فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خـاسئين . أي استعصوا والعتو الاستعصاء والتأبي في الشيء ، وباقي الآية تقدم تفسيره في البقرة ، والظاهر أن العذاب والمسخ والهلاك إنما وقع بالمعتدين في السبت ، والأمة القائلة : لم تعظون قوما هم من فريق الناهين الناجين ، وإنما سألوا إخوانهم عن علة وعظهم وهو لا يجدي فيهم شيئا البتة إذ الله مهلكهم أو معذبهم ، فيصير الوعظ إذ ذاك كالبعث كوعظ المكاسين فإنهم يسخرون بمن يعظهم ، وكثير ما يؤدي إلى تنكيل الواعظ ، وعلى قول من زعم أن الأمة القائلة : لم تعظون هم العصاة ، قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء أي تزعمون أن الله مهلكهم أو معذبهم ، تكون هذه الأمة من الهالكين الممسوخين ، والظاهر من قوله : فلما عتوا أنهم أولا أخذوا بالعذاب حين نسوا ما ذكروا به ، ثم لما عتوا مسخوا ، وقيل : فلما عتوا تكرير لقوله : فلما نسوا ، والعذاب البئيس هو المسخ .
وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيـامة من يسومهم سوء العذاب . لما ذكر تعالى قبح فعالهم واستعصاءهم أخبر تعالى أنه حكم عليهم بالذل والصغار إلى يوم القيامة : تأذن أعلم من الأذان ، وهو الإعلام ، قاله الحسن وابن قتيبة واختاره الزجاج وأبو علي ، وقال عطاء : تأذن حتم ، [ ص: 414 ] وقال قطرب : وعد ، وقال أبو عبيدة : أخبر ، وهو راجع لمعنى أعلم ، وقال مجاهد : أمر ، وعنه قال : وقيل : أقسم ، وروي عن ، قال الزجاج : تأذن عزم ، ربك وهو تفعل من الإيذان ، وهو الإعلام ؛ لأن العازم على الأمر يحدث به نفسه ويؤذنها بفعله ، وأجري مجرى فعل القسم كعلم الله وشهد الله ، ولذلك أجيب بما يجاب به القسم ، وهو قوله : ليبعثن ، والمعنى : وإذ حتم ربك وكتب على نفسه ، وقال الزمخشري ابن عطية : بنية : تأذن هي التي تقتضي التكسب ، من أذن أي علم ومكن ، فإذا كان مسندا إلى غير الله لحقه معنى التكسب الذي يلحق المحدثين ، وإلى الله كان بمعنى علم صفة لا مكتسبة بل قائمة بالذات ، فالمعنى : وإذ علم الله ، ليبعثن ويقتضي قوة الكلام أن ذلك العلم منه مقترن بإنفاذ وإمضاء ، كما تقول في أمر قد عزمت عليه غاية العزم : علم الله لأبعثن كذا ، نحا إليه أبو علي الفارسي ، وقال وغيره : تأذن ، معناه أعلم ، وهو قلق من جهة التصريف ، إذ نسبة : تأذن إلى الفاعل غير نسبة أعلم ، وبين ذلك فرق من التعدي وغيره ، انتهى ، وفيه بعض اختصار . الطبري
وقال أبو سليمان الدمشقي : أعلم أنبياء بني إسرائيل ، ليبعثن ليرسلن وليسلطن ; لقوله : بعثنا عليكم عبادا لنا والضمير في : ( عليهم ) عائد على اليهود ، قاله الجمهور أو : ( عليهم ) وعلى النصارى قاله مجاهد ، وقيل : نسل الممسوخين والذين بقوا منهم ، وقيل : يهود خيبر وقريظة والنضير ، وعلى هذا ترتب الخلاف في من : يسومهم ، فقيل : بختنصر ومن أذلهم بعده إلى يوم القيامة ، وقيل : المجوس ، كانت اليهود تؤدي الجزية إليهم إلى أن بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فضربها عليهم ، فلا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر ، وقيل : العرب ، كانوا يجبون الخراج من اليهود ، قاله ابن جبير ، وقال : بعث الله عليهم العرب يأخذون منهم الجزية ويقتلونهم ، وقال السدي : المبعوث عليهم ابن عباس محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ، ولم يجب الخراج نبي قط إلا موسى ، جباه ثلاث عشرة سنة ثم أمسك للنبي صلى الله عليه وسلم ، و سوء العذاب الجزية ، أو الجزية والمسكنة ، وكلاهما عن ، أو القتال حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، وقيل : الإخراج والإبعاد عن الوطن ، وذلك على قول من قال إن الضمير في : ( عليهم ) عائد على ابن عباس أهل خيبر وقريظة والنضير ، وهذه الآية تدل على أن لا دولة لليهود ولا عز ، وأن الذل والصغار فيهم لا يفارقهم ، ولما كان خبرا في زمان الرسول عليه السلام وشاهدنا الأمر كذلك كان خبرا عن مغيب صدقا ، فكان معجزا ، وأما ما جاء في أتباع الدجال أنهم هم اليهود ، فتسمية بما كانوا عليه إذ هم في ذلك الوقت دانوا بإلهية الدجال فلا تعارض بين هذا الخبر إن صح والآية ، وفي كتاب ابن عطية : ولقد حدثت أن طائفة من الروم أملقت في صقعها فباعت اليهود المجاورة لهم وتملكوهم .