إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين استغاث : طلب الغوث ، لما علموا أنه لا بد من القتال شرعوا في طلب الغوث من الله تعالى والدعاء بالنصرة ، والظاهر أنه خطاب لمن خوطب بقوله : وإذ يعدكم وتودون ، وأن الخطاب في قوله : كما أخرجك ، ويجادلونك ، هو خطاب للرسول ، ولذلك أفرد ، فالخطابان مختلفان ; وقيل : المستغيث هو النبي صلى الله عليه وسلم ، وروي عن أنه قال : حدثني ابن عباس رضي الله عنه قال : عمر بن الخطاب بدر نظر إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف ، وإلى المشركين وهم [ ص: 465 ] ألف ، فاستقبل القبلة ومد يده وهو يقول : اللهم أنجزني ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصبة لا تعبد في الأرض ، ولم يزل كذلك حتى سقط رداؤه ، فرده أبو بكر رضي الله عنه : كفاك يا رسول الله مناشدتك الله فإنه سينجز لك ما وعدك ، قالوا : فيكون من خطاب الواحد المعظم خطاب الجميع ، وروي أن لما كان يوم أبا جهل عندما اصطف القوم قال : اللهم أولانا بالحق فانصره ، وإذ بدل من إذ يعدكم ، قاله الزمخشري وابن عطية ، وكان قد قدم أن العامل في إذ يعدكم اذكر ، وقال : هي متعلقة بيحق ويبطل ، وأجاز هو الطبري والحوفي أن تكون منصوبة بيعدكم ، وأجاز الحوفي أن تكون مستأنفة على إضمار واذكروا ، وأجاز أبو البقاء أن تكون ظرفا لتودون ، واستغاث يتعدى بنفسه ، كما هو في الآية ، ويتعدى بحرف جر ، كما جاء في لفظ سيبويه في باب الاستغاثة ، وفي باب ابن مالك في النحو المستغاث ، ولا يقول : المستغاث به ، وكأنه لما رآه في القرآن تعدى بنفسه قال : المستغاث ، ولم يعده بالباء كما عداه سيبويه والنحويون ، وزعم أن كلام العرب بخلاف ذلك ، وكلامه مسموع من كلام العرب فما جاء معدى بالباء قول الشاعر :
حتى استغاث بماء لا رشاء له من الأباطح في حاجاته البرك مكلل بأصول النبت تنسجه
ريح حريق لضاحي مائه حبك كما استغاث بشيء قبر عنطلة
خاف العيون ولم ينظر به الحشك
وقرأ الجمهور : أني ، بفتح ، أي : بأني ، وعيسى بن عمر رواها عن أبي عمرو : وإني ، بكسرها على إضمار القول على مذهب البصريين ، أو على الحكاية باستجاب لإجرائه مجرى الفعل ; إذ سوى في معناه ، وتقدم الكلام في شرح استجاب . وقرأ الجمهور بألف على التوحيد ، والجحدري بآلف على وزن أفلس ، وعنه وعن السدي بآلاف ، والجمع بين الإفراد والجمع ، أن يحمل الإفراد على من قاتل منهم ، أو على الوجوه الذين من سواهم أتباع لهم ; وقرأ نافع وجماعة من أهل المدينة وغيرهم مردفين بفتح الدال ، وباقي السبعة والحسن ومجاهد بكسرها ، أي : متابعا بعضهم بعضا ، وروي عن : خلف كل ملك ملك وراءه . وقرأ بعض المكيين فيما روى عنه ابن عباس ، وحكاه عن الخليل بن أحمد ابن عطية : مردفين ، بفتح الراء وكسر الدال مشددة أصله مرتدفين فأدغم ; وقال أبو الفضل الرازي : وقد يجوز فتح الراء فرارا إلى أخف الحركات ، أو لثقل حركة التاء إلى الراء عند الإدغام ، ولا يعرف فيه أثرا انتهى . وروي عن الخليل أنه يضم الراء إتباعا لحركة الميم لقولهم : مخضم ; وقرئ كذلك إلا أنه بكسر الراء إتباعا لحركة الدال ، أو حركت بالكسر على أصل التقاء الساكنين ; قال ابن عطية : ويحسن مع هذه القراءة كسر الميم ، ولا أحفظه قراءة ، كقولهم : مخضم ، وتقدم الكلام في عدد الملائكة وهل قاتلت أم لم تقاتل في آل عمران ولم تتعرض الآية لقتالهم ، والظاهر أن قراءة من قرأ مردفين بسكون الراء وفتح الدال أنه صفة لقوله : بألف ، أي : أردف بعضهم لبعض ; قال ابن عطية : ويحتمل أن يراد بالمردفين المؤمنين ، أي : أردفوا بالملائكة ، فمردفين على هذا حال من الضمير ، قال : وأردفته إياه إذا أتبعته ، ويقال : أردفته ، كقولك : أتبعته إذا جئت بعده ، فلا يخلو المكسور الدال أن يكون بمعنى متبعين أو متبعين ، فإن [ ص: 466 ] كان بمعنى متبعين فلا يخلو أن يكون بمعنى متبعين بعضهم بعضا ، أو متبعين بعضهم لبعض ، أو بمعنى متبعين إياهم المؤمنون ، أي : يتقدمونهم فيتبعونهم أنفسهم ، أو متبعين لهم يشيعوهم ويقدمونهم بين أيديهم وهم على ساقتهم ليكونوا على أعينهم وحفظهم ، أو بمعنى متبعين أنفسهم ملائكة آخرين ، أو متبعين غيرهم من الملائكة ، ويعضد هذا الوجه قوله تعالى في سورة آل عمران : الزمخشري بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ، بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ، انتهى . وهذا تكثير في الكلام ، وملخصه أن اتبع مشددا يتعدى إلى واحد ، وأتبع مخففا يتعدى إلى اثنين ، وأردف أتى بمعناهما ، والمفعول لـ ( تبع ) محذوف والمفعولان لـ ( تبع ) محذوفان ، فيقدر ما يصح به المعنى ، وقوله : أو متبعين إياهم المؤمنين ، هذا ليس من مواضع فصل الضمير ، بل مما يتصل وتحذف له النون ، لا يقال : هؤلاء كاسون إياك ثوبا ، بل يقال : كاسوك ، فتصحيحه أن يقول : أو بمعنى متبعيهم المؤمنين ، أو يقول : أو بمعنى متبعين أنفسهم المؤمنين .