الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                المسألة الثانية : في الكتاب : إذا تعارضت بينة صاحب اليد مع بينة الطالب . قضي بأعدلهما وإن كانت أقل عددا ، فإن استوتا تساقطتا ، ويقر الشيء بيد حائزه ويحلف ، ولا يقضى بأكثرهما فيساوي رجلان ورجل وامرأتان ، مائة رجل ، وكذلك لو ادعى الدار صاحب اليد ، واثنان بغير يد ، وتكافأت بينة غير ذي اليد سقطتا ، وبقيت بيد صاحب اليد ؛ لأن كل بينة جرحت صاحبتها ، قال غيره : ليس هذا جرحا ، لكن التكافؤ فكأنهما لم يكونا ، وكذلك التكافؤ إذا تداعيا شيئا ليس بأيدهما ، ثم إن رأى الإمام فيما شهدوا به أنه مما يمنعهما منه حتى يأتيا ببينة أعدل فعل ، وإن كان مما ينبغي للإمام أن يقره ويرى أنه لأحدهما قسمه بينهما بعد أيمانهما كما لو لم تشهد لهما بينة ، وإن تنازعا عفوا من الأرض قضي بالأعدل ويحلف صاحبها ، وإن تكافأتا سقطتا وبقيت الأرض كغيرها من [ ص: 179 ] عصر دار المسلمين ، وعن مالك : إن تكافأتا والشيء ليس في أيديهما وهو مما لا يخاف عليه كالعقار ، ترك حتى يأتي أحدهما بأعدل مما أتى به صاحبه ، إلا أن يطول الزمان فيقسم بينهما لئلا يهلك ، وما خشي ما يغيره كالحيوان والعروض والطعام يؤخره قليلا لعل أحدهما يأتي بأثبت مما أتى به الآخر ، فإن لم يأت وخيف عليه قسم ، ولو شهدت بينة في أمة أنها لك ، وشهدت أخرى أنها له ، وولدت عنده ، وليست في يد أحدهما ، قضي فيها لصاحب الولادة ؛ لأنه مرجح ، قال غيره : إذا كانت ببينة الناتج [ . . . ] أن كانت بينة الآخر أعدل ، وليس هذا من التهاتر ، ولكن لما زادت بقدم اليد قدمت ، كما لو شهدت [ . . . ] بشهر والأخرى عام قدمت ، وإن كانت الأخرى أعدل ، ولا ينظر لمن بيده الأمة إلا أن [ . . . ] لآخر [ . . . ] الخدمة [ . . . ] لادعاء لها بحضرة الآخر فهذا يقطع دعواه . وفي التنبيهات : في [ . . . ] اختلفا [ . . . ] السلعة قضي لصاحب اليد بغير يمين ، خلافا لابن القاسم في اليمين ، ومعظم الشيوخ لا يرون على المقضي له بالأرض ببينة الأعدل يمينا ، قال : وأرى إيجاب اليمين عليه في الكتاب ؛ لأنها في غير يده ، واحتيط باليمين لحق بيت مال المسلمين ، ولو كان لهما مالك لم تلزم اليمين .

