فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي سبب الرجفة مختلف فيه ، وهو مرتب على تفسير الميقات فهل الرجفة عقوبة على سكوتهم وإغضائهم على عبادة العجل ، أو عقوبة على سؤالهم الرؤية ، أو عقوبة لتشططهم في الدعاء المذكور ، أو سببه سماع كلام هارون وهو ميت ، أقوال . وقال : عقوبة على عبادة هؤلاء السبعين [ ص: 400 ] باختيارهم العجل ، وخفي ذلك عن السدي موسى في وقت الاختيار حتى أعلمه الله ، وأخذ الرجفة يحتمل أن نشأ عنه الموت ، ويحتمل أن نشأ عنه الغشي ، وهما قولان ، وقال : قال السدي موسى : كيف أرجع إلى بني إسرائيل وقد أهلكت خيارهم ؟ فماذا أقول ؟ وكيف يأمنونني على أحد ؟ فأحياهم الله ; وقيل : أخذتهم الرعدة حتى كادت تبين مفاصلهم وتنتقض ظهورهم ، وخاف موسى الموت ، فعند ذلك بكى ودعا فكشف عنهم ، قال : وهذا تمن منه للإهلاك قبل أن يرى ما رأى من تبعة طلب الرؤية ، كما يقول النادم على الأمر إذا رأى سوء المغبة : لو شاء الله لأهلكني قبل هذا ، انتهى . فمعنى قوله : من قبل سؤال الرؤية ، وهذا بناء من الزمخشري على أن هذا الميقات هو ميقات المناجاة وطلب الرؤية ، وقد ذكرنا أن الأظهر خلافه ، وقال الزمخشري ابن عطية : لما رأى موسى ذلك أسف عليهم وعلم أن أمر بني إسرائيل يتشعب إن لم يأت بالقوم ، فجعل يستعطف ربه أن يا رب لو شئت أهلكتهم قبل هذه الحال وإياي لكان أخف علي ، وهذا وقت هلاكهم فيه مفسدة علي مؤذ لي ، انتهى ، ومفعول : شئت محذوف ، تقديره : لو شئت إهلاكنا ، وجواب لو أهلكتهم وأتى دون لام ، وهو فصيح لكنه باللام أكثر ، كما قال : لو شئت لاتخذت ، ولو شاء ربك لآمن ، ولا يحفظ جاء بغير لام في القرآن إلا هذا ، وقوله : أن لو نشاء أصبناهم و لو نشاء جعلناه أجاجا والمحذوف في : من قبل ، أي : من قبل الاختيار وأخذ الرجفة ، وذلك زمان إغضائهم على عبادة العجل ، أو عبادتهم هم إياه ، وقوله : ( وإياي ) ، أي : وقت قتلي القبطي : فأنت قد سترت وغفرت حينئذ فكيف الآن إذ رجوعي دونهم فساد لبني إسرائيل ؟ ! قال أكثره ابن عطية ، وعطف ( وإياي ) على الضمير المنصوب في أهلكتهم وعطف الضمير مما يوجب فصله ، وبدأ بضميرهم لأنهم الذين أخذتهم الرجفة فماتوا أو أغمي عليهم ، ولم يمت هو ولا أغمي عليه ولم يكتف بقوله : أهلكتهم من قبل حتى أشرك نفسه فيهم ، وإن كان لم يشركهم في مقتضى الإهلاك تسليما منه لمشيئة الله تعالى وقدرته ، وأنه لو شاء إهلاك العاصي والطائع لم يمنعه من ذلك مانع .
أتهلكنا بما فعل السفهاء منا قيل : هذا استفهام على سبيل الإدلاء بالحجة في صيغة استعطاف وتذلل ، والضمير المنصوب في أتهلكنا له وللسبعين ، وبما فعل السفهاء فيه الخلاف مرتبا على سبب أخذ الرجفة من طلب الرؤية ، أو عبادة العجل ، أو قولهم قتلت هارون ، أو تشططهم في الدعاء ، أو عبادتهم بأنفسهم العجل ، وقيل : الضمير في أتهلكنا له ولبني إسرائيل ، وبما فعل السفهاء ، أي بالتفرق والكفر والعصيان يكون هلاكهم ، وقال : يعني نفسه وإياهم ; لأنه إنما طلب الرؤية زجرا للسفهاء وهم طلبوها سفها وجهلا ، والذي يظهر لي أنه استفهام استعلام أتبع إهلاك المختارين وهم خير الزمخشري بني إسرائيل بما فعل غيرهم ; إذ من الجائز في العقل ذلك ، ألا ترى إلى قوله تعالى : واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة وقوله عليه السلام ، وقد قيل له : . وكما ورد أنهلك وفينا الصالحون ؟ ! قال : نعم إذا كثر الخبث ، أو كلاما هذا معناه ، وروي عن أن قوما يخسف بهم ، قيل : وفيهم الصالحون ؟ ! فقيل : يبعثون على نياتهم علي أنهم أحيوا وجعلوا أنبياء كلهم .
إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أي إن فتنتهم إلا فتنتك ، والضمير في هي يفسره سياق الكلام ، أي أنت هو الذي فتنتهم ، قالت فرقة : لما أعلمه الله أن السبعين عبدوا العجل تعجب ، وقال : إن هي إلا فتنتك ، وقيل : لما أعلم موسى بعبادة بني إسرائيل العجل [ ص: 401 ] وبصفته ، قال : يا رب ومن أخاره ، قال : أنا ، قال موسى : فأنت أضللتهم إن هي إلا فتنتك ، قال ابن عطية : ويحتمل أن يشير به إلى قولهم : أرنا الله جهرة إذ كانت فتنة من الله أوجبت الرجفة ، وفي هذه الآية رد على المعتزلة ، وقال : أي محنتك وبلاؤك حين كلمتني وسمعت كلامك ، فاستدلوا بالكلام على الرؤية استدلالا فاسدا حتى افتتنوا وضلوا ، تضل بها الجاهلين غير الثابتين في معرفتك ، وتهدي العالمين الثابتين بالقول الثابت ، وجعل ذلك إضلالا من الله تعالى وهدى منه ، لأن محنته إنما كانت سببا لأن ضلوا واهتدوا ، فكأنه أضلهم بها وهداهم على الاتساع في الكلام ، انتهى ، وهو على طريقة المعتزلة في نفيهم الإضلال عن الله تعالى . الزمخشري
أنت ولينا القائم بأمرنا : فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين . سأل الغفران له ولهم والرحمة ، لما كان قد اندرج قومه في قوله : أنت ولينا وفي سؤال المغفرة والرحمة له ولهم - وكان قومه أصحاب ذنوب - أكد استعطاف ربه تعالى في غفران تلك الذنوب ، فأكد ذلك ونبه بقوله : وأنت خير الغافرين ، ولما كان هو وأخوه هارون عليه السلام من المعصومين من الذنوب ، فحين سأل المغفرة له ولأخيه وسأل الرحمة لم يؤكد الرحمة بل قال : وأنت أرحم الراحمين ، فنبه على أنه تعالى أرحم الراحمين ، ألا ترى إلى قوله : ورحمتي وسعت كل شيء وكان تعالى خير الغافرين لأن غيره يتجاوز عن الذنب طلبا للثناء أو الثواب ، أو دفعا للصفة الخسيسة عن القلب ، وهي صفة الحقد ، والباري سبحانه وتعالى منزه عن أن يكون غفرانه لشيء من ذلك .