كفى حزنا كري عليه كأنه لقى بين أيدي الطائفين حريم
وكانت المرأة تنشد وهي تطوف عريانة :
اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله
فلما بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وأنزل عليه : ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ) أذن مؤذن الرسول : ، وكان النداء ألا لا يحج البيت بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان بمكة سنة تسع ، وقال عطاء ، وأبو روق : تسريح اللحى وتنويرها بالمشط والترجيل ، وقيل : التزين بأجمل اللباس في الجمع والأعياد ، ذكره الماوردي ، وقيل : رفع اليدين في تكبيرة الإحرام والركوع والرفع منه ، وقيل : إقامة الصلاة في الجماعة بالمساجد وكان ذلك زينة لهم لما في الصلاة من حسن الهيئة ومشابهة صفوف الملائكة ، ولما فيها من إظهار الألفة وإقامة شعائر الدين ، وقيل : لبس النعال في الصلاة وفيه حديث عن ، وقال أبي هريرة ابن عطية : وما أحسبه يصح ، وقال أيضا : الزينة هنا الثياب الساترة [ ص: 290 ] ويدخل فيها ما كان من الطيب للجمعة والسواك وبدل الثياب ، وكل ما أوجد استحسانه في الشريعة ولم يقصد به الخيلاء ، وعند كل مسجد يريد عند كل موضع سجود ، فهو إشارة إلى الصلوات وستر العورة فيها ، هو مهم الأمر ، ويدخل في الصلاة مواطن الخير كلها ، ومع ستر العورة ما ذكرنا من الطيب للجمعة . انتهى . وقال : ( الزمخشري خذوا زينتكم ) ، أي : ريشكم ولباس زينتكم ( عند كل مسجد ) كلما صليتم وكانوا يطوفون عراة . انتهى . والذي يظهر أن الزينة هو ما يتجمل به ويتزين به عند الصلاة ولا يدخل فيه ما يستر العورة ؛ لأن ذلك مأمور به مطلقا ولا يختص بأن يكون ذلك عند كل مسجد ، ولفظة ( كل مسجد ) تأتي أن يكون أيضا ما يستر العورة في الطواف لعمومه ، والطواف إنما هو الخاص وهو المسجد الحرام وليس بظاهر حمل العموم على كل بقعة منه ، وأيضا فيا بني آدم عام وتقييد الأمر بما يستر العورة في الطواف مفض إلى تخصيصه بمن يطوف بالبيت ، وقال أبو بكر الرازي في الآية دليل على فرض وهو قول ستر العورة في الصلاة أبي يوسف ، وزفر ، ومحمد ، والحسن بن زياد لقوله : ( ، والشافعي عند كل مسجد ) علق الأمر به فدل على أنه الستر للصلاة ، وقال مالك ، الليث : حرام ، ويوجبان الإعادة في الوقت استحبابا إن صلى مكشوفها ، وقال كشف العورة الأبهري : هي فرض في الجملة وعلى الإنسان أن يسترها في الصلاة وغيرها وهو الصحيح لقوله - صلى الله عليه وسلم - : للمسور بن مخرمة ، أخرجه ارجع إلى قومك ولا تمشوا عراة مسلم ( وكلوا واشربوا ) ، قال الكلبي : معناه كلوا من اللحم والدسم واشربوا من الألبان ، وكانوا يحرمون جميع ذلك في الإحرام ، وقال : كلوا من البحيرة وأخواتها ، والظاهر أنه أمر بإباحة الأكل والشرب من كل ما يمكن أن يؤكل ، أو يشرب مما يحظر أكله وشربه في الشريعة وإن كان النزول على سبب خاص كما ذكروا من امتناع المشركين من أكل اللحم والدسم أيام إحرامهم ، أو السدي بني عامر دون سائر العرب من ذلك ، وقول المسلمين بذلك والنهي عن الإسراف يدل على التحريم لقوله : ( إنه لا يحب المسرفين ) ، قال : الإسراف الخروج عن حد الاستواء ، وقال أيضا ( لا تسرفوا ) في تحريم ما أحل لكم ، وقال أيضا : ابن عباس كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة ، وقال ابن زيد : الإسراف أكل الحرام ، وقال الإسراف الأكل من الحلال فوق الحاجة ، وقال الزجاج مقاتل : الإسراف الإشراك ، وقيل : الإسراف مخالفة أمر الله في طوافهم عراة يصفقون ويصفرون ، وقال أيضا : ليس في الحلال سرف إنما السرف في ارتكاب المعاصي ، قال ابن عباس ابن عطية : يريد في الحلال القصد ، واللفظة تقتضي النهي عن السرف مطلقا فيمن تلبس بفعل حرام ، فتأول تلبسه به حصل من المسرفين ، وتوجه النهي عليه ومن تلبس بفعل مباح فإن مشى فيه على القصد وأوساط الأمور فحسن ، وإن أفرط حتى دخل الضرر حصل أيضا من المسرفين وتوجه النهي عليه ، مثال ذلك أن يفرط في شراء ثياب ، أو نحوها ويستنفد في ذلك حل ماله ، أو يعطي ماله أجمع ، ويكابد بعياله الفقر بعد ذلك ، أو نحوه فالله عز وجل لا يحب شيئا من هذا ، وقد نهت الشريعة عنه . انتهى . وحكى المفسرون هنا أن نصرانيا طبيبا للرشيد أنكر أن يكون في القرآن ، أو في حديث الرسول شيء من الطب فأجيب بقوله : ( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ) وبقوله المعدة بيت الداء و الحمية رأس كل دواء و أعط كل بدن ما عودته فقال النصراني : ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا .
( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) : ( زينة الله ) ما حسنته الشريعة وقررته مما يتجمل به من الثياب وغيرها وأضيفت إلى الله ؛ لأنه هو الذي أباحها ، والطيبات هي المستلذات من المأكول والمشروب بطريقة [ ص: 291 ] وهو الحل ، وقيل : الطيبات المحللات ، ومعنى الاستفهام إنكار تحريم هذه الأشياء ، وتوبيخ محرميها ، وقد كانوا يحرمون أشياء من لحوم الطيبات وألبانها ، والاستفهام إذا تضمن الإنكار لا جواب له . وتوهم هنا أن له جوابا هنا ، وهو قوله : ( مكي قل هي ) توهم فاسد ، ومعنى ( أخرج ) أبرزها وأظهرها ، وقيل : فصل حلالها من حرامها .
( قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ) قرأ قتادة : قل هي لمن آمن ، وقرأ نافع ( خالصة ) بالرفع ، وقرأ باقي السبعة بالنصب ، فأما النصب فعلى الحال ، والتقدير : قل هي مستقرة للذين آمنوا في حال خلوصها لهم يوم القيامة ، وهي حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور الواقع خبرا لهي و ( في الحياة ) متعلق بآمنوا ويصير المعنى قل هي خالصة يوم القيامة لمن آمن في الدنيا ولا يعني بيوم القيامة وقت الحساب ، وخلوصها كونهم لا يعاقبون عليها ، وإلى هذا المعنى يشير تفسير ابن جبير ، وجوزوا فيه أن يكون خبرا بعد خبر ، والخبر الأول هو ( للذين آمنوا ) و ( في الحياة الدنيا ) متعلق بما تعلق به للذين ، وهو الكون المطلق ، أي : قل هي كائنة في الحياة الدنيا للمؤمنين وإن كان يشركهم فيها في الحياة الدنيا الكفار و ( خالصة لهم يوم القيامة ) ويراد بيوم القيامة استمرار الكون في الجنة ، وهذا المعنى من أنها لهم ولغيرهم في الدنيا خالصة لهم يوم القيامة هو قول ، ابن عباس والضحاك ، وقتادة ، والحسن ، ، وابن جريج وابن