( فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ) تقدم تفسير مثل هذه الجملة ، قال وغيره : لما دعا عليهم فتح عليهم باب من جهنم بحر شديد أخذ بأنفاسهم فلم ينفعهم ظل ولا ماء فإذا دخلوا الأسراب ليتبردوا وجدوها أشد حرا من الظاهر فخرجوا هربا إلى البرية فأظلتهم سحابة فيها ريح طيبة فتنادوا عليكم الظلة فاجتمعوا تحتها كلهم فانطبقت عليهم وألهبها الله نارا ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلو فصاروا رمادا . [ ص: 346 ] وروي أن الريح حبست عنهم سبعة أيام ، ثم سلط عليهم الحر ، وقال ابن عباس يزيد الجريري : سلط عليهم الريح سبعة أيام ، ثم رفع لهم جبل من بعيد فأتاه رجل فإذا تحته أنهار وعيون فاجتمعوا تحته كلهم فوقع ذلك الجبل عليهم ، وقال قتادة : أرسل شعيب إلى أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة ، وإلى أصحاب مدين فصاح بهم جبريل صيحة فهلكوا جميعا ، وقال ابن عطية : ويحتمل أن فرقة من قوم شعيب هلكت بالرجفة وفرقة هلكت بالظلة ، وقال بلغني أن رجلا منه يقال له الطبري عمرو بن جلها لما رأى الظلة . قال الشاعر :
يا قوم إن شعيبا مرسل فذروا عنكم سميرا وعمران بن شداد إني أرى غيمة يا قوم قد طلعت
تدعو بصوت على صمانة الواد وإنه لن تروا فيها صحاء غد
إلا الرقيم تمشى بين أنجاد
سمير وعمران كاهناهم ، والرقيم كلبهم ، وعن : أبجد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت أسماء كملوك أبي عبد الله البجلي مدين ، وكان كلمن ملكهم يوم نزول العذاب بهم زمان شعيب - عليه السلام - فلما هلك قالت ابنته تبكيه :
كلمن قد هد ركني هلكه وسط المحله
سيد القوم أتاه الحتف نارا وسط ظله
جعلت نارا عليهم دارهم كالمضمحله
( الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها ) ، أي : كأن لم يقيموا ناعمي البال رخيي العيش في دارهم ، وفيها قوة الإخبار عن هلاكهم وحلول المكروه بهم ، والتنبيه على الاعتبار بهم كقوله تعالى : ( فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس ) وكقول الشاعر :
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر
وقال ابن عطية : وغنيت بالمكان إنما يقال في الإقامة التي هي مقترنة بتنعم وعيش رخي هذا الذي استقريت من الأشعار التي ذكرت العرب فيها هذه اللفظة ، وأنشد على ذلك عدة أبيات ، ثم قال ، وأما قول الشاعر :
غنينا زمانا بالتصعلك والغنى فكلا سقانا بكأسيهما الدهر
فمعناه استغنينا ورضينا مع أن هذه اللفظة ليست مقترنة بمكان . انتهى . وقال : كأن لم يعمروا ، وقال ابن عباس قتادة : كأن لم ينعموا ، وقال الأخفش : كأن لم يعيشوا ، وقال أيضا قتادة ، وابن زيد ومقاتل : كأن لم يكونوا ، وقال : كأن لم ينزلوا ، وقال الزجاج ابن قتيبة : كأن لم يقيموا ، و ( الذين ) مبتدأ والجملة التشبيهية خبره ، قال : وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص كأنه قيل ( الزمخشري الذين كذبوا شعيبا ) المخصوصون بأن أهلكوا واستؤصلوا كأن لم يقيموا في دارهم ؛ لأن الذين اتبعوا شعيبا قد أنجاهم الله تعالى . انتهى . وجوز أبو البقاء أن يكون الخبر ( الذين كذبوا شعيبا ) كانوا هم الخاسرين ، و ( كأن لم يغنوا ) حال من الضمير في ( كذبوا ) وجوز أيضا أن يكون الذين كذبوا صفة لقول الذين كفروا من قومه ، وأن يكون بدلا منه وعلى هذين الوجهين يكون ( كأن ) حالا . انتهى . وهذه أوجه متكلفة ، والظاهر أنها جمل مستقلة لا تعلق لها بما قبلها من جهة الإعراب .
( الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين ) هذا أيضا مبتدأ وخبره ، وقال : وفيه معنى الاختصاص ، أي : هم المخصوصون بالخسران العظيم دون اتباعه ، فإنهم هم الرابحون وفي هذا الاستئناف لهذا الابتداء ، وهذا التكرير مبالغة في رد [ ص: 347 ] مقالة الملأ لأشياعهم وتسفيه لرأيهم واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم . انتهى . وهاتان الجملتان منبئتان عن ما فعل الله بهم في مقالتهم قالوا ( الزمخشري لنخرجنك ياشعيب ) فجاء الإخبار بإخراجهم بالهلاك ، وأي إخراج أعظم من إخراجهم وقالوا : ( لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون ) فحكم تعالى عليهم هم بالخسران ، وأجاز أبو البقاء في إعراب " الذين " هنا أن يكون بدلا من الضمير في ( يغنوا ) ، أو منصوبا بإضمار أعني ، والابتداء الذي ذكرناه أقوى وأجزل .
( فتولى عنهم وقال ياقوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم ) تقدم تفسير نظيره في قصة صالح - عليه السلام - .
( فكيف آسى على قوم كافرين ) ، أي : فكيف أحزن على من لا يستحق أن يحزن عليه ونبه على العلة التي لا تبعث على الحزن وهي الكفر ، إذ هو أعظم ما يعادي به المؤمن إذ هما نقيضان كما جاء : لا تتراءى ناراهما ، وكأنه وجد في نفسه رقة عليهم حيث كان أمله فيهم أن يؤمنوا فلم يقدر فسرى ذلك عن نفسه باستحضار سبب التسلي عنهم والقسوة فذكر أشنع ما ارتكبوه معه من الوصف ، الذي هو الكفر بالله الباعث على تكذيب الرسل ، وعلى المناوأة الشديدة حتى لا يساكنوه وتوعدوه بالإخراج وبأشد منه ، وهو عودهم إلى ملتهم ، قال : وسار مكي شعيب بمن تبعه إلى مكة فسكنوها ، وقرأ ، ابن وثاب وابن مصرف ( إيسي ) بكسر الهمزة ، وهي لغة تقدم ذكرها في الفاتحة . والأعمش