الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال الرازي: (والمسلك الرابع: الاستدلال بحدوث الصفات والأعراض على وجود الصانع، ولنفرض الكلام في أعراض لا يقدر عليها بشر، مثل صيرورة النطفة المتشابهة الأجزاء إنسانا، فإذا كانت تلك التركيبات أعراضا حادثة، والعبد غير قادر عليها، فلا بد من فاعل آخر، ثم من ادعى أن العلم بحاجة المحدث إلى الفاعل ضروري ادعى الضرورة ههنا، ومن بنى ذلك على الإمكان أو على القياس على حدوث الذوات، فكذلك يقول في حدوث الصفات) .

قال: (والفرق بين الاستدلال بإمكان الصفات وبين الاستدلال بحدوثها، أن الأول يقتضي أن لا يكون الفاعل جسما. والثاني لا يقتضي ذلك) .

قلت: قد ذكرنا في غير موضع أن هذا المسلك صحيح، لكن [ ص: 232 ] الرازي قصر فيه من وجهين: أحدهما: أنه لا يستدل بنفس الحدوث، بل يجعل الحدوث دليلا على إمكان الحادث، ثم يقول: والممكن لا بد له من مرجح، وهذا الإمكان الذي يثبته هو الإمكان الذي يثبته ابن سينا، وهو الإمكان الذي يشترك فيه القديم والحادث، فجعل القديم الأزلي ممكنا يقبل الوجود والعدم، وهذا مما خالفوا فيه سلفهم وسائر العقلاء، فإنهم متفقون على أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثا.

وابن سينا وأتباعه يوافقون الناس على ذلك، لكن يتناقضون وقد بسط الكلام على ذلك في مواضع، كما تكلمنا على ذلك فيما ذكره الرازي في إثبات الصانع في أول "المطالب العالية" وأول "الأربعين" وبينا فساد ذلك، وأنه على هذا التقدير لا ينفى لهم دليل على إثبات واجب الوجود.

الوجه الثاني: أنه جعل ذلك استدلالا بحدوث الصفات والأعراض ليس بمستقيم، بل هو مبني على مسألة الجوهر الفرد.

وقد ذكرنا في غير موضع أن هؤلاء بنوا مثل هذا الكلام على مسألة الجوهر الفرد، وأن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة، وأن الحادث إنما هو اجتماع الجواهر وافتراقها، وحركتها وسكونها، وهذه الأربعة هي الأكوان عندهم، أو حدوث غير ذلك من الأعراض، فيجعلون تبديل الأعيان وإحداثها إنما هو تبديل أعراض. [ ص: 233 ]

وقد قابلهم في ذلك طائفة من المتفلسفة، كابن سينا وأمثاله، فجعلوا الصور كلها جواهر، كما جعل أولئك الصور كلها أعراضا. وذلك أن هؤلاء المتفلسفة نظروا في المصنوعات: كالخاتم، والدرهم، والسيف، والسرير، والبيت، والثور، ونحو ذلك مما يؤلفه الآدميون ويصورونه، فوجدوها مركبة من مادة كالفضة، ويسمونها أيضا الهيولى، والهيولى في لغتهم معناه المحل، وتصرفهم فيه بحسب عرفهم الخاص، كتصرف متكلمي العرب في اللغة المعربة، فهذه المصنوعات مركبة من مادة هي المحل، ومن صورة وهي الشكل الخاص، وهذا نظر صحيح.

ثم زعموا أن صور الحيوان والنبات والمعدن لها مادة هي هيولاها كذلك، وأن النار والهواء والتراب لها أيضا مادة هي هيولاها. ومنهم من قال: جميع الأجسام لها مادة مشتركة هي هيولاها، وجعلوا الهيولى ثلاث مراتب. صناعية وطباعية وكلية، وتنازعوا: هل تنفرد المادة الكلية عن الصور، فتكون الهيولى مجردة عن الصور؟ على قولين:

وإثبات هذه المادة المجردة يذكر عن شيعة أفلاطن، وإنكار ذلك قول أصحاب أرسطو.

التالي السابق


الخدمات العلمية