زيد وعلى هذا المعنى فسر ، فإن قلت : إذا كان معنى الآية أنها لهم في الدنيا على الشركة بينهم وبين الكفار فكيف جاء ( الزمخشري قل هي للذين آمنوا ) ، فالجواب : من وجوه ، أحدها : إن في الكلام حذفا تقديره قل هي للمؤمنين والكافرين في الدنيا خالصة للمؤمنين في القيامة لا يشاركون فيها . قاله الكرماني ، الثاني : إن ما تعلق به للذين آمنوا ليس كونا مطلقا ، بل كونا مقيدا يدل على حذفه مقابله ، وهو ( خالصة ) تقديره قل هي غير خالصة للذين آمنوا . قاله قال : قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا غير خالصة لهم ؛ لأن المشركين شركاؤهم فيها ، خالصة يوم القيامة لا يشركهم فيها أحد ، ثم قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل للذين آمنوا ولغيرهم ، قلت : النية على أنها خلقت للذين آمنوا على طريق الأصالة ، وأن الكفرة تبع لهم كقوله تعالى : ( الزمخشري ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره ) . انتهى . وجواب هو الزمخشري للتبريزي رحمه الله ، قال التبريزي معنى الآية أنها للمؤمنين خالصة في الآخرة لا يشركهم الكفار فيها هذا وإن كان مفهومه الشركة بين الذين آمنوا والذين أشركوا وهو كذلك ؛ لأن الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر ، إلا أنه أضاف إلى المؤمنين ولم يذكر الشركة بينهم وبين الذين أشركوا في الدنيا تنبيها على أنه إنما خلقها للذين آمنوا بطريق الأصالة ، والكفار تبع لهم فيها في الدنيا ولذلك خاطب الله المؤمنين بقوله تعالى : ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) . انتهى . وقال أبو علي في الحجة ويصح أن يعلق قوله : ( في الحياة الدنيا ) بقوله : ( حرم ) ولا يصح أن يتعلق بقوله : ( أخرج لعباده ) ويجوز ذلك وإن فصل بين الصلة والموصول بقوله : ( هي للذين آمنوا ) ؛ لأن ذلك كلام يشد القصة وليس بأجنبي منها جدا ، كما جاز ذلك في قوله : ( والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ) فقوله : ( وترهقهم ذلة ) معطوف على كسبوا داخل في الصلاة ، والتعلق بأخرج هو قول الأخفش ، ويصح أن يتعلق بقوله : ( والطيبات ) ويصح أن يتعلق بقوله : ( من الرزق ) . انتهى . وتقادير أبي علي والأخفش فيها تفكيك للكلام وسلوك به غير ما تقتضيه الفصاحة ، وهي تقادير أعجمية بعيدة عن البلاغة لا تناسب في كتاب الله ، بل لو قدرت في شعر الشنفرى ما ناسب . والنحاة الصرف غير الأدباء بمعزل عن إدراك الفصاحة ، وأما تشبيه ذلك بقوله : ( والذين كسبوا ) فليس ما قاله بمتعين فيه ، بل ولا ظاهر ، بل قوله : ( جزاء سيئة بمثلها ) هو خبر عن النهي ، [ ص: 292 ] أي : جزاء سيئة منهم بمثلها ، وحذف منهم لدلالة المعنى عليه كما حذف من قولهم السمن منوان بدرهم ، أي : منوان منه ، وقوله : ( وترهقهم ذلة ) معطوف على ( جزاء سيئة بمثلها ) وسيأتي توضيح هذا بأكثر في موضعه إن شاء الله تعالى .
( كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون ) ، أي : مثل تفصيلنا وتقسيمنا السابق نقسم في المستقبل لقوم لهم علم وإدراك ؛ لأنه لا ينتفع بذلك إلا من علم ، لقوله : ( وما يعقلها إلا العالمون ) .