الولاية الثانية : الوزارة . قال ابن بشير : يجوز التفويض في جميع الأمور إلى وزير ، ويختص عن الخليفة بثلاثة أشياء : لا يعهد لمن يشاء أن يستعفى من الإمامة ، ولا يعزل من قلده الإمام ، وأصلها قوله تعالى : ( واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري ) قال الماوردي : الوزارة قسمان ، وزارة تفويض ، ووزارة تنفيذ ، فالأول من جعل له الاجتهاد في الأمور إلا النسب ، لأن عموم الاجتهاد يحتاج إلى ذلك ، وعقدها بصريح لفظ الخليفة بعموم النظر والنيابة ، فإن اقتصر على عموم النظر فهو ولي عهد ولا وزير ، أو على النيابة فقد أبهم التنفيذ والتفويض فلا تنعقد ، واللفظ المعتبر : قلدتك ما إلي نيابة عني ، ويقول : استوزرتك تعويلا على نيابتك ، فإن قال : نب عني ، احتمل الانعقاد وعدمه ؛ لأنه أمر لا عقد ، مع أنه ليس يراعى في الخلفاء والملوك ما يراعى في غيرهم لاستثقالهم الكلام ، فربما اكتفوا بالإشارة ، [ ص: 30 ] ولقلة مباشرتهم العقود ، وقلدتك وزارتي أو الوزارة ، لا تفيد وزارة التفويض ، حتى يريد ما يستحق به التفويض ، لأن وتشترط فيه شروط الإمامة موسى عليه السلام زاد : ( اشدد به أزري وأشركه في أمري ) قال ابن بشير : الصرائح أربعة : وليتك ، وقلدتك ، واستخلفتك . واستنبتك ، وكنايته سبعة : اعتمدت عليك ، وعولت عليك ، ورددت إليك ، وجعلت ، وفوضت إليك ، ووكلت إليك ، وأسندت إليك ، فتحتاج هذه لما ينفي عنها الاحتمال ، قال الماوردي : وعلى هذا الوزير مطالعة الإمام بما تصرف ، لئلا يكون إماما ، وعلى الإمام تصفح تصرفاته ؛ لأنه من جملة رعيته ، ويجوز له مباشرة الجهاد ، وولاية الحكام ، وغير ذلك ، وله الاستنابة في ذلك ، لأن شروط جميع ذلك مشترطة في أهليته ، ، يبلغ ما دبره الإمام ويعرض عليها ما حدث من الأمور ، ولا يفتقر إلى تقليد بل الإذن ، ولا يشترط فيه الحرية ولا العلم ، لأنه يتصرف ، بل مبلغ ، بل اشترط فيه سبعة أوصاف : ووزير التنفيذ هو الذي ينفذ ما دبره الإمام ، فهو واسطة بين الإمام والرعية . الأمانة . والصدق ، وقلة الطمع ، وعدم العداوة بينه وبين الناس ، والذكورة ، والفطنة ، فإن شارك في الرأي اشترطت فيه الحكمة ، والتجربة ، ومعرفة العواقب ، ويجوز أن يكون ذميا ، ويجوز أن يكون اثنين على الاجتماع والافتراق ، بخلاف وزير التفويض ، لأن عموم النظر يمنع من ذلك كإمامين ، ويجوز مع وزير التفويض وزير تنفيذ ، ويجوز لوزير التفويض الاستنابة عنه بخلاف الآخر . وإذا [ ص: 31 ] فوضت الأقاليم إلى ولاتها - كأهل زماننا - جاز لكل ملك أن يوزر كالخليفة في الشروط المتقدمة . وأن لا يكون مبتدعا
فائدة ، في اشتقاق الوزير ثلاثة أوجه : من الوزر بتحريك الزاي المنقوطة ، وهو الملجأ ، ومنه قوله تعالى : ( كلا لا وزر ) وملك يلجأ إليه ، أو من الأزر لقوله تعالى : ( اشدد به أزرى ) أو من الوزر وهو الظهر ، لأنه يقوى بالوزير كقوة البدن بالظهر .
الإمارة الثالثة : الإمارة على البلاد ، قال الماوردي : هي عامة وخاصة ، فالعامة استكفاء واستيلاء . فالاستكفاء ما عقد على اختيار . والاستيلاء ما عقد عن اضطرار ، فيفوض في الاستكفاء النظر في بلد أو إقليم في جملة ما يتعلق به ، وتتعين فيه شروط وزارة التفويض لعموم النظر في ذلك العام ، ولفظه : قلدتك ناحية كذا إمارة على أهلها ، ونظرا في جميع ما يتعلق بها ، وللوزير تصفح الأمر ، وللأمير أن يستوزر وزير تفويض بإذن الخليفة ، ولا ينعزل الأمير بموت الخليفة بخلاف الوزير ، لأنه نائب الخليفة ، والأمير نائب المسلمين وهم باقون . والإمارة الخاصة ، هي تدبير الجيوش ، وسياسة الرعية ، وحماية البيضة ، والذب عن الحريم ، فليس له التعرض للقضاء والأحكام وجباية الخراج ، والزكاة ، ولا إقامة حد فيه خلاف للعلماء ، ولا ما يحتاج فيه إلى بينة لأجل المنازعة ؛ لأنها من الأحكام الخارجة عن ولايته ، وغيره من الحدود التي هي حق لله ، فهو أولى بها من الحاكم ؛ لأنه به إليه قانون السياسة العامة ، وهو [ ص: 32 ] أحق بإمامة الجمع والأعياد من القضاة عند ( ش ) ، والقضاة عند ( ح ) لأنهم أهل العلم ، ويعتبر في شروط هذه الإمارة شروط ولاية التنفيذ ، وشرطان : الإسلام والحرية لما تضمنتها من الولاية على أمور دينية ، وليس على هذين الأميرين مطالعة الخليفة بما أمضياه ، إلا أن يحدث غير معهود .
وإمارة الاستيلاء : أن يستولي الأمير بقوته وقهره على بلاد فيفوض إليه . فهو متصرف استيلائه ، والخليفة منفذ لذلك ليخرج عن الفساد وعن الحظر للإباحة ، ويجب هذا التنفيذ لما فيه من المصالح الدينية ، وإقامة حرمة الإمامة ، وظهور الطاعة ، واجتماع الكلمة ، فإن لم يكن فيه شروط الاختيار فيقلد لدفع فساد العناد ، وليس له أن يوزر ويفوض .