                                                                                                                قال التونسي : اختلف في الترجيح بكثرة العدد بناء على أنه يزيد على غلبة الظن ، كزيادة العدالة ، أو يفرق بأن الترجيح بالكثرة يفضي إلى طول النزاع بأن يسعى الخصم الآخر في الزيادة فيعدد الأول ويزيد شهودا ويتسلسل الحال ، وليس في قدرته أن يجعل بينة أرجح عدالة ، فلا يتسلسل ، واختلف إذا ساوى شاهد شاهدين في العدالة : قال ابن القاسم : يحلف صاحب الشاهد ويكون شاهده ويمينه كشاهدي الآخر ، وكذلك شاهد وامرأتان تكافئ شاهدين مع [ ص: 180 ] استواء العدالة ؛ لأنها كانت حججا شرعية ، ولم يسو أشهب ؛ لأن اليمين لا يحكم بها في الدماء ، وكذلك المرأتان ، وقال عبد الملك : الحائز لا ينتفع بينة ، لقوله _ صلى الله عليه وسلم _ : ( البينة على من ادعى ) فلم تشرع إلا له ، وصاحب اليد لم يدع ، اختلف في الدار يدعيها ثلاثة هي في يد أحدهم فتكافأت بينتا غير ذي اليد ، فقيل : تخلى لصاحب اليد لتساقط البينتين . وقيل : تقسم بينهما لاتفاق البينتين على إبطال ملك ذي اليد ، واختلف لو أقر بها الحائز لأحدهما ، فعلى مذهب المدونة : إنما له تكون للمقر له ، وعلى الآخر : لا يقبل إقرار ، والترجيح بتقدم التاريخ ليس فيه تكاذب لاحتمال أن يكون متأخر التاريخ غصبا أو اشتري من غاصب ، فلا يزول ملك الأول إلا بيقين إذا حلف أنه ما باع ولا وهب ، وكذلك الترجيح بالنتاج . وعن أشهب : إذا شهدت بأن العبد كان بيدك ، لا تكون أحق حتى تقول ملكك ، قال : وفيه نظر ؛ لأن كونه بيدك يوجب رده إلى يدك حتى تثبت يد قبل يدك ، ولا يبطل ذلك إلا بيقين ، وعن أشهب : لو شهدت بأنها لك ، وشهدت أخرى بأنها ملك خصمك ، قضي له بها ، ولو تقدم تاريخ يدك ، وفيه نظر ، كما تقدم أن يكون معنى كلامه الذي هو شهدت له بالملك اشترى ممن حاز قبلك فيصح ، قال : كذلك أيضا يشكل قوله في الكتاب : لا يعتبر أنها ولدت عنده ؛ لأن يده تقدمت على أمها إلا أن يعلم أن أمها ملك لغيره ، وإن شهدت أنها بنت أمته ، لم يقض له بها لاحتمال أن تكون ولدتها قبل ملك الأم ، إلا أن يقولوا : ولدت عندك .

                                                                                                                وفي الكتاب ابن سحنون : إذا شهدت في التي بيد غيرك أنها ولدت عندك ، لا يقضى لك حتى يقولوا : إنك تملكها ، ويحلف لك : ما أعلم لك فيها حقا ، ولو [ ص: 181 ] شهدوا بنسيج الثوب ولم يقولوا : لك لم يقض به بل بقيمة النسج ، ويحلف : ما نسجته ملكا ، قال : وهذه المسائل تخالف الأصول المعروفة ، لأن الحيازات لها أثر فيرجح بها ، أما لو شهدت كلتاهما بالنسج أو الولادة عندكما كان تكاذبا يقضى بالأعدل ، لو كان مما يمكن أن ينسج مرتين كالخز ترجح الأول : وللثاني أجرة [ . . . ] فإن شهدتا بعين ذلك النسج لكما قضي بأعدلهما ؛ لأنه تكاذب ويسقطان مع التكافؤ ويأخذها الحائز مع يمينه ، وفي الموازية : دار بين حرين وعبد تاجر فهي بينهم أثلاثا أو العبد في أحدهما فهي بينهما نصفين ؛ لأن العبد في أحدهما ، أو هي بيد تاجرين وحر ، فادعاها العبدان لأنفسهما ، والحر لنفسه ، قسمت أثلاثا ، ولو كان السيد معهم في الدار وهما غير ما [ . . . ] قسمت بينهما وبين المدعي لنفسه نصفين ، ولم يكن للعبدين يد مع السيد ، فإن كان معه في الدار عبدان [ . . . ] أو زوار لم ينظر إلى عددهم ودعواهم إن كان هو الذي أحلهم في الدار معه ، وإن لم يكن في الدار نظرت إلى عددهم فإن كانوا أربعة أحدهم يدعيها لنفسه ، والباقون يدعونها للذي ليس معهم قسمت أربعة ، ربع للمدعي لنفسه ، والباقي لمن ادعاها له الباقون ، ولو كان معهم في الدار ، قسمت نصفين ، وزالت يد المدعين لغيرهم ، وإن قال الثلاثة : أكراها منا فلان وهي له ، فلا عبرة بكونه في الدار معهم أم لا ؛ لأن الكراء أوجب لهم يدا فصار للذي أسكنهم ثلاثة أرباعها ؛ لأنهم إن كانوا معه كانوا تحت يده كمتاع له في الدار ، ولم ينظر لعدد رءوسهم ، وإن لم يكن معهم صاروا حائزين دونه . فيقسم على الأعداد ، قال : وانظر إذا كان هو وعبده المأذون وأجنبي ولا دين على العبد ، هل هو بمنزلة المحجور وتقسم نصفين ، لأن يد العبد [ ص: 182 ] إذا كان عليه دين كالأجنبي ، لأن سيده لا يقدر على انتزاع ماله ، وإن كان لا دين عليه فقد يقال ، لأن يد السيد إذا كان معه أقولك السيد قال : الدار كلها لي دون عبدي ، وقوله يقبل عليه من الأجنبي ، يقول : كلها لي فتقسم بينهما نصفين ، وإن كان مأذونا له ، إن الأجنبي يقول : السيد مقر بما يوجب مقاسمتي إياه ، لقوله : الدار كلها لي ، عن أشهب في عبد بيدك ، وأقام آخر بينة أن قاضيا قضى له به ، وأقام آخر بينة كذلك ، وأقمت بينة أنه ملكه وولدك في ملكك ، قضي به لك ، إلا أن يزيدوا في الشهادة : أن القاضي قضى به له ؛ لأنه اشتراه منك ، أو من وكيلك أو ممن بعته إياه ، فإن شهد للآخر بذلك بقول البينة المؤرخة ، إلا أن يكون في شهادة غير المؤرخة أن القاضي قضى بهذا العبد لهذا فاقضي له به ، وإن ورختا قدمت المقدمة ، أو لم تؤرخا قسم بينهما بعد أيمانهما أو نكولهما ولا يمين على صاحب الولادة ، ومن نكل قضي عليه للآخر ، قال ابن القاسم : فإن أقمت بينة بولادتها في ملكك ، والآخر بينة أنه اشتراها به من المقاسم ؛ لأنه شأن الشراء من المقاسم ولو ثبت ملكه لمسلم .

                                                                                                                قال ابن يونس عن مالك : يقضى مع الاستواء في العدالة بأكثرهما عددا في الدعاوى إلا أن يكون هؤلاء كثيرا يكتفى بهم في الاستظهار ، والآخرون أكثر جدا فلا تراعى الكثرة بخلاف اثنين وأربعة ، وأما شاهدان وشاهد أعدل زمانه مع يمين ، قال ابن القاسم : يقضى بالشاهدين ، وعنه بالأعدل مع اليمين لمزيد العدالة ، وقال أصبغ : أقدم الأعدل مع اليمين على أربعة ، فإن كان في الأربعة اثنان أعدل منه قضيت بهما ، قال أشهب : الأعدل مع اليمين مقدم على الشاهدين ، قاله أصحاب مالك ، قال ابن القاسم : إذا جهلت البينتان لا يقضى بأعدل ممن زكاهما وإنما تعتبر الأعدلية في الشهود أنفسهم ، وعن مالك : التسوية [ ص: 183 ] في الترجيح ؛ لأنه يزيد الظن في المزكي ، وإذا