الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                المسألة العاشرة : في النوادر : إذا شهدت أنه غصبه إياها ، وشهدت أخرى أن هذا الحائز أقر أنك أودعته إياه ، قدمت بينة الغصب ؛ لأنها تقضي سبق يده ، قاله أشهب ، فإن ادعيت الشراء منه ، وأن بينة الغصب حضرت الشراء وشهدت عليه : قال سحنون : تقدم بينة الشراء لأنها ناقلة ، فإن كان المشتري من أهل الحوز ، فإن أقام بينة على صحة شرائه ، وإلا فسخ بعد يمين مدعي الغصب على إبطال الشراء ، قال ابن القاسم : وإذا شهدت أنك أعتقته ، ولا يعلمون له وارثا غيرك ، دفع إليك ميراثه بغير كفيل ، فإن جاء آخر بعدك بمثل ذلك نظر في حجته ، قال أشهب : ومن حجته أن ينظر من أعتق أولا فيقضى له ، وإن كانت بينة الآخر أعدل الشكل السابق قدم الأعدل ، قال عبد الملك : فإن استووا سقطوا وصار مالا وولاء بغير شهادة يقر بيد من هو بيده ، وإذا شهدت بأرض ذات نخل أنها ملكه وغرست نخلها ، وشهدت أخرى لمن هي بيده بذلك ، قضي بأعدلهما ، فإن استوتا ولم يوقتا أو وقتا وقتا واحدا بطلت شهادتهما في غرس النخل لتكافئهما ، وإن وقتا وقتا بطلت الشهادة في الأرض خاصة أيضا ، وإن [ ص: 193 ] وقتتا وقتا مختلفا قضي بالأرض لأولهما وقتا إلا أن يكون الآخر حاز عليه حيازة تقطع الدعوى فيقضى له بالحيازة ، وإن وقتت إحداهما قضي بالأرض لصاحب المؤقتة ، وإن كانت في يد من لم يوقت ببينة ، وقيل لمستحق الأرض : ادفع لرب النخل قيمتها الساعة قائمة ، وإلا أعطاك قيمة أرضك براحا ، فإن امتنعا كانا شريكين بقيمة الأرض بيضاء ، وقيمة النخل يوم الحكم ، فإن كان فيهما غير النخل : قطن ، قضي بالأرض والقطن لأعدلهما . فإن استوتا فلمن هي بيده قضي للحالف ، قال ابن عبدوس عن سحنون : إنما خالفت مسألة الأمة وأمها مسألة الأرض والغرس في التوقيت ؛ لأن الأمة إذا ولدت في ملكه فالولد له ، وقد يغرس فيما هو لغيرك ، قال : وينبغي في مسألة الأرض والغرس : إذا سقطت في الغرس أن تسقط في الأرض ؛ لأنها شهادة واحدة سقطت .

