وقال الجبائي : هذه الآية تدل على أن لا يخلو زمان ألبتة ممن يقوم بالحق ويعمل به ويهدي إليه ، وأنهم لا يجتمعون في شيء من الأزمنة على الباطل ، انتهى ، والآية لا تدل على ما زعم الجبائي ، وما قاله مخالف لما روي من أنه ، لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق ولا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض : الله الله ، ولا تقوم الساعة حتى يسرى على كتاب الله فلا يبقى منه حرف ، أو كما قال : والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون قال : سنطوي أعمارهم في اغترار منهم ، وقال الخليل بن أحمد أبو عبيدة : الاستدراج أن تدرج إلى الشيء في خفية قليلا قليلا ، ولا تهجم عليه ، وأصله من الدرجة ، وذلك أن الراقي والنازل يرقى وينزل مرقاة مرقاة ، ومنه درج الكتاب طواه شيئا بعد شيء ، ودرج القوم ماتوا بعضهم في إثر بعض ، وقال ابن قتيبة : هو أن يذيقهم من بأسه قليلا قليلا من حيث لا يعلمون ، ولا يتابعهم به ولا [ ص: 431 ] يجاهرهم ، وقال الأزهري : سنأخذهم قليلا قليلا من حيث لا يحتسبون ، وذلك أن الله تعالى يفتح بابا من النعمة يغتبطون به ويركنون إليه ، ثم يأخذهم على غرتهم أغفل ما يكون ، انتهى ، ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه ، والمعنى : سنسترقهم شيئا بعد شيء ودرجة بعد درجة بالنعم عليهم والإمهال لهم حتى يغتروا ويظنوا أنهم لا ينالهم عقاب ، وقال الجبائي سنستدرجهم إلى العقوبات حتى يقعوا فيها من حيث لا يعلمون استدراجا لهم إلى ذلك فيجوز أن يكون هذا العذاب في الدنيا كالقتل ، ويجوز أن يكون عذاب الآخرة ، وقال : ومعنى : الزمخشري سنستدرجهم سنستدينهم قليلا قليلا إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم ، وذلك أن يواتر الله نعمة عليهم مع انهماكهم في الغي ، فكلما جدد عليهم نعمة ازدادوا بطرا وجددوا معصية فيتدرجون في المعاصي بسبب ترادف النعم ظانين أن مواترة النعم أثرة من الله وتقريب ، وإنما هي خذلان منه وتبعيد ، فهذا استدراج الله - نعوذ بالله تعالى منه - من حيث لا يعلمون ، قيل : بالاستدراج ; وقيل : بالهلاك ، وقرأ النخعي وابن وثاب : سيستدرجهم ، بالياء فاحتمل أن يكون من باب الالتفات ، واحتمل أن يكون الفاعل ضمير التكذيب المفهوم من كذبوا ، أي : سيستدرجهم هو ، أي : التكذيب ، قال الأعشى : في الاستدراج :
فلو كنت في جب ثمانين قامة ورقيت أسباب السماء بسلم ليستدرجنك القول حتى تهزه
وتعلم أني عنكم غير مفحم
وأملي لهم إن كيدي متين معطوف على سنستدرجهم ، فهو داخل في الاستقبال ، وهو خروج من ضمير التكلم بنون العظمة إلى ضمير تكلم المفرد ، والمعنى : أؤخرهم ملاوة من الدهر ، أي : مدة فيها طول ، والملاوة بفتح الميم وضمها وكسرها ، ومنه : واهجرني مليا ، أي : طويلا ، وسمى فعله ذلك بهم كيدا ; لأنه شبيه بالكيد من حيث أنه في الظاهر إحسان ، وفي الحقيقة خذلان ، قال : يريد إن مكري شديد ; وقيل : إن عذابي وسماه كيدا لنزوله بالعباد من حيث لا يشعرون والمتين من كل شيء القوي يقال : متن متانة ، وهذا إخبار عن المكذبين عموما ; وقيل : نزلت في المستهزئين من قريش ؛ قتلهم الله في ليلة واحدة بعد أن أمهلهم مدة ، وقرأ ابن عباس عبد الحميد عن ابن عامر أن كيدي بفتح الهمزة على معنى لأجل أن كيدي ، وقرأ الجمهور بكسرها على الاستئناف .