الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والخوارج الذين تأولوا آيات من القرآن وكفروا من خالفهم فيها أحسن حالا من هؤلاء، فإن أولئك علقوا الكفر بالكتاب والسنة، لكن غلطوا في فهم النصوص، وهؤلاء علقوا الكفر بكلام ما أنزل الله به من سلطان.

ولهذا كان ذم السلف للجهمية من أعظم الذم، حتى قال عبد الله بن المبارك: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. [ ص: 244 ]

بل الحق أنه لو قدر أن بعض الناس غلط في معان دقيقة لا تعلم إلا بنظر العقل، وليس فيها بيان في النصوص والإجماع، لم يجز لأحد أن يكفر مثل هذا، ولا يفسقه، بخلاف من نفى ما أثبتته النصوص الظاهرة المتواترة، فهذا أحق بالتكفير، إن كان المخطئ في هذا الباب كافرا.

وليس المقصود هنا بيان مسائل التكفير، فإن هذا مبسوط في موضع آخر، ولكن المقصود أن عمدة المعارضين للنصوص النبوية أقوال فيها اشتباه وإجمال، فإذا وقع الاستفسار والاستفصال تبين الهدى من الضلال.

فإن الأدلة السمعية معلقة بالألفاظ الدالة على المعاني، وأما دلالة مجرد العقل فلا اعتبار فيها بالألفاظ.

وكل قول لم يرد لفظه ولا معناه في الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة فإنه لا يدخل في الأدلة السمعية، ولا تعلق للسنة والبدعة بموافقته ومخالفته، فضلا عن أن يعلق بذلك كفر وإيمان، وإنما السنة موافقة الأدلة الشرعية، والبدعة مخالفتها.

وقد يقال عما لم يعلم أنه موافق لها أو مخالف: إنه بدعة، إذ الأصل أنه ما لم يعلم أنه من الشرع فلا يتخذ شريعة ودينا، فمن عمل عملا لم يعلم أنه مشروع فقد تذرع إلى البدعة، وإن كان ذلك العمل تبين له فيما بعد أنه مشروع، وكذلك من قال في الدين قولا بلا دليل شرعي، فإنه تذرع إلى البدعة، وإن تبين له فيما بعد موافقته للسنة.

والمقصود هنا أن الأقوال التي ليس لها أصل في الكتاب والسنة والإجماع ـ كأقوال النفاة التي تقولها الجهمية والمعتزلة وغيرهم، وقد يدخل فيها ما هو حق [ ص: 245 ] وباطل ـ هم يصفون بها أهل الإثبات للصفات الثابتة بالنص، فإنهم يقولون: كل من قال: (إن القرآن غير مخلوق) أو (إن الله يرى في الآخرة) أو (إنه فوق العالم) فهو مجسم مشبه حشوي.

وهذه الثلاثة مما اتفق عليها سلف الأمة وأئمتها، وحكى إجماع أهل السنة عليها غير واحد من الأئمة والعالمين بأقوال السلف، مثل أحمد بن حنبل وعلي بن المديني، وإسحاق بن إبراهيم، وداود بن علي، وعثمان بن سعيد الدارمي، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة وأمثال هؤلاء.

ومثل عبد الله بن سعيد بن كلاب وأبي العباس [ ص: 246 ] القلانسي وأبي الحسن الأشعري وأبي الحسن علي بن مهدي الطبري، ومثل أبي بكر الإسماعيلي، وأبي نعيم الأصبهاني، وأبي عمر بن عبد البر، وأبي عمر [ ص: 247 ] الطلمنكي ويحيى بن عمار السجستاني، وأبي إسماعيل الأنصاري، وأبي القاسم التميمي، ومن لا يحصي عدده إلا الله من أنواع أهل العلم.

فإذا قال النفاة من الجهمية والمعتزلة وغيرهم: لو كان الله يرى في الآخرة لكان في جهة، وما كان في جهة فهو جسم، وذلك على الله محال، أو قالوا: لو كان الله تكلم بالقرآن، بحيث يكون الكلام قائما به، لقامت به الصفات والأفعال، وذلك يستلزم أن يكون محلا للأعراض والحوادث، وما كان محلا للأعراض والحوادث، فهو جسم، والله منزه عن ذلك؛ لأن الدليل على إثبات الصانع إنما هو حدوث العالم، وحدوث العالم إنما علم بحدوث الأجسام، فلو كان جسم ليس بمحدث لبطلت دلالة إثبات الصانع.

فهذا الكلام ونحوه هو عمدة النفاة من الجهمية والمعتزلة وغيرهم، ومن وافقهم في بعض بدعتهم، وهذا ونحوه في العقليات التي يزعمون أنها عارضت نصوص الكتاب والسنة. [ ص: 248 ]

فيقال لهؤلاء: أنتم لم تنفوا ما نفيتموه بكتاب ولا سنة ولا إجماع، فإن هذه الألفاظ ليس لها وجود في النصوص، بل قولكم: «لو رؤي لكان في جهة، وما كان في جهة فهو جسم، وما كان جسما فهو محدث» كلام تدعون أنكم علمتم صحته بالعقل، وحينئذ فتطالبون بالدلالة العقلية على هذا النفي، وينظر فيه بنفس العقل.

التالي السابق


الخدمات العلمية