احكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت إلى حمام شراع وارد الثمد
وكانت ثمود عربا في سعة من العيش فخالفوا أمر الله وعبدوا غيره وأفسدوا ، فبعث الله لهم صالحا نبيا من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا فدعاهم إلى الله حتى شمط ولا يتبعه منهم إلا القليل . قاله وهب . بعثه الله حين راهق الحلم فلما هلك قومه ارتحل بمن معه إلى مكة فأقاموا معه حتى ماتوا فقبورهم بين دار الندوة والحجر ، وصالح هو صالح بن آسف بن كاشح بن أروم بن ثمود بن جاثر بن إرم بن سام بن نوح هكذا نسبه الشريف النسابة الجواني وهو المنتهى إليه في علم النسب . ووقع في بعض التفاسير بين صالح وآسف زيادة أب وهو عبيد ، فقالوا : صالح بن عبيد بن آسف ، ونقص في الأجداد وتصحيف جاثر بقولهم : عابر ، قال الشريف الجواني في المقدمة الفاضلية : والعقب من جاثر بن إرم بن سام بن نوح وجديس والعقب من ثمود بن جاثر - فالخ وهيلع وتنوق وأروم من ولده صالح النبي - صلى الله عليه وسلم - بن آسف بن كاشح بن أروم بن ثمود .
وقرأ ابن وثاب : ( وإلى ثمود ) بكسر الدال والتنوين مصروفا في جميع القرآن ، جعله اسم الحي ، والجمهور منعوه الصرف جعلوه اسم القبيلة ، والأخوة هنا في القرابة ، ؛ لأن نسبه ونسبهم راجع إلى والأعمش ثمود بن جاثر ، وكل واحد من هؤلاء الأنبياء نوح وهود وصالح تواردوا على الأمر بعبادة الله والتنبيه على أنه لا إله غيره إذ كان قومهم عابدي أصنام ومتخذي آلهة مع الله كما كانت قريش والعرب ، ففي هذه القصص توبيخهم وتهديدهم أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك من الهلاك المستأصل من العذاب وكانت قصة نوح مشهورة طبقت الآفاق ، وقصة هود وصالح مشهورة عند العرب وغيرهم بحيث ذكرها قدماء الشعراء في الجاهلية وشبهوا مفسدي قومهم بمفسدي قوم هود وصالح ، قال بعض قدمائهم في الجاهلية :
فينا معاشر لن يبنوا لقومهم وإن بنى قومهم ما أفسدوا عادوا
أضحوا كقيل ابن عنز في عشيرته إذ أهلكت بالذي سدى لها عاد
أو بعده كقدار حين تابعه على الغواية أقوام فقد بادوا
وقيل : ابن عنز هو من قوم هود ، وسيأتي ذكر خبره عند ذكر إرسال الريح على قوم هود إن شاء الله ، وقدار هو ابن سالف عاقر ناقة صالح ويأتي خبره إن شاء الله .
( قد جاءتكم بينة من ربكم ) ، أي : آية ظاهرة جلية وشاهد على صحة نبوتي ، وكثر استعمال هذه الصفة استعمال الأسماء في القرآن فوليت العوامل كقوله : حتى جاءتهم البينة وقوله : ( بالبينات والزبر ) ، والمعنى : الآية البينة وبالآيات البينات فقارب أن تكون كالأبطح والأبرق إذ لا يكاد يصرح بالموصول معها ، وقوله : ( قد جاءتكم بينة من ربكم ) كأنه جواب لقولهم ( ائتنا بما ) تدل على صدقك ، وأنك مرسل إلينا و ( من ربكم ) متعلق بجاءتكم ، أو في موضع الصفة لآية على تقدير محذوف ، أي : من آيات ربكم .
( هذه ناقة الله لكم آية ) لما أبهم في قوله : ( قد جاءتكم بينة من ربكم ) [ ص: 328 ] بين ما الآية فكأنه قيل له ما البينة ؟ قال : ( هذه ناقة الله ) وأضافها إلى الله تشريفا وتخصيصا ، نحو : بيت الله وروح الله ولكونه خلقها بغير واسطة ذكر وأنثى ، ولأنه لا مالك لها غيره ولأنها حجة على القوم ، ولما أودع فيها من الآيات ذكرها في قصة قوم صالح و ( لكم ) بيان لمن هي له آية موجبة عليه الإيمان وهم ثمود ؛ لأنهم عاينوها وسائر الناس أخبروا عنها كأنه قال : ( لكم ) خصوصا ، وانتصب ( آية ) على الحال ، والعامل فيها ها بما فيها من معنى التنبيه ، أو اسم الإشارة بما فيه من معنى الإشارة ، أو فعل مضمر تدل عليه الجملة كأنه قيل انظر إليها في حال كونها آية ، أقوال ثلاثة ذكرت في علم النحو ، وقال الحسن هي ناقة اعترضها من إبلهم ولم تكن تحلب ، وقال : قيل إنه أخذ ناقة من سائر النوق وجعل الله لها شربا يوما ولهم شرب يوم وكانت الآية في شربها وحلبها ، قيل : وجاء بها من تلقاء نفسه ، وقال الجمهور : هي آية مقترحة لما حذرهم ، وأنذرهم سألوه آية فقال : أية آية تريدون قالوا : تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم من السنة فتدعو إلهك وندعو آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا قال الزجاج صالح : نعم فخرج معهم فدعوا أوثانهم وسألوها الإجابة فلم تجبهم ، ثم قال سيدهم جندع بن عمرو بن جواس وأشار إلى صخرة منفردة من ناحية الجبل يقال لها الكاثبة أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء وعشراء ، والمخترجة ما شاكلت البخت من الإبل فأخذ صالح - عليه السلام - مواثيقهم لئن فعلت ذلك لتؤمنن ولتصدقن قالوا : نعم فصلى ركعتين ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها ، ثم تحركت فانصدعت عن ناقة كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله عظما وهم ينظرون ، ثم نتجت سقبا مثلها في العظم فآمن به جندع ورهط من قومه وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا فنهاهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحبا أوثانهم وريان ابن كاهنهم وكانوا من أشراف ثمود ، وهذه الناقة وسقبها مشهور قصتهما عند جاهلية العرب ، وقد ذكروا السقب في أشعارهم . قال بعضهم يصف ناسا قتلوا بمعركة حرب بأجمعهم :
كأنهم صابت عليهم سحابة صواعقها لطيرهن دبيب
رغا فوقهم سقب السماء فداحص بشكته لم يستلب وسليب
قال : أتيت أرض أبو موسى الأشعري ثمود فذرعت صدر الناقة فوجدته ستين ذراعا .
( فذروها تأكل في أرض الله ) لما أضاف الناقة إلى الله أضاف محل رعيها إلى الله إذ الأرض وما أنبت فيها ملكه تعالى لا ملككم ولا إنباتكم وفي هذا الكلام إشارة إلى أن هذه الناقة نعمة من الله ينال خيرها من غير مشقة تكلف علف ولا طعمة ، وهو شأن الإبل كما جاء في الحديث : و ( قال : فضالة الإبل ؟ قال ما لك ولها ، معها سقاؤها وحذاؤها ، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها تأكل ) جزم على جواب الأمر ، وقرأ أبو جعفر في رواية ( تأكل ) بالرفع وموضعه حال ، كانت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وتشرب الماء ترد غبا فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر فما ترفعه حتى تشرب كل ما فيها ، ثم تفجج فيحلبون ما شاءوا حتى تمتلئ أوانيهم فيشربون ويدخرون .
( ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم ) نهاهم عن مسها بشيء من الأذى ، وهذا تنبيه بالأدنى على الأعلى إذا كان قد نهاهم عن مسها بسوء إكراما لآية الله فنهيه عن نحرها وعقرها ومنعها عن الماء والكلأ أولى وأحرى ، والمس والأخذ هنا استعارة ، وهذا وعيد شديد لمن مسها بسوء ، والعذاب الأليم هو ما حل بهم إذ عقروها وما أعد لهم في الآخرة .