الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وعمدة من نفى الأفعال والصفات من أهل الكلام الجهمية والمعتزلة، ومن اتبعهم على هذه الحجة التي زعموا أنهم يقررون بها حدوث العالم وإثبات الصانع، فجعلوا ما قامت به الصفات أو الأفعال محدثا، حتى يستدلوا بذلك على أن العالم محدث، ويلزم من ذلك أن لا يقوم بالصانع لا الصفات ولا الأفعال.

وإذا تدبر العاقل الفاضل تبين له أن إثبات الصانع وإحداثه للمحدثات لا يمكن إلا بإثبات صفاته وأفعاله، ولا تقطع الدهرية من الفلاسفة وغيرهم قطعا تاما عقليا لا حيلة لهم فيه، إلا على طريقة السلف أهل الإثبات للأسماء والأفعال والصفات، وأما من نفى الأفعال أو نفى الصفات فإن الفلاسفة الدهرية تأخذ بخناقه، ويبقى حائرا شاكا مرتابا مذبذبا، بين أهل الملل المؤمنين بالله ورسوله وبين هؤلاء الملاحدة، كما قال تعالى في المنافقين: مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء [النساء: 143] . [ ص: 376 ]

وهذا موجود في كلام عامة هؤلاء الذين في كلامهم سنة وبدعة، ولا ريب أنهم يردون على الفلاسفة وغيرهم أمورا، ولكن الفلاسفة ترد عليهم أمورا، وهم ينتصرون في غالب الأمر بالحجة العقلية على الفلاسفة، أكثر مما تنتصر الفلاسفة بالحجة العقلية عليهم، ولكن قد تقول الفلاسفة أمورا باطلة من جنس العقليات فيوافقونهم عليها فيستطيلون بها عليهم، وقد تقول الفلاسفة أمورا صحيحة موافقة للشريعة فيردونها عليهم، وهم لا يصيبون الصدق والعدل إلا إذا وافقوا الشريعة، فإذا خالفوها كان غايتهم أن يقابلوا الفاسد بالفاسد، والباطل بالباطل، فتبقى الفلاسفة العقلاء في شك، ويبقى العقلاء منهم في شك، لا حصل لهؤلاء نور الهدى ولا لهؤلاء.

وإنما يحصل النور والهدى بأن يقابل الفاسد بالصالح، والباطل بالحق، والبدعة بالسنة والضلال بالهدى، والكذب بالصدق.

وبذلك يتبين أن الأدلة الصحيحة لا تعارض بحال، وأن المعقول الصريح مطابق للمنقول الصحيح.

وقد رأيت من هذا عجائب، فقل أن رأيت حجة عقلية هائلة لمن عارض الشريعة، قد انقدح لي وجه فسادها وطريق حلها، إلا رأيت بعد ذلك من أئمة تلك الطائفة من قد تفطن لفسادها وبينه. [ ص: 377 ]

وذلك لأن الله خلق عباده على الفطرة، والعقول السليمة مفطورة على معرفة الحق، لولا المعارضات، ولهذا أذكر من كلام رؤوس الطوائف من العقليات ما يبين ذلك، لا لأنا محتاجون في معرفتنا إلى ذلك، لكن ليعلم أن أئمة الطوائف معترفون بفساد هذه القضايا، التي يدعي إخوانهم أنها قطعية، مع مخالفتها للشريعة، ولأن النفوس إذا علمت أن ذلك القول قاله من هو من أئمة المخالفين، استأنست بذلك واطمأنت به، ولأن ذلك يبين أن تلك المسألة فيها نزاع بين تلك الطائفة، فتنحل عقد الإصرار والتصميم على التقليد.

فإن عامة الطوائف ـ وإن ادعوا العقليات ـ فجمهورهم مقلدون لرؤوسهم، فإذا رأوا الرؤوس قد تنازعوا واعترفوا بالحق، انحلت عقدة الإصرار على التقليد.

التالي السابق


الخدمات العلمية