                                                                                                                تمهيد : تقدم أن بينة صاحب اليد أولى عند التساوي أو هي أعدل ، سواء كانت الدعوى والشهادة بمطلق الملك أو بمضاف إلى سبب ، نحو : هو ملكي نسجته ، أو ولدت الدابة عندي في ملكي ، كان السبب المضاف إليه الملك يتكرر في الملك كنسج الخز وغرس النخل أم لا ، وقاله ( ش ) وقال ابن حنبل : بينة الخارج أولى ، ولا تقبل بينة المدعى عليه أصلا ، قال ( ح ) : تقدم بينة الخارج إن ادعى مطلق الملك وإن كان مضافا إلى سبب يتكرر ، وادعاه كلاهما فكذلك ، أو لا يتكرر كالولادة وادعياه وشهدت البينة به فقالت كل بينة ، وله على ملكه قدمت صاحب اليد ، لنا على ابن حنبل : ما روي عن رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ أنه تحاكم إليه رجلان في دابة ، وأقام كل واحد [ ص: 194 ] البينة أنها له فقضى بها رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ لصاحب اليد ؛ ولأن اليد [ . . . ] ولنا على ( ح ) ما تقدم ، والقياس على المضاف إلى سبب لا يتكرر ، احتجوا بأن رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ قال ( البينة على من ادعى واليمين على من أنكر ) وهو يقضي صنفين من [ . . . ] اليمين حجته فبينته غير مشروعة فلا تسمع كما أن [ . . . ] أو لأنها لا تعارض في سبب لا يتكرر كالولادة ، شهدت هذه بالولادة ، والأخرى [ . . . ] فسقطتا فبقيت اليد ، فلم يحكم له بالبينة ، أما ما يتكرر له تعين السبب مهم ، بعد بينة إلا ما أفادته يده فسقطت لعدم الفائدة ؛ ولأن صاحب اليد إذا لم تقم للطالب بينة لا تسمع بينته ، وإن لم تسمع في هذه الحالة - وهي أحسن حالتيه - فكيف إذا أقام الطالب بينة ؟ لا تسمع بطريق الأولى ، فإنه في هذه الحالة أضعف ؛ ولأنا إنما أعملنا بينة في صورة النتاج ؛ لأن دعواه إفادة الولادة ولم تعدها يده ، وشهدت البينة بذلك ، فأفادت البينة غير ما أفادت اليد فقبلت .

                                                                                                                الجواب عن الأول : القول بالموجب ، فإن الحديث جعل بينة المدعي عليه ، وأنتم تقولون : له فيتعين أن يكون المراد بها بينة ذي اليد ؛ لأنها هي التي عليه ، سلمنا عدم القول بالموجب ، لكن المدعي إن فسر بالطالب ، فصاحب اليد طالب لنفسه ، فتكون البينة مشروعة في حقه ، وإن فسرنا ضعف المتداعيين سببا فالخارج لما أقام بينته ، صار الداخل أضعف فوجب أن يكون مدعيا تشرع البينة في حقه ، سلمنا دلالته ، لكنه معارض بقوله ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) والعدل : التسوية في كل شيء حتى يقوم المخصص فلا تسمع بينة أحدهما دون الآخر ، وبقوله _ صلى الله عليه وسلم _ لعلي [ ص: 195 ] _ رضي الله عنه _ : ( لا تقض لأحدهما حتى تسمع من الآخر ) وهو يفيد وجوب الاستماع منهما ، وإن من قويت حجته حكم بها ، وأنتم تقولون : لا يسمع بينة الداخل .

                                                                                                                وعن الثاني : أنه ينتقض بما إذا تعارضتا في دعوى طعام ادعيتما زراعته ، وشهدتا بذلك ، والزرع لا يزرع مرتين كالولادة ، ولم يحكموا به لصاحب اليد ، وبالملك المطلق في المال لاستحالة ثبوته لكما في الحال ؛ ولأنه لو حكم له باليد دون البينة لما حكم له إلا باليمين ؛ لأنه شأن اليد المنفردة ، ولما لم يحتج اليمين علم بأنه إنما حكم له بالبينة ، ولأنه لما حكم له حيث كذبت بينته أولى أن تحكم له إذا لم تكذب بينته ؛ ولأن اليد أضعف من البينة ، بدليل أن اليد لا يقضى بها إلا باليمين ، ويقضى بالبينة من غير يمين ، ولو أقام الخارج بينة قدمت على يد الداخل إجماعا ، فعلمنا أن البينة تفيد ما لا تفيده اليد .

                                                                                                                وعن الثالث : أنه إنما لم تسمع بينة الداخل عند عدم بينة الخارج ؛ لأنه حينئذ قوي باليد ، والبينة إنما تسمع من الضعيف فوجب سماعها للضعف ، ولم يتحقق إلا عند إقامة الخارج بينة .