شهدت أنه تركها من سنتين ، والأخرى أنها ولدت عنده ، فهذا تهاتر ، ويقضى بأعدلهما ، ويسقطان مع التساوي ، قال أشهب : يرجح بقول العبد : إني لأحدكما عبد ، في تساوي البينتين ، وهو في أيديكما ، وإلا اعتبر قوله في غير هذا ، إلا أن يقيما بينة فهو لمن أقر له بالملك بعد أن [ . . . ] الأرجح بقوله ، وإحدى البينتين أرجح ، وإن ادعيتما دارا بيد غيركما [ . . . ] أو استعارها فهي لك ، إلا أن يقيم الآخر بينة ، وهي لك أيضا عند تكافؤ البينتين [ . . . ] ويحلف مع التكافؤ ما لم يعلم لأحد فيها حق ، ولا يمين على المقر ؛ لأنه لو [ . . . ] يصدق ، فإن أقام الآخر بينتين أن الآخر أودعه إياها ، قدم المتقدم من الكراء وإلا من [ . . . ] قدمت بينته ، قال سحنون : إذا ثبت فلسه ، فأقمت بينة أن له دارا هو ساكنها ، وأقامت المرأة بينة أن الدار لها يقضى بأعدل البينتين ، فإن استوتا بقيت للزوج وبيعت في دينه ؛ لأن سكناه أغلب من سكناها ؛ لأن عليه إسكانها ، وحيث قسم المدعى لتساوي البينتين ، فأقام أحدكما بينة أعدل ، لم يرجع عليك بشيء ؛ لأنه حكم مضى ، قاله مطرف ، وقال عبد الملك : يرجع لبطلان سبب الحكم ، وقال سحنون في شاة مسلوخة بيدك وسقطها بيد آخر ، وتداعيتماها سقطها ، قضي للجميع بأعدل البينتين ، فإن استوتا تحالفتما ، فإن حلفتما أو نكلتما ، قضي لكل واحد بما في يديه ، أو نكل أحدكما ، قضي للآخر بما في يده ، فلو أقمت بينة أنها ولدت عندك ، وأنك ذبحتها وسلختها وأن السقط لك ، فالجواب سواء ، وإذا شهدوا أن أباك تصدق به عليه ، وشهدوا أنه لم يزل في يديه حتى تصدق به ، قال اللخمي : يحمل قوله في عدم الترجيح بالهذر ، على أن الكثرة لم تحصل بالعلم ، وإلا قدم العلم على الظن ، وعن جماعة من أصحابنا : لا ترجح بمزيد العدالة ، وإذا شهدتا بأن الدابة نتجت عندكما فهو تكاذب ، أرخت أم لا ، تقدم التاريخ أو اتحد ، ومتى [ ص: 184 ] شهدت بالنتاج في وقت لا يشبه قدم ، وإن شهدت أنك رهنته ما تحت يده ، وشهدت أخرى أنه اشتراه منك ، قال ابن القاسم : قدمت بينة الشراء إلا أن تشهد الأخرى أن الرهن بعد الشراء ، وقيل : يقضى بأعدلهما ، قال : والأول أصوب إلا أن يشهدا عن مجلس واحد فيقضى بالأعدل ، فإن استوتا قضي بالرهن ، لأن البينتين تسقطان ، ويبقى الإقرار ، وقال : شهدت للقائم بما وقع بعده من الشراء ، وإن تقدم الشراء كان قد غصب ملكه .

                                                                                                                تمهيد : في الجواهر : مدارك الترجيح أربعة : زيادة العدالة ، وقوة الحجة ، فيقدم الشاهدان على الشاهد واليمين ، وعلى الشاهد والمرأتين إذا استووا في العدالة ، قال أشهب : وقال ابن القاسم : لا يقدمن ، ولو كان الشاهد أعدل من حكم واحد منهما لحكم به على اليمين ، وقدم على الشاهد ، وعنه مثل أشهب ، والثالث : اليد ، فتقدم بينة صاحب اليد ، واشتمال أحد البينتين على زيادة تاريخ ، وإذا قدمتا بالأعدل ، فهل يقدم بأعدلية المزكي ، لم يعتبره ابن القاسم واعتبره مطرف .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية