تساوى الكل منا في المساوي فأفضلنا فتيلا ما يساوي
وعلى الأقوال السابقة يكون القعود بكل صراط حقيقة ، وحمل القعود والصراط على [ ص: 339 ] المجاز ، فقال ولا تقتدوا بالشيطان في قوله : ( الزمخشري لأقعدن لهم صراطك المستقيم ) فتقعدوا بكل صراط ، أي : بكل منهاج من مناهج الدين ، والدليل على أن المراد بالصراط سبيل الحق ، قوله : ( وتصدون عن سبيل الله ) ، فإن قلت : صراط الحق واحد ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) فكيف قيل بكل صراط ، قلت : صراط الحق واحد ، ولكنه يتشعب إلى معارف وحدود وأحكام كثيرة مختلفة ، فكانوا إذا رأوا واحدا يشرع في شيء منه منعوه وصدوه . انتهى . ولا تظهر الدلالة على أن المراد بالصراط سبيل الحق من قوله : ( وتصدون عن سبيل الله ) كما ذكر ، بل الظاهر التغاير لعموم كل صراط وخصوص سبيل الله فيكون ( بكل صراط ) حقيقة في الطرق ، و ( سبيل الله ) مجاز عن دين الله ، والباء في ( بكل صراط ) ظرفية نحو زيد بالبصرة ، أي : في كل صراط ، وفي البصرة ، والجمل من قوله : ( توعدون ) ( وتصدون ) و ( تبغونها ) أحوال ، أي : موعدين وصادين وباغين ، والإيعاد ذكر إنزال المضار بالموعد ، ولم يذكر الموعد به لتذهب النفس فيه كل مذهب من الشر ؛ لأن أوعد لا يكون إلا في الشر ، وإذا ذكر تعدى الفعل إليه بالباء .
قال : إذا أرادوا أن يذكروا ما يهددوا به مع أوعدت جاءوا بالباء فقالوا : أوعدته بالضرب ، ولا يقولون أوعدته الضرب ، والصد يمكن أن يكون حقيقة في عدم التمكين من الذهاب إلى الرسول ليسمع كلامه ويمكن أن يكون مجازا عن الإيعاد من الصاد بوجه ما ، أو عن وعد المصدود بالمنافع على تركه و ( أبو منصور الجواليقي من آمن ) مفعول بتصدون على إعمال الثاني ، ومفعول ( توعدون ) ضمير محذوف ، والضمير في ( به ) الظاهر أنه على ( سبيل الله ) وذكره ؛ لأن السبيل تذكر وتؤنث ، وقيل : عائد على الله ، وقال : فإن قلت : إلام يرجع الضمير في آمن به ؟ ، قلت : إلى كل صراط ، تقديره : توعدون من آمن به وتصدون عنه ، فوضع الظاهر الذي هو سبيل الله موضع الضمير زيادة في تقبيح أمرهم دلالة على عظم ما يصدون عنه . انتهى . وهذا تعسف في الإعراب لا يليق بأن يحمل القرآن عليه لما فيه من التقديم والتأخير ووضع الظاهر موضع المضمر من غير حاجة إلى ذلك ، وعود الضمير على أبعد مذكور مع إمكان عوده على أقرب مذكور ، الإمكان السائغ الحسن الراجح وجعل ( الزمخشري من آمن ) منصوبا بتوعدون فيصير من إعمال الأول وهو قليل .
وقد قال النحاة : إنه لم يرد في القرآن لقلته ولو كان من إعمال الأول للزم ذكر الضمير في الفعل الثاني ، وكان يكون التركيب ( وتصدونه ) ، أو وتصدونهم إذ هذا الضمير لا يجوز حذفه على قول الأكثرين إلا ضرورة على قول بعض النحاة يحذف في قليل من الكلام ، ويدل على ( من آمن ) منصوب بتصدون الآية الأخرى وهي قوله : ( قل ياأهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن ) ولا يحذف مثل هذا الضمير إلا في شعر ، وأجاز بعضهم حذفه على قلة مع هذه التكليفات المضافة إلى ذلك ، فكان جديرا بالمنع لما في ذلك من التعقيد البعيد عن الفصاحة ، وأجاز ابن عطية أن يعود على شعيب في قول من رأى القعود على الطريق للرد عن شعيب ، وهذا بعيد ؛ لأن القائل ( ولا تقعدوا ) هو شعيب فكان يكون التركيب من آمن بي ولا يسوغ هنا أن يكون التفاتا لو قلت : يا هند أنا أقول لك لا تهيني من أكرمه ، تريد من أكرمني لم يصح ، وتقدم تفسير مثل قوله : ( وتبغونها عوجا ) في آل [ ص: 340 ] عمران .
( واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم ) قال ( إذ ) مفعول به غير ظرف ، أي واذكروا على جهة الشكر وقت كونكم قليلا عددكم ، فكثركم الله ووفر عددكم انتهى . وذكر غيره أنه منصوب على الظرف فلا يمكن أن يعمل فيه ( واذكروا ) لاستقبال اذكروا وكون ( إذ ) ظرفا لما مضى والقلة والتكثير هنا بالنسبة إلى الأشخاص أو إلى الفقر والغنى أو إلى قصر الأعمار وطولها أقوال ثلاثة أظهرها الأول . قيل : إن الزمخشري مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط ، فولدت فرمى الله في نسلها بالبركة والنماء فكثروا وفشوا ، وقال : إذ كنتم أقلة أذلة فأعزكم بكثرة العدد والعدد انتهى . ولا ضرورة تدعو إلى حذف صفة وهي أذلة ولا إلى تحميل قوله الزمخشري فكثركم معنى بالعدد ألا ترى أن القلة لا تستلزم الذلة ولا الكثرة تستلزم العز ، وقال الشاعر :
تعيرنا أنا قليل عديدنا فقلت لها إن الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليل وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليل
وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين هذا تهديد لهم وتذكير بعاقبة من أفسد قبلهم وتمثيل لهم بمن حل به العذاب من قوم نوح وهود وصالح ولوط وكانوا قريبي عهد بما أجاب المؤتفكة .