ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء أي : لكانت حالي على خلاف ما هي عليه من استكثار الخير واستغزار المنافع واجتناب السوء والمضار ، حتى لا يمسني شيء منها ، وظاهر قوله : ولو كنت أعلم الغيب انتفاء العلم عن الغيب على جهة عموم الغيب ، كما روي عنه لا أعلم ما وراء هذا الجدار إلا أن يعلمنيه ربي ، بخلاف ما يذهب إليه هؤلاء الذين يدعون الكشف ، وأنهم بتصفية نفوسهم يحصل لها اطلاع على المغيبات وإخبار بالكوائن التي تحدث ، وما أكثر ادعاء الناس لهذا الأمر وخصوصا في ديار مصر ، حتى إنهم لينسبون ذلك إلى رجل متضمخ بالنجاسة يظل دهره لا يصلي ولا يستنجي من نجاسته ويكشف عورته للناس حين يبول ، وهو عار من العلم والعمل الصالح ، وقد خصص قوم هذا العموم ، فحكى عن مكي : لو كنت أعلم السنة المجدبة لأعددت لها من المخصبة ، وقال قوم : أوقات النصر لتوخيتها ، وقال ابن عباس مجاهد : لو كنت أعلم أجلي لاستكثرت من العمل الصالح ; وقيل : ولو كنت أعلم وقت الساعة لأخبرتكم حتى توقنوا ; وقيل : ولو كنت أعلم الكتب المنزلة لاستكثرت من الوحي ; وقيل : ولو كنت أعلم ما يريده الله مني قبل أن يعرفنيه لفعلته ، وينبغي أن تجعل هذه الأقوال وما أشبهها مثلا لا تخصيصات لعموم الغيب ، والظاهر أن قوله : وابن جريج وما مسني السوء معطوف على قوله : لاستكثرت من الخير ، فهو من جواب لو ، ويوضح ذلك أنه تقدم قوله : قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا فقابل النفع بقوله : لاستكثرت من الخير ، وقابل الضر بقوله : وما مسني السوء ولأن المترتب على [ ص: 437 ] تقدير علم الغيب كلاهما ، وهما اجتلاب النفع واجتناب الضر ، ولم نصحب ما النافية جواب لو ; لأن الفصيح أن لا يصحبهما ، كما في قوله تعالى : ولو سمعوا ما استجابوا لكم ، والظاهر عموم الخبر وعدم تعيين السوء ; وقيل : السوء تكذيبهم له مع أنه كان يدعى الأمين ; وقيل : الجدب ; وقيل : الموت ; وقيل : الغلبة عند اللقاء ; وقيل : الخسارة في التجارة ، وقال : الفقر وينبغي أن تجعل هذه الأقوال خرجت على سبيل التمثيل لا الحصر ، فإن الظاهر في الغيب - الخير والسوء - عدم التعيين ; وقيل : ثم الكلام عند قوله : لاستكثرت من الخير ، ثم أخبر أنه ما مسه السوء ، وهو الجنون الذي رموه به ، وقال مؤرج السدوسي : السوء الجنون بلغة هذيل ، وهذا القول فيه تفكيك لنظم الكلام واقتصار على أن يكون جواب لو لاستكثرت من الخير فقط ، وتقدير حصول علم الغيب يترتب عليه الأمران لا أحدهما فيكون إذ ذاك جوابا قاصرا . ابن عباس
إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون لما نفى عن نفسه علم الغيب أخبر بما بعث به من النذارة ، ومتعلقها المخوفات ، والبشارة ، ومتعلقها المحبوبات ، والظاهر تعلقهما بالمؤمنين ; لأن منفعتهما معا وجدواهما لا يحصل إلا لهم ، وقال تعالى : وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون وقيل : معنى لقوم يؤمنون يطلب منهم الإيمان ويدعون إليه ، وهؤلاء الناس أجمع ; وقيل : أخبر أنه نذير وتم الكلام ، ومعناه أنه نذير للعالم كلهم ، ثم أخبر أنه بشير للمؤمنين به ، فهو وعد لمن حصل له الإيمان ; وقيل : حذف متعلق النذارة ودل على حذفه إثبات مقابله ، والتقدير : نذير للكافرين وبشير لقوم يؤمنون ، كما حذف المعطوف في قوله : سرابيل تقيكم الحر ، أي : والبرد وبدأ بالنذارة ; لأن السائلين عن الساعة كانوا كفارا ، إما مشركو قريش وإما اليهود ، فكان الاهتمام بذكر الوصف من قوله : إن أنا إلا نذير آكد وأولى بالتقديم ، والله تعالى أعلم .