                                                                                                                وعن الرابع : أن الدعوى واليد لا تفيد مطلقا شيئا ، وإلا لكان مع المدعى عليه حجج اليد والدعوى والبينة يخيره الحاكم فيها أنه متى أقام كمن شهد له شاهدان ، وشاهد وامرأتان ، خير بينهما وبين اليمين مع أحدهما ، فعلم بأن المفيد إنما هو البينة ، واليد لا تفيد ملكا وإلا لم يحتج معها لليمين كالبينة ، بل تفيد التبعية عنده حتى تقوم البينة ؛ ولأنها لو أفادت وأقام المدعي بينة بأنه اشتراها منه لم يحتج إلى يمين

                                                                                                                تنبيه : خالفنا الأئمة أيضا في الترجيح بزيادة العدالة ، ووافقونا في عدم الترجيح بالعدد . لنا [ . . . ] اعتبرت لما تثيره من الظن في الأعدل أقوى [ ص: 196 ] فيقدم ، كأخبار الآحاد إذا رجح أحدها [ . . . ] بلا عدد فيكون هو المعتبر ، لقوله _ صلى الله عليه وسلم _ : ( أمرنا أن نحكم بالظاهر ) ولأن إلا [ . . . ] في الشهادة أكثر من الروايات ، بدليل جواز العبد والمرأة المنفردة في الرواية دون الشهادة [ . . . ] لما كان الاحتياط مطلوبا أكثر في الشهادة ، وجب أن لا يعدل عن الأعدل ، والظن الأقوى فيها قياسا على [ . . . ] المدرك في هذا الوجه : الاحتياط ، وفي الوجه الأول الجامع إنما هو الظن ، وإذا اختلفت الجوامع في القياسات تعددت ، احتجوا : بأن الشهادة مقررة في الشرع فلا تختلف بزيادة المأخوذ فيه ، فدية الصغير كدية الشريف البطل العالم ؛ ولأن البطل العظيم من الفسقة يحصل من الظن أكثر من الشاهدين ، وهو غير معتبر ، فعلم بأنها تعبد لا يدخلها الاجتهاد ، وكذلك الجمع من النساء والصبيان ، إذا كثروا ؛ ولأنه لو اعتبرت زيادة العدالة - وهي صفة - لاعتبرت زيادة العدد وهي بينات معتبرة إجماعا ، فيكون اعتبارها أولى من الصفة ، ولا يعتبر العدد فلا تعتبر الصفة الضعيفة .

                                                                                                                والجواب عن الأول : أن وصف العدالة مطلوب في الشهادة ، وهو موكول إلى اجتهادنا ، وهو متزايد في نفسه ، فما رجحنا إلا في موضع اجتهاد لا في موضع التقرير .

                                                                                                                وعن الثاني : أنا لا ندعي أن الظن كيفما كان يعتبر ، بل ندعي أن مزيد الظن بعد حصول أصل معتبر ، كما أن قرائن الأحوال لا تثبت بها الأحكام والفتاوى ، وإن حصلت ظنا أكثر من البينات والأقيسة وأخبار الآحاد ؛ لأن [ ص: 197 ] الشرع لم يجعلها مدركا للفتيا والقضاء ، ولما جعل الأخبار والأقيسة مدارك للفتيا دخلها الترجيح إجماعا ، وكذلك هاهنا أصل البينة معتبر لعد العدالة والشروط المخصوصة فاعتبر فيه الترجيح . وعن الثالث : أن الترجيح بالعدد يفضي كثرة النزاع ، وطول الخصومات ، فكما رجح أحدهما بمزيد سعى الآخر وطلب الإمهال ليحصل زيادة بينته فيطول النزاع ، وليس في قدرته أن يجعل بينته أعدل فلا يطول النزاع ، ولأن العدد مقرر بعين ما تقدم ، فامتنع الاجتهاد فيه ، بخلاف وصف العدالة ، وكذلك أنه يختلف باختلاف الأمصار والأعصار ، فعدول زماننا لم يكونوا يقبلون في زمان الصحابة ، وأما العدد فلم تختلف ألبتة مع أنا نلتزم الترجيح بالعدد على أحد القولين عندنا .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية