فصل : فإذا تقرر ما وصفنا من القولين في الغاصب فحكم العامل إذا قارض مبني عليهما ؛ لأنه بالقراض غاصب فيصير ضامنا للمال ، وفي الربح قولان :
أحدهما : وهو القديم أن ربح المغصوب لرب المال ، فعلى هذا قال المزني هاهنا إن لرب المال نصف الربح ، والنصف الآخر بين العامل الأول والعامل الثاني .
واختلف أصحابنا في ذلك :
فكان أبو العباس بن سريج يقول : يجب أن يكون على هذا القول جميع الربح لرب المال ؛ لأنه ربح مال مغصوب فأشبه المغصوب من غير مقارضة ، فإذا أخذ رب المال ماله وربحه كله رجع العامل الثاني على العامل الأول بأجرة مثله ؛ لأنه هو المستهلك لعمله والعامل له بقراضه .
فلو تلف المال في يد العامل الثاني كان ربه بالخيار في الرجوع برأس ماله وجميع ربحه على من شاء من العامل الأول ، أو العامل الثاني ؛ لأن الأول ضامن بعدوانه ، والثاني ضامن بيده .
[ ص: 338 ] فإن أغرم الأول لم يرجع على الثاني بشيء ؛ لأنه أمينه فيما غرمه ، وإن أغرم الثاني رجع على الأول بما غرمه مع أجرة مثل عمله .
ولا يلزم رب المال - وإن أخذ جميع الربح - أن يدفع إلى واحد من العاملين أجرة المثل لإجراء حكم الغصب عليهما بالمخالفة .
وذهب أبو إسحاق المروزي وأبو علي بن أبي هريرة وجمهور أصحابنا إلى أن ما رواه المزني على هذا القول صحيح ، وأن رب المال ليس له من الربح إلا نصفه بخلاف المأخوذ غصبا محضا ؛ لأن رب المال في هذا الموضع دفع المال راضيا بالنصف من ربحه وجاعلا نصفه الباقي لغيره ، فذلك لم يستحق منه إلا النصف .
فأما النصف الباقي فقد روى المزني أنه يكون بين العاملين .
واختلف أصحابنا في ذلك على وجهين :
أحدهما : وهو قول أبي إسحاق المروزي أن هذا خطأ من المزني في نقله ، ويجب أن يكون النصف الباقي من الربح للعامل الأول ، ولا حق فيه للثاني لفساد عقده ويرجع على الأول بأجرة مثل عمله ، فيجعل الربح بين رب المال ، والعامل الأول ، ويجعل للثاني أن يرجع بأجرة مثله على الأول .
والوجه الثاني : وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أن نقل المزني صحيح ، ويكون النصف الباقي من الربح بين العاملين نصفين على شرطهما ؛ لأنه لما جرى على العامل الأول حكم القراض مع رب المال ، جرى على العامل الأول حكم القراض مع العامل الثاني فصار النصف الباقي بينهما على سواء ، ولا شيء للعامل الثاني على الأول فيما أخذه رب المال من نصف الربح ؛ لأنه باستحقاق رب المال بألف منهما ، ويصيرا كأنه لا ربح لهما إلا النصف الباقي ، فهذا حكم قوله في القديم .
والقول الثاني : وهو الجديد أن ربح المال المغصوب للغاصب ، فعلى هذا لا شيء لرب المال في الربح ، وله مطالبة أي العاملين شاء برأس ماله ؛ لأن كل واحد منهما ضامن ، أما الأول فبعدوانه ، وأما الثاني فبيده .
فأما الربح فقد قال المزني : يكون للعامل الأول ، وعليه للثاني أجرة مثله . واختلف أصحابنا فيه على وجهين :
أحدهما : وهو محكي أن المزني مخطئ في نقله ، والربح كله للعامل الثاني دون الأول ؛ لأنه إذا صار الربح تبعا للعمل ، وبطل أن يكون تبعا للمال وجب أن يكون للثاني الذي له العمل دون الأول الذي ليس له عمل .
[ ص: 339 ] والوجه الثاني : وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أن المزني مصيب في نقله ، والربح للعامل الأول دون الثاني ، وللثاني عليه أجرة المثل ؛ لأنه اشتراه في قراض فاسد ، والعامل في القراض الفاسد لا يملك ربحه وإن فسد قراضه ؛ لأنه اشتراه لغيره وإنما يستحق بفساد العقد أجرة مثله كمن استأجر أجيرا ليصيد له ويحتش إجارة فاسدة ، فصاد الأجير واحتش ، كان الصيد والحشيش للمستأجر دون الأجير ؛ لأنه فعل ذلك لمستأجره لا لنفسه ويرجع عليه بأجرة مثله .
فهذا حكم قوله في الجديد .
فتخرج في الربح على ما شرحنا من حكم القولين خمسة مذاهب :
أحدها : أن جميع الربح لرب المال ، ولا شيء فيه للعاملين ، وهذا مذهب أبي العباس بن سريج على قوله في القديم .
والثاني : أن نصف الربح لرب المال ، والنصف الآخر للعامل الأول ، وللعامل الثاني على العامل الأول أجرة مثله . وهذا مذهب أبي إسحاق المروزي على قوله في القديم .
والثالث : أن نصف الربح لرب المال ، والنصف الباقي بين العاملين نصفين وهذا مذهب أبي علي بن أبي هريرة على قوله في القديم .
والرابع : أن الربح كله للعامل الثاني ، ولا شيء فيه لرب المال ، ولا للعامل الأول ، وهذا مذهب محكي على قوله في الجديد .
والخامس : أن الربح كله للعامل الأول ، ولا شيء فيه لرب المال ، ولا للعامل الثاني ، بل يرجع بأجرة مثله على العامل الأول ، وهذا مذهب أبي علي بن أبي هريرة على قوله في الجديد .