وكذلك نفصل الآيات ، أي : مثل هذا التفصيل الذي فصلنا فيه الآيات السابقة نفصل الآيات اللاحقة ، فالكل على نمط واحد في التفصيل والتوضيح لأدلة التوحيد [ ص: 422 ] وبراهينه .
ولعلهم يرجعون عن شركهم وعبادة غير الله إلى توحيده وعبادته بذلك التفصيل والتوضيح ، وقرأت فرقة : يفصل ، بالياء ، أي : يفصل هو ، أي : الله تعالى .
واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ، أي : واتل على من كان حاضرا من كفار اليهود وغيرهم ، ولما كان تعالى قد ذكر أخذ الميثاق على توحيده تعالى وتقرير ربوبيته ، وذكر إقرارهم بذلك وإشهادهم على أنفسهم ذكر حال من آمن به ثم بعد ذلك كفر ، كحال اليهود كانوا مقرين منتظرين بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اطلعوا عليه من كتب الله المنزلة وتبشيرها به وذكر صفاته ، فلما بعث كفروا به ، فذكروا أن ما صدر منهم هو طريقة لأسلافهم اتبعوها ، واختلف المفسرون في هذا الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها ، فقال عكرمة : هو كل من انسلخ من الحق بعد أن أعطيه من اليهود والنصارى والحنفاء ، وقال : هم عبادة بن الصامت قريش أتتهم أوامر الله ونواهيه والمعجزات فانسلخوا من الآيات ولم يقبلوها ، فعلى هذين القولين يكون الذي مفردا أريد به الجمع ، وقال الجمهور : هو شخص معين ، فقيل : هو بلعم ; وقيل : هو بلعام ، وهو رجل من الكنعانيين أوتي بعض كتب الله ; وقيل : كان يعلم اسم الله الأعظم ، واختلف في اسم أبيه . وقال : هو أبره . وقال ابن مسعود : باعوراء ، وقال ابن عباس مجاهد والسدي : باعرويه ، روي أن قومه طلبوا إليه أن يدعو على موسى ومن معه فأبى ، وقال : كيف أدعو على من معه الملائكة ، فألحوا عليه حتى فعل ، وقد طول المفسرون في قصته وذكروا ما الله أعلم به ; وقيل : هو رجل من علماء بني إسرائيل ، وقال : بعثه ابن مسعود موسى - عليه السلام - نحو مدين داعيا إلى الله وإلى شريعته وعلم من آيات الله ما يدعونه ، فكان مجاب الدعوة ، فلما فارق دين موسى سلخ الله منه الآيات ; وقيل : اسمه ناعم كان في زمن موسى وكان بحبت - اسم بلد - كان إذا نظر رأى العرش ، وكان في مجلسه اثنا عشر ألف محبرة للمتعلمين يكتبون عنه ، وهو أول من صنف كتابا أنه ليس للعالم صانع ; وقيل : هو رجل من بني إسرائيل أعطي ثلاث دعوات مستجابة يدعو بها في مصالح العباد ، فجعلها كلها لامرأته وكانت قبيحة ، فسألته فدعا الله فجعلها جميلة فمالت إلى غيره ، فدعا الله عليها فصارت كلبة نباحة وكان له منها بنون فتضرعوا إليه ، فدعا الله فصارت إلى حالتها الأولى ، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص وابن المسيب وزيد بن أسلم وأبو روق : هو أمية بن أبي الصلت الثقفي قرأ الكتب وعلم أنه سيبعث نبي من العرب ورجا أن يكون إياه ، وكان ينظم الشعر في الحكم والأمثال ، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حسده ووفد على بعض الملوك ، وروي أنه جاء يريد الإسلام فوصل إلى بدر بعد الوقعة بيوم أو نحوه ، فقال : من قتل هؤلاء ؟ فقيل : محمد ، فقال : لا حاجة لي بدين من قتل هؤلاء ، فارتد ورجع ، وقال : الآن حلت لي الخمر ، وكان قد حرم الخمر على نفسه فلحق بقوم من ملوك حمير فنادمهم حتى مات ، وقدمت أخته فارعة على رسول الله واستنشدها من شعره فأنشدته عدة قصائد ، فقال : آمن شعره وكفر قلبه ، وهو الذي قال فيه تعالى : واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ، وقال أيضا : هو سعيد بن المسيب أبو عامر بن النعمان بن صيفي الراهب ، سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم : الفاسق ، وكان ترهب في الجاهلية ولبس المسوح ، وهو الذي بنى له المنافقون مسجد الضرار جرت بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم محاورة ، فقال أبو عامر : أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا ، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بالقوة والسلاح ، ثم أتى قيصر واستجاشه ليخرج محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المدينة ، فمات بالشام طريدا شريدا وحيدا ; وقيل غير هذا ، والأولى في مثل هذا إذا ورد عن المفسرين [ ص: 423 ] أن تحمل أقاويلهم على التمثيل لا على الحصر في معين ، فإنه يؤدي إلى الاضطراب والتناقض والخلاف في آتيناه آياتنا مترتب على من عنى الذي آتيناه أذلك اسم الله الأعظم ، أو الآيات من كتب الله ، أو حجج التوحيد ، أو من آيات موسى ، أو العلم بمجيء الرسول ؟ والانسلاخ من الآيات مبالغة في التبري منها والبعد ، أي : لم يعمل بما اقتضته نعمتنا عليه من إتيانه آياتنا ، جعل كأنه كان ملتبسا بها كالثوب فانسلخ منها ، وهذا من إجراء المعنى مجرى الجزم ، وقول من قال : إنه من المقلوب ، أي : إلا انسلخت الآيات عنه لا ضرورة تدعو إليه ، وقال سفيان : إن الرجل ليذنب ذنبا فينسى بابا من العلم ، وقرأ الجمهور : فأتبعه الشيطان ، من أتبع رباعيا ، أي : لحقه وصار معه ، وهي مبالغة في حقه ; إذ جعل كأنه هو إمام للشيطان يتبعه ، وكذلك فأتبعه شهاب ثاقب ، أي : عدا وراءه ، قال القتبي : تبعه من خلفه ، وأتبعه : أدركه ولحقه ، كقوله : فأتبعوهم مشرقين ، أي : أدركوهم ، فعلى هذا يكون متعديا إلى واحد ، وقد يكون أتبع متعديا إلى اثنين ، كما قال تعالى : واتبعتهم ذريتهم بإيمان فيقدر هذا : فأتبعه الشيطان خطواته ، أي : جعله الشيطان يتبع خطواته فتكون الهمزة فيه للتعدي ; إذ أصله تبع هو خطوات الشيطان ، وقرأ طلحة بخلاف ، والحسن فيما روى عنه هارون : فاتبعه ، مشددا بمعنى تبعه ، قال صاحب كتاب اللوامح : بينهما فرق ، وهو أن تبعه إذا مشى في أثره ، واتبعه إذا واراه مشيا ، فأما فأتبعه بقطع الهمزة فمما يتعدى إلى مفعولين ; لأنه منقول من تبعه ، وقد حذف في العامة أحد المفعولين ; وقيل : فأتبعه بمعنى استتبعه ، أي : جعله له تابعا فصار له مطيعا سامعا ; وقيل : معناه : تبعه شياطين الإنس أهل الكفر والضلال ، فكان من الغاوين ، يحتمل أن تكون كان باقية الدلالة على مضمون الجملة واقعا في الزمان الماضي ، ويحتمل أن تكون كان بمعنى صار ، أي : صار من الضالين الكافرين ، قال مقاتل : من الضالين ، وقال : من الهالكين الفاسدين . الزجاج
ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه ، أي : ولو أردنا أن نشرفه ونرفع قدره بما آتيناه من الآيات لفعلنا ، ولكنه أخلد إلى الأرض ، أي : ترامى إلى شهوات الدنيا ورغب فيها ، واتبع ما هو ناشئ عن الهوى ، وجاء الاستدراك هنا تنبيها على السبب الذي لأجله لم يرفع ولم يشرف ، كما فعل بغيره ممن أوتي الهدى فآثره وأتبعه ، وأخلد معناه : رمى بنفسه إلى الأرض ، أي : إلى ما فيها من الملاذ والشهوات ، قال معناه ابن عباس ومجاهد والسدي ، ويحتمل أن يريد بقوله : أخلد إلى الأرض ، أي : مال إلى السفاهة والرذالة ، كما يقال : فلان في الحضيض عبارة عن انحطاط قدره بانسلاخه من الآيات ، قال معناه الكرماني . قال : غلب على عقله هواه فاختار دنياه على آخرته ، وقال قوم : معناه لرفعناه بها لأخذناه ، كما تقول : رفع الظالم إذا هلك ، والضمير في بها عائد على المعصية في الانسلاخ ، وابتدئ وصف حاله بقوله : ولكنه أخلد ، وقال أبو روق لرفعناه لتوفيناه قبل أن يقع في المعصية ورفعناه عنها ، والضمير للآيات ، ثم ابتدئ وصف حاله ، والتفسير الأول أظهر ، وهو مروي عن ابن أبي نجيح وجماعة ولم يذكر ابن عباس غيره ، وهو الذي يقتضيه الاستدراك ; لأنه على قول الإهلاك بالمعصية أو التوفي قبل الوقوع فيها لا يصح معنى الاستدراك ، والضمير في لرفعناه في هذه الأقوال عائد على الذي أوتي الآيات ، وإن اختلفوا في الضمير في بها على ما يعود ، وقال قوم : الضمير في لرفعناه على الكفر المفهوم مما سبق ، وفي بها عائد على الآيات ، أي : ولو شئنا لرفعنا الكفر بالآيات ، وهذا المعنى روي عن الزمخشري مجاهد ، وفيه [ ص: 424 ] بعد وتكلف ، قال : ( فإن قلت ) : كيف علق رفعه بمشيئة الله تعالى ولم يعلق بفعله الذي يستحق به الرفع ؟ ( قلت ) : المعنى ولو لزم العمل بالآيات ولم ينسلخ منها لرفعناه بها ، وذلك أن مشيئة الله تعالى رفعه تابعة للزومه الآيات ، فذكر المشيئة والمراد ما هي تابعة له ومسببة عنه ، كأنه قيل : ولو لزمها لرفعناه بها ، ألا ترى إلى قوله : الزمخشري ولكنه أخلد إلى الأرض فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله ، فوجب أن يكون ولو شئنا في معنى ما هو فعله ، ولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال : ولو شئنا لرفعناه ولكنا لم نشأ ، انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال .
فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ، أي : فصفته إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها وإن تركته لم يحملها ، كصفة الكلب إن كان مطرودا لهث وإن كان رابضا لهث ، قاله ; وقيل : شبه المتهالك على الدنيا في قلقه واضطرابه على تحصيلها ولزومه ذلك بالكلب في حالته هذه التي هي ملازمة له حالة تهييجه وتركه ، وهي كونه لا يزال لاهثا وهي أخس أحواله وأرذلها ، كما أن المتهالك على الدنيا لا يزال تعبا قلقا في تحصيلها قال ابن عباس الحسن : هو مثل المنافق لا ينيب إلى الحق دعي أو لم يدع ، أعطي أو لم يعط ، كالكلب يلهث طردا وتركا ، انتهى ، وفي كتاب الحيوان دلت الآية على أن الكلب أخس الحيوان وأذله لضرب الخسة في المثل به في أخس أحواله ، ولو كان في جنس الحيوان ما هو أخس من الكلب ما ضرب المثل إلا به ، قال ابن عطية : وقال الجمهور : إنما شبه في أنه كان ضالا قبل أن يؤتى الآيات ، ثم أوتيها أيضا ضالا لم تنفعه ، فهو كالكلب في أنه لا يفارق اللهث في حال حمل المشقة عليه ، أو تركه دون حمل عليه ، وقال وغيره : هذا الرجل خرج لسانه على صدره وجعل يلهث ، كما يلهث الكلب ، وقال السدي : وكان حق الكلام أن يقال : ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض فحططناه ووضعنا منزلته ، فوقع قوله : فمثله كمثل الكلب موقع فحططناه أبلغ حط ; لأن تمثيله بالكلب في أخس أحواله وأرذلها في معنى ذلك ، انتهى ، وفي قوله : وكان حق الكلام إلى آخره سوء أدب على كلام الله تعالى ، وأما قوله : فوقع قوله : الزمخشري فمثله إلى آخره ، فليس واقعا موقع ما ذكر ، لكن قوله : ولكنه أخلد إلى الأرض وقع موقع فحططناه إلا أنه لما ذكر الإحسان إليه أسند ذلك إلى ذاته الشريفة ، فقال : آتيناه آياتنا ولو شئنا لرفعناه بها ، ولما ذكر ما هو في حق الشخص إساءة أسنده إليه فقال : فانسلخ منها ، وقال : ولكنه أخلد إلى الأرض ، والله تعالى في الحقيقة هو الذي سلخه من الآيات وأخلده إلى الأرض ، فجاء على حد قوله : فأردت أن أعيبها ، وقوله : فأراد ربك أن يبلغا في نسبة ما كان حسنا إلى الله ونسبة ما كان بخلافه إلى الشخص ، وهذه الجملة الشرطية في موضع الحال ، أي : لاهثا في الحالتين ، قاله الزمخشري وأبو البقاء ، وقال بعض شراح كتاب المصباح : وأما الشرطية فلا تكاد تقع بتمامها موضع الحال ، فلا يقال : جاءني زيد إن يسأل يعط ، على الحال ، بل لو أريد ذلك لجعلت الجملة الشرطية خبرا عن ضمير ما أريد الحال عنه ، نحو : جاء زيد هو وإن يسأل يعط ، فيكون الواقع موقع الحال هو الجملة الاسمية لا الشرطية ، نعم قد أوقعوا الجمل المصدرة بحرف الشرط موقع الحال ولكن بعد ما أخرجوها عن حقيقة الشرط ، وتلك الجملة لم تخل من أن يعطف عليها ما يناقضها أو لم يعطف ، والأول ترك الواو مستمر فيه ، نحو : أتيتك إن أتيتني وإن لم تأتني ; إذ لا يخفى أن النقيضين من الشرطين في مثل هذا الموضع لا يبقيان على معنى الشرط ، بل يتحولان إلى معنى التسوية كالاستفهامين المتناقضين في قوله : أأنذرتهم أم لم تنذرهم ، وأما الثاني فلا بد من الواو ، نحو : أتيتك وإن لم تأتني ، ولو [ ص: 425 ] ترك الواو لالتبس بالشرط حقيقة ، انتهى ، فقوله : إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث من قبيل الأول ; لأن الحمل عليه والترك نقيضان .
ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا ، أي : ذلك الوصف وصف الذين كذبوا بآياتنا ، صفته كصفة الكلب لاهثا في الحالتين ، فكما شبه وصف المؤتى الآيات المنسلخ منها بالكلب في أخس حالاته كذلك شبه به المكذبون بالآيات ; حيث أوتوها وجاءتهم واضحات تقتضي التصديق بها فقابلوها بالتكذيب وانسلخوا منها ، واحتمل ذلك أن يكون إشارة لمثل المنسلخ وأن يكون إشارة لوصف الكلب ، واحتمل أن تكون أداة التشبيه محذوفة من ذلك ، أي : صفة ذلك صفة الذين كذبوا ، واحتمل أن تكون محذوفة من مثل القوم ، أي : ذلك الوصف وصف المنسلخ ، أو وصف الكلب كمثل الذين كذبوا بآياتنا ، ويكون أبلغ في ذم المكذبين ; حيث جعلوا أصلا وشبه بهم ، قال ابن عطية : أي : هذا المثل يا محمد ، مثل هؤلاء القوم الذين كانوا ضالين قبل أن تأتيهم بالهدى والرسالة ، ثم جئتهم بذلك فبقوا على ضلالهم ولم ينتفعوا بذلك ، فمثلهم كمثل الكلب ، وقال : الزمخشري كذبوا بآياتنا من اليهود بعدما قرأوا بعثة رسول الله في التوراة ، وذكر القرآن المعجز وما فيه وبشروا الناس باقتراب مبعثه وكانوا يستفتحون به ، وقال : يريد كفار ابن عباس مكة لأنهم كانوا يتمنون هاديا يهديهم وداعيا يدعوهم إلى طاعة الله ، ثم جاءهم من لا يشك في صدقه وديانته ونبوته فكذبوه ، فحصل التمثيل بينهم وبين الكلب الذي إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ; لأنهم لم يهتدوا لما تركوا ولم يهتدوا لما جاءهم الرسول فبقوا على الضلال في كل الأحوال ، مثل الكلب الذي يلهث على كل حال ، انتهى وتلخص ، أهؤلاء القوم المكذبون بالآيات عام أم خاص باليهود أم بكفار مكة ؟ أقوال ثلاثة ، والأظهر : العموم .