلو كان بدل ينزع نازعا تعين الأول ، لأنه [ ص: 284 ] إذ ذاك لو جوز الثاني لكان وصفا جرى على غير من هو له فكان يجب إبراز الضمير وذلك على مذهب البصريين ، وينزع حكاية أمر قد وقع ؛ لأن نزع اللباس عنهما كان قبل الإخراج ، ونسب النزع إلى الشيطان لما كان متسببا فيه .
إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم أي إن الشيطان ، وهو إبليس يبصركم هو وجنوده ونوعه وذريته من الجهة التي لا تبصرونه منها وهم أجسام لطيفة ، معلوم من هذه الشريعة وجودهم ، كما أن الملائكة أيضا معلوم وجودهم من هذه الشريعة ، ولا يستنكر وجود أجسام لطيفة جدا لا نراها نحن ألا ترى أن الهواء جسم لطيف لا ندركه نحن وقد قام البرهان العقلي القاطع على وجوده ، وقد صح تصورهم في الأجسام الكثيفة ورؤية بني آدم لهم في تلك الأجسام كالشيطان الذي رآه حين جعل يحفظ تمر الصدقة والعفريت الذي رآه الرسول وقال فيه : أبو هريرة ، وكحديث لولا دعوة أخي سليمان لربطته إلى سارية من سواري المسجد حين سير لكسر خالد بن الوليد ذي الخلصة ، وكحديث سواد بن قارب مع رئيه من الجن إلا أن رؤيتهم في الصور نادرة ، كما أن الملائكة تبدو في صور كحديث جبريل وحديث الملك الذي أتى الأعمى والأقرع والأبرص وهذا أمر قد استفاض في الشريعة فلا يمكن رده أعني تصورهم في بعض الأحيان في الصور الكثيفة ، وقال : وفيه دليل بين على أن الزمخشري وأن إظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم ، وأن زعم من يدعي رؤيتهم زور ومخرفة انتهى . ولا دليل في الآية على ما ذكر ؛ لأنه تعالى أثبت أنهم يروننا من جهة لا نراهم نحن فيها وهي الجهة التي يكونون فيها على أصل خلقتهم من الأجسام اللطيفة ولو أراد نفي رؤيتنا على العموم لم يتقيد بهذه الحيثية ، وكان يكون التركيب أنه يراكم هو وقبيله وأنتم لا ترونهم وأيضا فلو فرضنا أن في الآية دلالة لكان من العام المخصوص بالحديث النبوي المستفيض ، فيكونون مرئيين في بعض الصور لبعض الناس في بعض الأحيان ، وفي كتاب التحرير أنكر جماعة من الحكماء تكرر الجن والشياطين وتصورهم على أي جهة شاءوا ، وقوله الجن لا يرون ولا يظهرون للإنس إنه يراكم تعليل للنهي وتحذير من فتنته فإنه بمنزلة العدو المداجي يكيدكم ويغتالكم من حيث لا تشعرون ، وفي الحديث : آدم مجرى الدم إشارة إلى أنه لا يفارقه وأنه يرصد غفلاته فيتسلط عليه ، والظاهر أن الضمير في ( أنه ) عائد على الشيطان ، وقال إن الشيطان يجري من ابن : والضمير في ( أنه ) ضمير الشأن ، والحديث انتهى . ولا ضرورة تدعو إلى هذا ( وقبيله ) معطوف على الضمير المستكن في ( يراكم ) ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر أو معطوفا على موضع اسم إن على مذهب من يجيز ذلك ، وقرأ الزمخشري اليزيدي ( وقبيله ) بنصب اللام عطفا على اسم إن إن كان الضمير [ ص: 285 ] يعود على الشيطان ( وقبيله ) مفعول معه ، أي مع قبيله ، وقرئ شاذا من حيث لا ترونه بإفراد الضمير فيحتمل أن يكون عائدا على الشيطان ، ( وقبيله ) إجراء له مجرى اسم الإشارة ، فيكون كقوله :
فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق