( وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم ) الضمير في ( أخرجوهم ) عائد على لوط ومن آمن به ولما تأخر نزول هذه السورة عن سورة النمل أضمر ما فسره الظاهر في النمل من قوله : ( أخرجوا آل لوط من قريتكم ) ، وآل لوط ابنتاه وهما رعواء وريفاء ومن تبعه من المؤمنين ، وقيل : لم يكن معه إلا ابنتاه كما قال تعالى : ( فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ) وقال ابن عطية : والضمير عائد على آل لوط وأهله وإن كان لم يجر لهم ذكر فإن المعنى يقتضيهم ، وقرأ الحسن ( جواب ) بالرفع . انتهى وهنا جاء العطف بالواو ، والمراد بها أحد محاملها الثلاث من التعقيب المعني في النمل في قوله : ( تجهلون فما ) وفي العنكبوت ( وتأتون في ناديكم المنكر فما ) وكان التعقيب مبالغة في الرد حيث لم يمهلوا في الجواب زمانا ، بل أعجلوه بالجواب سرعة [ ص: 335 ] وعدم البراءة بما يجاوبون به ولم يطابق الجواب قوله ؛ لأنه لما أنكر عليهم الفاحشة وعظم أمرها ونسبهم إلى الإسراف بادروا بشيء لا تعلق له بكلامه وهو الأمر بالإخراج ونظيره جواب قوم إبراهيم بأن قالوا : ( حرقوه وانصروا آلهتكم ) حتى قبح عليهم بقوله : ( أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون ) فأتوا بجواب لا يطابق كلامه ، والقرية هي سدوم سميت باسم سدوم بن باقيم الذي يضرب المثل في الحكومات ، هاجر لوط مع عمه إبراهيم من أرض بابل فنزل إبراهيم أرض فلسطين ، وأنزل لوطا الأردن .
( إنهم أناس يتطهرون ) قال ، ابن عباس ومجاهد يتقذرون عن إتيان أدبار الرجال والنساء ، وقيل : يأتون النساء في الأطهار ، وقال ابن بحر : يرتقبون أطهار النساء فيجامعونهن فيها ، وقيل : يتنزهون عن فعلنا ، وهو معنى قول ، ابن عباس ومجاهد ، وقيل : يغتسلون من الجنابة ويتطهرون بالماء ، عيروهم بذلك ويسمى هذا النوع في علم البيان التعريض بما يوهم الذم ، وهو مدح كقوله :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
ولذلك قال : عابوهم بما يمدح به ، والظاهر أن قوله : ( إنهم ) تعليل للإخراج ، أي : لأنهم لا يوافقوننا على ما نحن عليه ، ومن لا يوافقنا وجب أن نخرجه ، وقال ابن عباس : وقولهم ( الزمخشري إنهم أناس يتطهرون ) سخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش وافتخار بما كانوا فيه من القذارة كما يقول الشيطان من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم أبعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد .
( فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ) ، أي : ( فأنجيناه وأهله ) من العذاب الذي حل بقومه وأهله هم المؤمنون معه ، أو ابنتاه على الخلاف الذي سبق ، واستثنى من أهله امرأته فلم تنج واسمها واهلة كانت منافقة تسر الكفر موالية لأهل سدوم ومعنى ( من الغابرين ) من الذين بقوا في ديارهم فهلكوا ، وعلى هذا يكون قوله : ( كانت من الغابرين ) تفسيرا وتوكيدا لما تضمنه الاستثناء من كونها لم ينجها الله تعالى . وقال أبو عبيدة : ( إلا امرأته ) اكتفى به في أنها لم تنج ، ثم ابتدأ وصفها بعد ذلك بصفة لا تتعلق بها النجاة ولا الهلكة ، وهي أنها كانت ممن أسن وبقي من عصره إلى عصر غيره فكانت غابرة ، أي : متقدمة في السن كما قال : إلا عجوزا في الغابرين إلى أن هلكت مع قومها . انتهى . وجاء ( من الغابرين ) تغليبا للذكور على الإناث ، وقال : من الغائبين عن النجاة فيكون توكيدا لما تضمنه الاستثناء . انتهى . و ( الزجاج كانت ) بمعنى صارت ، أو كانت في علم الله ، أو باقية على ظاهرها من تقييد غبورها بالزمان الماضي ، أقوال .
( وأمطرنا عليهم مطرا ) ضمن ( أمطرنا ) معنى أرسلنا فلذلك عداه بعلى كقوله : فأمطرنا عليهم حجارة من السماء ، والمطر هنا هي حجارة ، وقد ذكرت في غير آية خسف بهم وأمطرت عليهم الحجارة ، وقيل : كانت المؤتفكة خمس مدائن ، وقيل : ست ، وقيل : أربع ، اقتلعها جبريل بجناحه فرفعها حتى سمع أهل السماء نهيق الحمير وصياح الديكة ، ثم عكسها فرد أعلاها أسفلها وأرسلها إلى الأرض ، وتبعتهم الحجارة مع هذا فأهلكت من كان منهم في سفر ، أو خارجا عن البقاع ، وقالت امرأة لوط حين سمعت الرجة واقوماه والتفتت فأصابتها صخرة فقتلتها ، والظاهر أن الإمطار شملهم كلهم ، وقيل : خسف بأهل المدن وأمطرت الحجارة على المسافرين منهم ، وسئل مجاهد هل سلم منهم أحد قال : لا ، إلا رجلا كان بمكة تاجرا وقف الحجر له أربعين يوما حتى قضى تجارته ، وخرج من الحرم فأصابه فمات ، وكان عددهم مائة ألف .
( فانظر كيف كان عاقبة المجرمين ) خطاب للرسول ، أو للسامع قصتهم كيف كان مآل من أجرم ، وفيه إيقاظ وازدجار أن تسلك هذه الأمة هذا المسلك [ ص: 336 ] و ( المجرمين ) عام في قوم نوح وهود وصالح ولوط ، وغيرهم وهو من نظر التفكر ، أو من نظر البصر فيمن بقيت له آثار منازل ومساكن كثمود وقوم لوط ، كما قال تعالى ( وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم ) .